صحيفة التغيير السودانية:
2025-02-28@04:51:16 GMT

قضية العلمانية والتصويب خارج المرمى

تاريخ النشر: 28th, February 2025 GMT

قضية العلمانية والتصويب خارج المرمى

جمال عبد الرحيم صالح

بداية ينبغي التوضيح بأن الكاتب من دعاة فصل الدين عن الدولة، بلا مواربة، وقد قدم للمكتبة السودانية بحثاً عن هذه المسألة بعنوان “الدين والدولة – مشروع رؤية لفض الاشتباك” من إصدار دار المصورات عام 2022.

لدى الكاتب قناعة بأنه إذا كانت الدعوة للعلمانية تعني أن تكون الدولة على مسافة واحدة من جميع مواطنيها، غض النظر عن أديانهم وثقافاتهم وأعراقهم، فإن معظم دساتير السودان، من دستور 1956 وحتى دستور الإسلاميين عام 2005، اشتملت على تلك المبادئ، بل إن دستور 2005 مضى أبعد عن ذلك في تأكيد تلك المبادئ (راجع دستور 2005).

إذن هنالك خلل ما يجب تصحيحه؛ إذ ليس هناك أكثر دلالة على عمق هذا الخلل، من أن معظم الاتفاقيات والمواثيق التي تداولتها أيدي الساسة السودانيين بمختلف مشاربهم، ابتداءً من البيان الختامي لمؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية، تضمنت تلك المبادئ “العلمانية”. بيد أن معظم القوى الرئيسية الموقعة على تلك المواثيق (خاصة الحزبين الكبيرين) ربطت ذلك لاحقاً بما أطلق عليه “المؤتمر الدستوري”!

وهنا لا بد لنا أن نسأل أنفسنا سؤالاً مباشراً وواضحاً: إذا كانت تلك القوى السياسية متفقة على مبادئ العلمانية الأساسية، وهي أن تقف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان، وأن السلطة للشعب يمارسها عبر إنتخابات حرة ونزيهة؛ لماذا، إذن، ظهر مفهوم “المؤتمر الدستوري” في حياتنا السياسية منذ عهد بعيد خاصة وأن دستور 2005، المعترف به من القوة الأساسية المناهِضة لشعار “العلمانية”، وأعني إسلاميي المؤتمر الوطني، يشمل ذات المبادئ المعلنة في البيان الختامي لمؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية؟! لماذا الإصرار ذلك المؤتمر لمعالجة مسألة متفق حولها؟

الرأي عندي، أن إحالة الأمر للمؤتمر المنشود، إنما ناتج من الخوف “البنيوي” لدى الحزبين الكبيرين، من الابتزاز الشديد الذي سيتعرضا له من إسلامويي المؤتمر الوطني، في حالة رفعهم لشعارات مثل العلمانية أو فصل الدين عن الدولة، وتأثير ذلك على جماهيرها التي استقطبتها أساساً على محمولات دينية.

لو رجعنا للماضي بعض الشيء، في محاولة لتفسير ذلك الارتباك، سنجد أن الدافع الرئيسي لنشوء الحركة الشعبية لم يكن موقفاً من دستور 1973 العلماني، وإنما كان بسبب ما يسمى بقوانين سبتمبر التي صدرت تحت مظلته! وما إصرار حركتي الحلو وعبد الواحد على علمانية الدستور إلا رفضاً منهم لتلك القوانين، التي يقوم مقامها حالياً القانون الجنائي لسنة 1991، وبالذات ما يسمى بالعقوبات الحدية. نفهم من ذلك، أن القضية الأساسية التي ينبغي مناقشتها أو التحاور حولها، هو موضوع علاقة الدين بالقوانين وبالذات القانون الجنائي، وليس وقوف الدولة على مسافة واحدة، ذلك المبدأ الذي لا يوجد اختلاف أصلاً حوله، بمن في ذلك إسلامويي المؤتمر الوطني!

هل يعني الاتفاق على علمانية الدولة إبعاد الدين عن مصادر التشريع؟ بالتأكيد لا! هناك قوانين مرتبطة بمعتقدات الناس، سواء مسلمين، أو مسيحيين، أو من معتقدي كريم المعتقدات؛ وهي قوانين الأحوال الشخصية. صحيح أن بعضها يحتاج لتطوير ليتماهى مع قيم وأنماط حياة مستجدة، بيد أن ذلك لا يلغي ارتباطها بالمعتقد سواء تحدثنا عن المسلمين أو المسيحيين أو المعتقدين في ديانات أو ثقافات أخرى، وما أكثرهم. هذه نقطة هامة للغاية، وينبغي وضعها في دائرة الانتباه ونحن نتجادل حول ماذا تعني علمانية الدستور.

للخروج من ذلك الجدل الدائري حول مسألة العلمانية، أرى أن على خطابنا السياسي والفكري والإعلامي، الاتجاه نحو معالجة تلك الجزئية، أي علاقة الدين بالقانون، وليس علاقة الدين بالدولة. من وجهة نظري أنه إذا تم التصويب على ذلك الهدف سنختصر الكثير من الجدل، علماً بأن الإسلاميين، وحتى هذا الجانب، أي القانون الجنائي، لا يملكون أي حجة على الآخرين يبتزونهم من خلالها! فهناك شواهد، لا تقبل الجدل، بأن الإسلامويين أنفسهم نفضوا أيديهم عن ذلك القانون نظرياً وعملياً وتجاوزوا في ذلك ثوابت استقرت منذ أكثر من ألف عام، من أمثلة ذلك التجاوز الجرئ، من صلب القانون الجنائي السوداني الحالي والمتضمن للعقوبات الحدية:

* لا يميز القانون بين المسلم وغيره في الشهادة.

* لا يوجد تمييز في الدية بين المرأة والرجل، أو بين المسلم وغير المسلم.

* أضاف القانون الجنائي شرطاً لتطبيق حد السرقة جعل من المستحيل تطبيق ذلك الحد.

* جعل تحديد قيمة الدية، في القتل الخطأ مثلاً، مرتبطاً بتقديرات رئيس القضاء متجاوزاً القاعدة المعروفة وهي عدد مئة من الإبل.

* ما تم تنفيذه من بتر للأعضاء (فيما يخص الحدود والقصاص) لم يتجاوز العشرة حالات، حسب المعلومات المتوفرة للكاتب، في خلال الخمسة والثلاثون عاما.ً

* تحايلت حكومة الإنقاذ على مادة “حد الردة” بوسائل مختلفة في إتجاه عدم تطبيقها، والذي يعني ضمناً عدم قناعتها به (أمثلة: قضيتي السيدة أبرار والسيد البارون).

بالنظر لكل تلك الحقائق، نرى أن تجاوز العقبات فيما يخص مسألة العلمانية، أو فصل الدين عن الدولة، أمر قابل للتحقق بدون دفع أثمان باهظة، وكل المطلوب، في نظر الكاتب، أن يتم الخروج من ذلك الجدال الدائري، ومخاطبة القضية الحقيقية التي هي مسألة علاقة الدين بالقانون.

الوسومجمال عبد الرحيم صالح

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: القانون الجنائی علاقة الدین الدین عن

إقرأ أيضاً:

صلاح الدين الأيوبي قائد كردي وحد العالم الإسلامي وأوقف المد الصليبي وحرر الأقصى

قائد إسلامي، حكم نحو 20 عاما، وحّد فيها العالم الإسلامي ووقف في وجه الصليبيين، فاستعاد منهم 77 مدينة، وعمل على تعزيز المذهب السني بإحياء الخلافة العباسية فور توليه وزارة الدولة الفاطمية آخر أيامها، وحينئذ أعلن ولاءه لسلطان حلب نور الدين زنكي، الذي عينه نائبا له في مصر.

توفي زنكي فاستقلّ صلاح الدين الأيوبي، وأعلن نفسه سلطانا على مصر، ورفع راية الجهاد ضد الصليبيين، وزحف إلى الشام لتحريرها، فدخل دمشق ثم حمص وحماة وبعلبك، واستطاع بعدها ضم حلب وما حولها، ثم وجّه جيوشه لقتال الصليبيين، فهزمهم في معركة حطين وبدأ بعدها مُلك الصليبيين بالتساقط تباعا، حتى حاصر صلاح الدين بيت المقدس وحررها عام 1187 ميلادية، وصار سلطانا على مصر والشام.

أعلنت أوروبا النفير ودعت للثأر والانتقام للوقوف أمام جيش الأيوبي، الذي صمد وأوقع بالفرنجة الهزائم، فطلبت منه الصلح، وفي تلك الفترة مرض ولزم فراشه حتى وافته المنية في مارس/آذار 1193 ميلادية، ولم يترك وراءه إرثا، سوى دينارا و47 درهما، ودولة إسلامية موحدة.

صلاح الدين الأيوبي برع مثل أبيه في لعبة الجوكان (الجزيرة-ميدجورني) مولده ونسبه وعائلته

ولد صلاح الدين الأيوبي باسم يوسف بن أيوب عام 532هـ (1137م) في تكريت إحدى قرى الأكراد، التي تقع على ضفاف نهر دجلة بالقرب من بغداد. ورأت أمه يوم ولادته أن رجلا يقول لها "ستلدين سيفا من سيوف الله عز وجل".

واسمه الكامل صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب بن شادين بن مروان بن يعقوب الدويني التكريتي، وهذا اللقب الأخير نسبة إلى قلعة تكريت التي ولد فيها وكان والده نجم الدين أيوب الوالي عليها.

والأيوبي كردي، وعائلته من أشرف الأكراد نسبا، إذ لم يجر على أحد منهم رق قط، وينتمي لعشيرة الروادية التي تنحدر من بلدة دوين في أذربيجان بالقرب من مدينة تفليس الأرمينية.

إعلان

وكانت عائلته معروفة بمكانتها وحنكتها السياسية، فجده شادي تولى منصبا إداريا في قلعة تكريت، إحدى أهم الإقطاعات لبهروز خادم الأمير السلجوقي محمد ملك شاه، وعلا في المناصب حتى وليّ وظيفة قائد الشِّحنَة (قوات خاصة لحفظ الأمن الداخلي للدولة).

خَلَف شادي ابنه نجم الدين، وخدم السلطان السلجوقي محمد ملك شاه، الذي رفع من شأنه وأكرمه فولّاه قلعة تكريت، وكان عم صلاح الدين الأيوبي، أسد الدين شيركوه، من الأمراء المقدمين عند السلاجقة الذين أقطعوه إقطاعا قدرت قيمته بـ900 دينار سنويا في تكريت.

نشأته

رافق يوم ولادة صلاح الدين، حدث صعب على أسرته وأسرة عمه، فيومها أمرهم والي بغداد بهروز بمغادرة تكريت خوفا عليهم، بعد أن قَتَل عمه أسد الدين شيركوه أحد قادة القلعة لإيذائه امرأة في شرفها.

خرجت العائلتان من القلعة مكرهتين باتجاه الموصل، ونجم الدين ينظر لابنه الرضيع بشؤم مستشعرا الظروف السيئة التي رافقتهم مع ولادته، فهمّ بقتله، لولا أن أحد أتباعه أقنعه بالعدول عن الفكرة، قائلا له إنما هذا قدر ولا ذنب للطفل به، وأضاف "ما يدريك أن يكون لهذا الطفل ملك عظيم الصِّيت، جليل المقدار، ولعلَّ الله جاعل له شأنا".

نزلت الأسرتان ومن معهما عند عماد الدين زنكي، واستقبلهم بترحيب كبير، محاولا رد جميل أسرة الأيوبي التي أنقذته من شفا حفرة الموت، بينما كان في معركة ضد السلجوقيين عند قلعة تكريت، وهمّ أعداؤه بقتله، فأمّن له نجم الدين وشيركوه طريقا للفرار نحو الموصل.

توطدت العلاقة بين زنكي وعائلة الأيوبي، وصار والد صلاح الدين وعمه من أبرز قادة الدولة الزنكية، وأقطع لهما الأمير أرضا يعيشان عليها. ولم تفتر العلاقة بين الأسرة الأيوبية وعائلة زنكي حتى بعد مقتل أميرها، فقد استمرت مع تولي نور الدين محمود زنكي الحكم بعد أبيه.

وبمساعدة الأيوبيين، استطاع زنكي الابن ضم دمشق لملكه، وهناك ترعرع وكبر صلاح الدين، وتلقى تعليمه الديني وفنون الفروسية.

إعلان

وعام 534هـ، فتح نور الدين زنكي مدينة بعلبك وعيّن والد صلاح الدين حاكما عليها لكنه حوصر وقتا طويلا من حاكم دمشق، إلى أن تم الصلح، وانتقل بعدها نجم الدين إلى دمشق ليصبح من كبار أمرائها.

تكوينه العسكري والسياسي

وبين بعلبك ودمشق نشأ وترعرع صلاح الدين، وتلَّقى العلوم الإسلامية، ومارس فنون الفروسية والقتال والصيد والرَّمي بالسهام، وبرع كأبيه في لعبة الجوكان، وهي لعبة رياضية أصلها شرقي، يمارسها الَّلاعبون وهم على ظهور الخيل.

وعايش الأيوبي اعتداءات الصليبيين ومحاولاتهم المستميتة في احتلال الأراضي الإسلامية، ووعى على جهود أبيه وعمه في صد الفرنجة وتمددهم في الشام، ما ترك في نفسه أثرا بليغا، وغرس لديه قيمة هذه الأرض، فعاش بقية حياته مدافعا عنها.

ولازم الأيوبي عمه شيركوه، الذي رافق نور الدين زنكي مع توليه حكم الزنكيين خلفا لأبيه، وأثناءها برزت قدرات صلاح الدين العسكرية والإدارية، فارتفعت مكانته عند زنكي، وتعلم منه صلاح الدين الكثير وتأثر به في الأمر بالمعروف والسير في طريق الجهاد.

انتقل صلاح الدين مع عمه إلى مصر التي صار شيركوه آمرها، وابن أخيه يعمل عنده، وتهيأ الشاب الذي تأثر ببراعة أبيه السياسية، وشجاعة عمه في الحروب، وملك قدرا من الدهاء السياسي، وروحا حربية تقدس الجهاد، لتولي منصب أعلى.

تكوينه الديني

تعلَّم الأيوبي علوم عصره وتتلمذ على أيدي كبار العلماء وأساتذة منطقة الشام والجزيرة حينئذ، وحفظ القرآن ودرس الفقه وعلوم الحديث، وكان ممن تعلم على أيديهم قطب الدين النيسابوري.

كما تأثر الأيوبي بالقصص التي كان يقص عليه والده عن مجاهدي الإسلام وأبطاله، وكان ممن ترك أثرا بالغا في نفسه، القائد نور الدين زنكي، الذي ورث عنه قيادة المشروع الإسلامي وحبه للجهاد وغيرته على دينه، ونهج أسلوبه في "التصدِّي للمد الرافضي" و"الغزو الصليبي" كما يروى عنه.

إعلان

وتعلم الأيوبي عقيدة أهل السنة والجماعة، وكان يحفظها لأولاده الصغار عثمان وعمر وأبو بكر، وعرف عنه أنه ما ترك صلاة الجماعة لسنين، كما يذكر قاضيه ابن شداد، وأن الزكاة لم تجب عليه، إذ لم يجمع مالا قط.

تجربته السياسية والعسكرية

تولى صلاح الدين منصب رئاسة الشرطة في المدة التي مكثها في دمشق، واستطاع إعادة استقرارها وأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم.

وبرزت حنكته الحربية عندما ساعد عمه شيركوه في حملاته العسكرية الثلاث على مصر سنة 559 هجرية، فصار عمه وزيرا على مصر باسم السلطان زنكي وعينه الخليفة الفاطمي العاضد وزيرا له، وعقب أشهر قليلة، توفى شيركوه وخلفه صلاح الدين، وعمره حينئذ 32، وأصبح وزيرا للخليفة الفاطمي ونائبا عن زنكي.

في تلك الفترة هاجم الصليبيون دمياط، مستغلين اضطراب الأوضاع الداخلية في مصر، فأرسلوا أسطولا ضخما محملا بالجنود والمعدات في محاولة للاستيلاء على المدينة، لكن الأيوبي استطاع صدهم وإلحاق الخسائر بهم مما عزز من مكانته قائدا عسكريا.

بعد وفاة الخليفة الفاطمي العاضد عام 567 هجرية، أعلن الأيوبي انتهاء حكم الفاطميين في مصر وبايع الخليفة العباسي "المستضيء" ودعا له على منابر مصر، وبذلك أسدل الستار على الدولة الفاطمية نهائيا.

توفي نور الدين زنكي سنة 569 هجرية، مما أدى إلى اضطراب الأوضاع في الشام والجزيرة، وانتشرت الفوضى بين أمراء الزنكيين، فدعي الأيوبي لتولي زمام الأمور، فدخل دمشق حيث استُقبل بحفاوة عام 570 هجرية، ثم واصل مسيرته نحو الشمال، فاستولى على بعلبك وحمص وحماة، وترك حلب للملك إسماعيل نور الدين حفاظا على وحدة المسلمين.

حكم الدولة وإحياء الدولة العباسية

حمل صلاح الدين الأيوبي راية التحرير بعد موت نور الدين زنكي، وجعل نصب عينيه توحيد مصر والشام والموصل، وقطع الاتصال بين الصليبيين والغرب، وجهّز خطة لطرد المستعمر الصليبي من بلاد المسلمين، بدأها بعقد هدنة معهم 4 سنوات حتى يتمكن من توحيد صفوفه وحشد قواته.

إعلان

نقض أرناط حاكم الكرك الهدنة بالاستيلاء على قافلة تجارية كانت متجهة من مصر إلى دمشق وأسر رجالها، ولما استغاثوا ليتركهم، قال لهم "ليجركم محمد" مستهزئا بنبي الإسلام، فأرسل إليه صلاح الدين لكي يرد القافلة ويطلق سراح الأسرى لكنه رفض، فنذر الأيوبي إن تمكن منه ليقتلنه.

بعد وفاة الملك بلدوين الخامس عام 582 هجرية، أحد ملوك مملكة بيت المقدس، شبّ صراع حاد بين الملوك الصليبيين حول الحكم ونشبت الصراعات الداخلية، فاستغل صلاح الدين تلك الظروف وعقد تحالفات شق بها صفوف الصليبيين، وبدأ يجهز جيوشه في مصر والموصل والشام.

ويروي ابن شداد قاضي الأيوبي أن صلاح الدين مرض مرضا شديدا، فنصحه القاضي عبد الرحيم البيساني إن شافاه الله أن يوجه كل همه لتحرير القدس، فقال ابن شداد "أحلف بالله غير حانث أن صلاح الدين الأيوبي بعد أن شفاه الله من مرضه نذر كل وقته للجهاد في سبيل الله عز وجل، وما أنفق درهما بعد شفائه إلا في الجهاد".

فلما شفاه الله من مرضه أعلن النفير العام في بلاد المسلمين لتحرير المقدس، ورغم أن شداد أخبره بالاكتفاء بإرسال جنوده لأنه "سور الإسلام ومنعته" ولخطورة عبوره البحار، رد الأيوبي عليه قائلا "أي الموتتين أشرف: القتل في سبيل الله عز وجل أم غيره؟" أجاب ابن شداد "الموت في سبيل الله عز وجل" فرد الأيوبي "يكفيني أشرف الموتتين".

مؤامرة عمارة اليمني لاغتياله

بعد أن أعلن الأيوبي نهاية الخلافة الفاطمية في مصر وأعادها تحت مظلة الخلافة العباسية، لم يرق ذلك لأنصار الدولة الفاطمية المنهارة، الذين وجدوا في إزاحته فرصة لإعادة دولتهم، وتصدر المشهد الشاعر عمارة اليمني، إلى جانب شخصيات بارزة أخرى مثل عبد الصمد الكاتب والقاضي العوريسي وابن عبد القوي، إضافة إلى بقايا الجند السودانيين وخدم القصر الفاطمي.

وبينما كان صلاح الدين يعزز سلطته، تآمرت المجموعة للإطاحة به في مارس/آذار 1174م، وخططت للاستعانة بدعم خارجي، فتواصلت مع الحشاشين الإسماعيليين في الشام وطلبت إرسال قتلة لاغتيال صلاح الدين، عبر رسالة أرسلتها إلى شيخ الجبل، زعيم الإسماعيليين بالشام، وأكدت فيها وحدة الهدف بينهما.

إعلان

ومن جهة أخرى، اتفقت المجموعة مع الصليبيين على شن هجوم متزامن على مصر من الشرق والبحر، وتواصلت مع ملك بيت المقدس عموري الأول وملك صقلية وليام الثاني النورماندي، لتنفيذ الهجوم، وقررت في الوقت نفسه إشعال ثورة في القاهرة والفسطاط لتشتييت الأيوبي بين جبهات القتال.

وتنفيذا للاتفاق جهز وليام الثاني أسطولا ضخما من 600 سفينة تحمل 30 ألف مقاتل لمهاجمة الإسكندرية، بينما تجهزت القوات الصليبية للهجوم من جهة الشرق.

صورة بالذكاء الاصطناعي تظهر حروب صلاح الدين الأيوبي مع الصليبيين (الجزيرة-ميدجورني)

كُشفت تفاصيل المؤامرة عندما أبلغ الفقيه الواعظ زين الدين عليّ بن نجا صلاح الدين بالخطة، خاصة وأن مبعوث عموري الأول أثار شكوكه بعد مراقبته عن طريق بعض أقباط مصر، رغم محاولته خداع الأيوبي بالهدايا ورسائل الود.

وعندما تأكدت الشكوك، اعتقل صلاح الدين جميع المتآمرين، وفي أبريل/نيسان 1174، أمر بإعدام المجموعة المخططة صلبا، بينما اختفى آخر الأمراء الفاطميين، ابن الخليفة العاضد، هربا من العقاب.

بعد إحباط المؤامرة، اندلعت ثورة أخرى في أسوان بقيادة القائد الفاطمي كنز الدولة، مدّعيا استعادة الدولة الفاطمية وجمع حوله بقايا الجند السودانيين وخدم القصر الفاطمي وغيرهم. لكن صلاح الدين أرسل حملة بقيادة أخيه العادل سيف الدين، أنهت التمرد تماما في سبتمبر/أيلول 1174م.

وفي غضون ذلك توفي عموري الأول في صيف 1174م، وعندما وصل الأسطول النورماندي إلى الإسكندرية في يوليو/تموز 1174، نجح في إنزال قواته على الشاطئ، ودمر السفن التجارية الراسية في الميناء، قبل أن يدركه الأيوبي ويهاجم أسطوله ويلحق به الخسائر.

ومع استقرار الأوضاع في مصر، بدأ صلاح الدين التوجه نحو الشام لمواصلة مشروعه في توحيد العالم الإسلامي.

صورة بالذكاء الاصطناعي تعبر عن يوم فتح حلب على يد صلاح الدين الأيوبي (الجزيرة-ميدجورني) محاولات الاغتيال

واجه صلاح الدين الأيوبي عددا من محاولات الاغتيال من الإسماعيلية الذين ساءهم سقوط الدولة الفاطمية في مصر وتوسع نفوذه في الشام.

إعلان

كانت أولى هذه المحاولات أثناء حصاره لحصن أعزاز شمال حلب سنة 571 هـ، وهاجمه عدد منهم بغتة، ما أدى إلى إصابة بعض أمرائه، إلا أنه نجا وتمكن من التصدي لهم، كما يروي المؤرخ تقي الدين المقريزي.

وبعد ذلك بوقت قصير، تعرض لمحاولة أخرى أثناء حصاره لمدينة حلب، لكن حذره وإجراءاته الأمنية أفشلت المخطط قبل تنفيذه.

وفي سنة 584 هـ، أي بعد تحريره المسجد الأقصى، حاول 12 رجلا من الطائفة إثارة تمرد داخل القدس، منادين بشعارات لإعادة الدولة الفاطمية، على أمل أن ينضم إليهم السكان، لكن محاولتهم باءت بالفشل، فتفرقوا قبل أن يتم القبض عليهم.

موقعة حطين وفتح بيت المقدس

وفي يوم 25 ربيع الآخر 583 هجرية، الموافق للرابع من يوليو/تموز 1187 ميلادية، في تلال حطين قرب قرية المجاودة الواقعة بين مدينتي طبريا والناصرة في فلسطين، حشد الصليبيون 63 ألف مقاتل، لاقاهم الأيوبي بنحو 25 ألفا.

تخوّف الفرنجة من مواجهة الأيوبي لشدة الحر، خاصة وأنهم لم يتزودوا بالمؤن اللازمة لتقيهم من حر الصيف، لكن الأيوبي استطاع استدراجهم لملاقاته، وفرض سيطرته على مصادر المياه وحال بينهم وبين بحيرة طبرية، فاضطروا إلى الانسحاب إلى جبل حطين.

تمكّن العطش والجوع من الصليبيين، واستغل الأيوبي الوضع فأمر جنوده بإشعال النار في سهامهم وتصويبها نحو الحشائش المحيطة بأعدائهم، فاستطاع حصارهم وإجبارهم على قتاله، حتى انتصر، وقتل منهم 30 ألفا وأسر 30 ألفا آخرين، منهم كل الملوك الذين جاؤوا لمحاربته.

صلاح الدين الأيوبي نشأ وترعرع بين بعلبك ودمشق (الجزيرة-ميدجورني)

استطاع صلاح الدين الأيوبي فتح عكا التي أذّن فيها بعد أن غاب عنها الأذان 73 سنة، وفتح نابلس وعسقلان وصيدا وبيروت وجبيل والرملة وعكا وطبرية ويافا والناصرة، ثم تفرغ لبيت المقدس، وفرض عليه حصارا من الناحية الغربية يوم 15 رجب 583هـ (1187م)،  بـ60 ألفا من العرب والكرد والتركمان، وقطع الإمداد عن الفرنجة.

إعلان

بعد حصار استمر 12 يوما بادر دانيال قائد الحامية الصليبية في القدس إلى طلب الصلح فوافق صلاح الدين وفتحت المدينة يوم الجمعة 27 رجب 583هـ الموافق 2 أكتوبر/تشرين الأول 1187م، وصلى صلاة الجمعة الأولى بعد الفتح في مصلى قبة الصخرة بعد 90 عاما من الاحتلال.

وإضافة إلى مصر والشام خضعت له سواحل طرابلس وتونس وبلاد النوبة والسودان والحجاز واليمن.

الوفاة

توفي الأيوبي بقلعة دمشق يوم الأربعاء 27 صفر سنة 589، وخلف 17 ولدا وبنتا واحدة. ويقول ابن شداد إنه مات ولم يورث مالا ولا قرية ولا مزرعة، وكل ما تركه كان دينارا و47 درهما، لم يعلم عنها حتى ورثته إلا حين وفاته، وحتى ثمن الطوب الذي سوي به قبره اضطروا لاقتراضه.

مقالات مشابهة

  • من 10 آلاف لنصف مليون جنيه.. عقوبة مخالفة ضوابط التنزه بالكلاب
  • عماد الدين حسين: توقيت الحزمة الاجتماعية مهم للغاية
  • لا فرق بين علمانية وثيقة قحت وبين وثيقة الفترة الانتقالية المعدلة في علاقة الدين بالدولة
  • صنعاء تستعد لاستضافة المؤتمر الثالث “فلسطين قضية الأمة المركزية”
  • «حزب المؤتمر»: قانون العمل الجديد يعزز العدالة الاجتماعية ويحقق التوازن بين حقوق العمال وأصحاب الأعمال
  • صلاح الدين الأيوبي قائد كردي وحد العالم الإسلامي وأوقف المد الصليبي وحرر الأقصى
  • مناقشة التحضير لمؤتمر فلسطين قضية الأمة المركزية
  • الحبس 3 سنوات للمشدد 15 سنة.. ما نص عليه القانون فى قضية منصة FBC
  • حفظ التحقيقات في قضية اتهام إمام عاشور وكهربا بجلب المخدرات من الخارج