بسم الله الرحمن الرحيم
حركة المستقبل للإصلاح والتنمية
الأمانة السياسية
ورقة تحليلية: الحرب والسياق السياسي
مقدمة:
إن فهم طبيعة وأسباب وجذور الحرب التي اندلعت في الخامس عشر من أبريل 2023 شرط أساسي للموقف الوطني الصحيح الذي يجب أن تتخذه القوى السياسية والمدنية، فالحرب لم تكن في يوم من الأيام معزولة عن السياق السياسي والاجتماعي الذي حدثت فيه، وكل تجارب الحروب في السودان ذات صلة مباشرة بعوامل داخلية وخارجية.

في هذه الورقة سنشرح طبيعة الحرب ونمنحها التعريف السليم والدقيق، ثم نتحدث عن المبادئ والثوابت الوطنية الجوهرية والتي لا يمكن تجاوزها في كل الخيارات ومن ضمنها خيار الحل السياسي، ثم نوضح فُرص الحل السياسي والأدوار اللازمة من الجميع فيما نُسميه (استعادة المسار السياسي الوطني) ونتحدث عن طبيعة التحالفات والجبهات اللازم قيامها.
فهم طبيعة الحرب في السودان:
الحرب التي اندلعت في البلاد يوم 15 ابريل هي تمرد قامت به قوات الدعم السريع، وهي قوات نشأت في وقت سابق كقوات مُساندة للقوات المسلحة وتتبع لها، ثم تطورت بعد العام 2019 وزادت أعدادها بأكثر من ستة أضعاف وخلقت تحالفات عسكرية مع تشكيلات مليشيا غير رسمية، وتطور اقتصادها ومصادر أموالها وعلاقاتها الخارجية بشكل مستقل عن مؤسسات الدولة الرسمية وبدأت مرحلة الانفكاك من تبعيتها للقوات المسلحة، وظهر الطموح السياسي الشخصي في نيل السلطة لقيادتها، طموح دفع القيادة للتمسك الشديد على وجود الدعم السريع كجيش موازي للقوات المسلحة السودانية، كانت وضعية قوات الدعم السريع وضعية مختلة تماما حتى وهي داخل الدولة، حيث تجد القيادة الأسرية من عائلة واحدة، كما تؤسس القوات على رابطة عرقية وتعبئة عنصرية بجانب اقتصادها وعلاقاتها الخارجية، لقد كانت أقرب لإمبراطورية عائلية مكتملة الأركان تنمو داخل جسد الدولة.
وفق تلك الوضعية فقد كانت الحرب مؤجلة فنذرها بائنة لكل مراقب، وحين جاءت لحظة الاتفاق الإطاري أوصلت الصراع لحدوده القصوى، فمسألة الدمج كانت محل إجماع وطني تام ومعناه دمج الدعم السريع داخل القوات المسلحة وفق قوانين القوات المسلحة والطرق المتبعة، لكن الاتفاق الإطاري طرح المسألة وفق بنود تشير بوضوح لتقنين دستوري لهذه القوات بما يقودها لتصبح جيش موازي للجيش السوداني، مما عقد مسألة الدمج لتصبح محل نقاش واستقطاب وصراع.
في يوم الخامس عشر من إبريل كانت بداية الحرب المتوقعة والتي خططت لها قوات الدعم السريع المتمردة منذ مدة إثر خلافات بعد ورشة الإصلاح الأمني والعسكري والتي قاطعت القوات المسلحة جلستها الختامية، ولقد أظهرت الحرب وبكل ما حدث فيها من فظائع حقائق عديدة تؤكد هذه الرواية.
كما كشفت أيضا الطبيعة الحقيقية لهذه القوات المتمردة كونها مليشيا مهيأة لارتكاب أفظع الجرائم وبلا سقف ولا رادع قيمي، مليشيا تقوم على حشد وتعبئة عرقية عنصرية خطيرة، وهذه هي الطبيعة الحقيقية للحرب والتوصيف السليم لها كتمرد على الدولة.
الحرب وفرص الحل السياسي:
منذ ما قبل الحرب كانت الفرصة لحل سياسي قائمة لتلافي المضي نحو هذه الحرب، واليوم ورغم التعقيد الكبير الذي أحدثته هذه الحرب والدمار وفقدان الأرواح والخسائر، إلا أن فرص الحل السياسي قائمة متى ما تحققت إرادة وطنية تعلمت من الحرب ومن دروسها القاسية، سنوضح الاستراتيجيات والثوابت التي يجب أن يؤسس عليها أي حل سياسي مستقبلاً:
أولا: الأسس والثوابت الوطنية الاستراتيجية:
1- لابد من الاعتراف بأن الجيش الوطني السوداني جيش واحد ولا يوازيه أي جيش آخر أو مليشيا والتأكيد على أن القوات المسلحة السودانية هي المؤسسة الوطنية التاريخية والدستورية والركيزة التي تضمن بقاء وتماسك الدولة.
2- لابد من النظر لعملية الإصلاح كعملية شاملة تقوم على أساس تعزيز ما هو موجود ولا تقوم على القطيعة معه أو تفكيكه أو تدميره.
3- لابد من الاعتراف الجماعي بأن ظاهرة مليشيا الدعم السريع ظاهرة مُعتلة وغير سليمة تحتاج للمعالجة، والتأكيد على رفض القبول بأي مستقبل سياسي للمليشيا ورفض أي وضعية دستورية تسمح لها بأن تكون جيش موازي أو شبه موازي للقوات المسلحة.
4- الإيمان بأن العمل من أجل مدنية وديمقراطية نظام الحكم هدف لا تراجع عنه، وذلك بما يقود لخروج الجيش من السياسة وترسيخ التداول السلمي للسلطة، والتأكيد على أن هذا الهدف يؤسس مع متطلبات الأمن القومي بما لا يُهدد وجود الدولة نفسها.
ثانيا: استعادة المسار السياسي:
إن استعادة المسار السياسي يبدأ بتشكيل جبهة مدينة واسعة تتفق حول الأسس والثوابت الوطنية الاستراتيجية، وتربط هذه الجبهة المدنية بين هذه الأسس والثوابت وبين خارطة طريق عملية تقود لإنهاء الحرب ووقف التمرد وكذلك تمهد الطريق لحوار سياسي شامل في السودان. ثمة صعوبات حقيقية في هذا الحوار السياسي الشامل فطبيعة الصراع السياسي في السودان تشهد استقطابا حادا وتمايزا يفتقد للأسس الضرورية وبالطبع تتفشى ثقافة العداء وخطابات الكراهية.
هذه البيئة مُعادية للحوار السياسي بسبب عوامل ذاتية يمكن تغييرها وتجاوزها متى ما وجدت الإرادة الكافية، ولكن واقع الحرب الموضوعي خلق تهديدا كبيرا للدولة والمجتمع وربما يكون هذا التهديد هو الدافع الموضوعي المُحفز لتغيرات في العوامل الذاتية التي تمنع الحوار السياسي الشامل والذي هو جزء جوهري في استعادة المسار السياسي.
تحليل طبيعة القوى السياسية وتحليل التحالفات القائمة:
وفق المشهد القائم فإن القوى السياسية والمدنية انقسمت لاتجاهين إثنين:
1- قوى الانحياز لبقاء الدولة الوطنية ويتمثل موقفها في الانحياز للقوات المسلحة السودانية وهي تتفق في وصفها لطبيعة الحرب كتمرد على الدولة، هذه القوى تمثلها غالبية التيارات السياسية وقوى أهلية ونقابات مهنية ولجان تسيير نقابات ولجان مقاومة وحركات مسلحة ومبادرات من شخصيات ومنظمات مجتمع مدني.
2- قوى تدعي الحياد وتفهم الحرب كحرب بين طرفي نزاع ولا تركز على بقاء الدولة، من أهم مقدمات هذه القوى مساواتها بين القوات المسلحة السودانية ومليشيا الدعم السريع المتمردة ولا ترى في القوات المسلحة تمثيلا شرعيا للجيش الوطني، كذلك تتبنى هذه القوى رواية عن الحرب مشابهة لرواية التمرد عن الحرب. هذه القوى تمثلها أقلية من القوى السياسية منها التي وقعت على الاتفاق الإطاري كقوى الحرية والتغيير وغيرها بجانب بعض لجان التسيير وجزء قليل من لجان المقاومة، وبعض الحركات المسلحة وبعض مبادرات منظمات المجتمع المدني.
يُلاحظ أن الانقسام هذا هو انقسام عمودي بين هذه القوى السياسية والمدنية، وهو انقسام لا يُفهم في الإطار الايدلوجي بين اليمين واليسار، ولا الإطار العمري بين الشباب والكبار ولا الإطار القطاعي بين التقليدي والحديث، هو انقسام عمودي يشمل كل هذه الأطر التصنيفية ويمكن تصنيفه بين قوى وطنية كبيرة العدد تنحاز لبقاء الدولة وقوى أخرى تميل لتفكيك الدولة وإعادة صياغتها من جديد. وبالتالي لم يكن أمرا عبثيا ان تنحاز الفئة الأولى لموقف دعم القوات المسلحة السودانية، وأن تختار الفئة الثانية موقفا يطابق بين روايتها وأهدافها ومليشيا الدعم السريع التي باتت ترفع شعار هدم دولة 1956.
دور الأطراف الخارجية الدولية والإقليمية:
إن الأطراف الخارجية الدولية والإقليمية تؤكد في خطاباتها على الحل السلمي ووقف الحرب ولكن تصوراتها عن الوضع في السودان تختلف وتتنوع بين أطراف تؤدي دورا سلبيا تجاه السودان وأخرى تتعامل بطريقة أكثر واقعية وأكثر التزاما بقضية سيادة السودان وأمنه القومي، إن مليشيا الدعم السريع المتمردة لم تلق الإدانة الكافية ولا التجريم الكافي بما يقابل ما ارتكبته من فظائع ويعود السبب في ذلك لخلل في تصور بعض الأطراف الدولية.
من المهم أن تمتلك الأطراف الدولية رؤية للسودان أكثر قربا للواقع حتى لا تقع في مؤامرات اللوبيهات والمنظمات التي تؤثر على سياساتها بما يقودها لدعم موقف لا يخدم السودان وأقرب مثال لذلك هو العملية السياسية الأخيرة والتي قادت للاتفاق الإطاري وقد كانت برعاية الآلية الثلاثية المكونة من البعثة الأممية والاتحاد الأفريقي والايقاد. إن استمرار أي طرف خارجي في تناول مسألة السودان بدون فهم سليم وبدون تبني مبادئ السيادة الوطنية والشمول سيجعل من دوره تدخلا سلبيا لا يخدم السودان.
كذلك من الخطورة أن يتحرك أي طرف خارجي من أجل بلورة عملية سياسية جديدة بدون فهم لمبدأ أن الحل في الأساس هو حل سوداني-سوداني، فالتدخل في منهجية الحوار السياسي وأطرافه وقضاياه سيكون خطوة خاطئة، والتجارب السابقة أثبتت تماما أن أي تدخل في تفاصيل الحوار السياسي سيكون تدخل سلبي ومن نتائجه الخطيرة تمثيل رافعة سياسية لقوى وتيارات مجهرية لا وزن لها، ثم تضليل الفاعلين الدوليين والأمم المتحدة ومنحهم صورة غير حقيقية عن الواقع. مثل هذا المسار يجب أن يجد رفضا مبدئيا من كافة الأطراف الدولية.
فرص الحل السياسي:
1- السيناريو الأول: أن تحتشد كافة القوى السياسية والمدنية وتتوافق حول ثوابت بقاء الدولة الوطنية وهذا أفضل السيناريوهات التي تحدث للسودان، وحينها سيكون من المؤكد حدوث توافق يقود لرؤية حول مشروع وطني لخارطة طريق تقود البلاد نحو المستقبل.
2- السيناريو الثاني: استمرار الاستقطاب والتشبث بالمواقف، وهو أمر سلبي ويقطع الطريق أمام الحوار ولكننا لن نتوقف عن طرق الأبواب ما تمكنا من ذلك. تتمثل مشكلة هذا السيناريو في زيادة فرص التدخل الخارجي السلبي بما فيه من تواطؤ مع تيارات الاتفاق الإطاري وقوى ادعاء الحياد، ومن ثم العمل على فرضها كممثل للقوى المدنية السودانية. ولذلك في حال استمر التشبث بالمواقف ستتضاءل فرص الحل السياسي الشامل؛ ولابد حينها من أن يستعد الشعب السوداني وقواه الوطنية لمواجهة هذا السيناريو ويمتلك رؤية حول طبيعة العمل السياسي الواجب واللازم.
ما العمل؟
أولا: يجب أن تتشكل أكبر كتلة مدنية تشمل كافة القوى الداعمة لخيار بقاء الدولة ضد التمرد الذي يستهدف تفكيك الدولة وبدء مرحلة عمل جماهيري شعبي وضغط مدني بكافة الوسائل من أجل حشد التفاف كبير للشعب السوداني بما يقود لحماية هذه البلاد.
ثانيا: غاية تشكيل كتلة مدنية وطنية فاعلة وواسعة تحتاج لعمل وجهد وصبر كبير، لأن التنوع وسط هذه القوى الوطنية تنوع كبير بجانب وجود تناقضات كثيرة كما توجد كثير من العقبات اللوجستية فهذه القوى الوطنية دوما تتحرك بمواردها الذاتية، وهنا لابد من إيجاد طرق فعالة ومبدعة للعمل وليس من الضروري أن تجتمع كل القوى تحت لافتة واحدة بل يجب أن تجتمع القوى في تحالفات منسجمة ومنظمة بما يمكن من التنسيق الفعال فيما بينها.
ثالثا: الاستعداد لمواجهة الخطر الكبير ممثلا في رافعة المجتمع الدولي التي قد تنحاز بوضوح لموقف لا يدعم بقاء الدولة، بل سينتج عملية سياسية مشوهة ومعيبة وقاصرة وبذات المنهجية والطريقة التي كانت عليها تلك العملية السياسية التي سبقت الحرب. لابد من مخاطبة إيجابية مع كافة الأطراف الدولية والسعي لخلق حوار مثمر معها.
رابعا: الوصول لخارطة طريق بين القوى الوطنية المنحازة لبقاء الدولة تقود لإنهاء التمرد والحرب واستعادة المسار السياسي وفق رؤية شاملة تضمن تحقيق الثوابت الوطنية.
خامسا: السعي ما أمكن للتواصل مع القوى التي لا تنحاز لبقاء الدولة وتنظر للحرب بطريقة أخرى من أجل التوافق على ثوابت معقولة ولكن في حال تعثر هذا المسار لابد من الاستمرار في العمل في بقية الأهداف.
الخاتمة:
هذه ورقة توضح وبشفافية تامة الوضع الحالي وتقدم تحليلا لفرص الحل السياسي، ونحن إذ نكتب هذه الورقة نهدف لتوضح كافة الخيارات والاحتمالات التي نعمل عليها، وكذلك توضيح السياق الذي يحدث فيه العمل السياسي داخل وخارج السودان. وعليه فإننا في حركة المستقبل للإصلاح والتنمية سنعمل بكافة ما نستطيع مع القوى الوطنية والتيارات السياسية التي تتفق معنا في الأهداف من أجل تعزيز فرص الحل السياسي بما يضمن الحفاظ على الدولة السودانية.
الأمانة السياسية – ٢٢ أغسطس ٢٠٢٣م

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: ملیشیا الدعم السریع المسلحة السودانیة الاتفاق الإطاری الأطراف الدولیة القوات المسلحة الحوار السیاسی للقوات المسلحة القوى الوطنیة فی السودان هذه القوى لابد من من أجل یجب أن

إقرأ أيضاً:

الحرب وبعض المفاهيم النظرية المغلوطة

 قلنا في المقالات السابقة، وفي المقال الأخير تحديداً، إن تقييم ومحاكمة هذه الحرب التي توقّفت، ولكنها لم تتوقف كلياً بعد، قلنا، إن تقييما كهذا ومحاكمة كهذه يحتاجان ويتطلبان مناقشات مستفيضة ومعمّقة، صريحة، صادقة ومسؤولة قبل كل شيء لكي يصار إلى إعادة وضع الأمور في نصابها، وبهدف البحث عن مساحات وطنية مشتركة من شأنها إعادة الاعتبار لأهمية ترميم الحالة الوطنية، وإعادة العودة إلى طريق وحدة الشعب، وقواه الوطنية، ووضع مسار هذه الحركة من جديد على سكة المصالح الوطنية، وعلى سكّة الأهداف الوطنية، والحقوق الوطنية التي ما زالت، وستبقى مرهونة بإنجاز كل ما يلزم فعله من حوارات، ومن وضع مرتكزات، وبناء إستراتيجيات على طريق تحقيقها.

واحدة من أهم المسائل التي تتعلق وتتصل بهذه المفاهيم النظرية المغلوطة هي مفهوم موازين القوى في حالات الحروب الوطنية، طالما أننا في الحالة الفلسطينية نتحدث بالذات حول الحرب الوطنية الفلسطينية لانتزاع حقوقنا الوطنية من براثن المشروع الصهيوني الذي سعى ويسعى منذ أكثر من قرن كامل من الصراع لتصفية هذه الحقوق.

مهما يكن من أمر، وبقدر ما يتعلق الموضوع بالحالة الفلسطينية الملموسة فإن مفهوم ميزان القوى في معادلة الصراع في هذه الحالة هو مفهوم فريد من نوعه من بين قضايا التحرر الوطني في كامل تجربة البشرية المعاصرة، بكل ما يحمله هذا المفهوم من معانٍ، وما تقف خلفه من اعتبارات.

إذ لم يواجه أي شعب من شعوب الأرض مؤامرة كالتي تعرّض لها الشعب الفلسطيني عندما التقت مصالح «الغرب» الرأسمالي كلّه، وتقاطعت عند توفير مقومات متكاملة من العمل المثابر والدؤوب، وتكالبت على هذا الشعب أقوى قوى «الغرب» بهدف (اقتلاع) شعبنا من ارضه، وبهدف (إحلال) شعب آخر في مكانه.

التجربة البشرية الوحيدة التي سبقت هذه التجربة الفريدة في التاريخ كانت إبادة السكّان الأصليين في أميركا وأستراليا، أو استيطان أرض هؤلاء السكان وتطهير وجودهم عرقياً، والقضاء التام على أي إمكانية لإعادة انبعاث وجودهم المادي، مرّةً وإلى الأبد.

أما التجربة الجزائرية، وتجربة بعض الشعوب الإفريقية الأخرى، بما فيها النظام العنصري في جنوب إفريقيا، وما كانت تسمى روديسيا فإنها وإن حملت بعض سمات الاقتلاع والإحلال فإنها لم تحمل مثل هذه السمات إلّا جزئياً، بصرف النظر عن حجم القوة الغاشمة التي استخدمت، وبالرغم من حجم الظلم الذي ألحقته القوى الاستعمارية بهم، ناهيكم عن أن الفترة الزمنية التي وقعت فيها عمليات الإبادة للسكان والتطهير العرقي لهم، ولاحقاً عمليات الإحلال والاقتلاع النسبي كانت قبل مئات السنين، وكان أحدثها قد وقع مع موجات الاستعمار في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وآخرها في القرن التاسع عشر.

بالعودة إلى وثائق الحركة الصهيونية ومؤتمراتها، وبالعودة إلى «الترتيبات» والإجراءات والسياسات التي وضعت من قبل كبريات البلدان الاستعمارية، وخصوصاً فيما يتعلق بإقامة «الوطن القومي لليهود» وفيما يتعلق بمصير السكان الفلسطينيين.. بالعودة إلى كل ذلك، ومنذ العقود الأخيرة للدولة العثمانية، ومنذ بدء التقاسم الاستعماري «للتركة» العثمانية في الإقليم العربي يتبين لنا أن المشروع المُزمع إقامته كان يحمل سمات الإبادة والتطهير تمهيداً للإحلال والاقتلاع.

هذه الحقائق التي لا يرقى لها أي شك تعطينا فكرة أننا كنّا أمام قيام أكبر تنظيم عالمي لقيادة وتولّي الإدارة التنفيذية لهذا المشروع مدعوماً من كل «الغرب»، وبإشراف مباشر من بريطانيا العظمى، التي كانت الدولة الأقوى في العالم، وبالتنسيق الكامل مع الولايات المتحدة الأميركية كما تفيد الوثائق المؤكّدة حول «وعد بلفور»، وموافقة ومشاركة أميركا في أدقّ تفاصيله.

فإذا أضفنا إلى الحركة الصهيونية، وما كانت تتمتع به من نفوذ وإمكانيات وطاقات، ووسائل للتأثير بسبب وقوف الرساميل اليهودية خلف مشروعها، والأرضية الجاهزة المجهّزة من خلال الانتداب البريطاني، والدعم الأميركي الكامل، وتحكّم «الغرب» ببلدان الإقليم العربية بفلسطين نستطيع أن ندرك عن أي معادلات يتم الحديث في إطار موازين القوى في المراحل الأولى من الصراع.

الاختلال في ميزان القوى بين شعبنا، وبين هذا المعسكر الهائل في كل الاتجاهات، وعلى كل المستويات لم يحل دون «ثورة البراق»، ولم يحل دون الثورة الوطنية الكبرى في العام 1936، وحيث نشبت أكبر ثورة شعبية في التاريخ المعاصر لكامل دول الإقليم، (الإضراب الكبير)، واضطرّت بريطانيا لاستدعاء الآلاف من جنودها في الهند لإخماد الثورة المسلّحة، وهي ثورة ريفية امتدّت إلى المدن لاحقاً، وتجلّت فيها أسمى معاني وأكبر سمات الوحدة الوطنية.

وقبل وقوع النكبة وأثنائها قاوم الشعب الفلسطيني بكل إمكانياته، وبما يفوق هذه الإمكانيات إلى تفوقت القوات والعصابات الصهيونية عليه، وعلى «الجيوش» العربية التي قاتلت بما «توفّر» لها من إمكانيات أُريد لها أن تكون متواضعة، وخُطّط لأن «تنحصر» مهمتها في نهاية الحرب الوصول إلى «الهدنة».

لم يكن هناك أي إمكانية للحديث عن أي نوع من التوازن في كامل مسار هذا الكفاح، وكان الشعب الفلسطيني وحيداً في مواجهة عالم متكامل من القوة والجبروت، ومن إبادة وتطهير وطرد وتشريد لحوالى ثلثي الشعب كلّه.

وفي الفترة الممتدة بين عام النكبة 1948 وعام النكسة 1967، وبالرغم من كل مشاريع الوصاية والإلحاق والملاحقة، بدأ الشعب بإعداد نفسه لجولات جديدة من الصراع، ونشأت منظمة التحرير الفلسطينية، وبدأت عملية وطنية جديدة من الانبعاث الوطني، وتم تأسيس جيش التحرير الفلسطيني، وشرعت قطاعات متزايدة من الشعب بتأسيس منظماتها الكفاحية الجديدة، ظهرت حركة فتح وقبلها أو بالتوازي مع ظهورها ظهرت جبهة التحرير الفلسطينية، وشرعت منظمات حركة القوميين العرب بالتحضير للكفاح المسلّح مثل منظمة «شباب الثأر» ومنظمة «أبطال العودة»، وتعزّزت إرهاصات تشكيل المنظمات المسلّحة بعيداً عن وصاية النظام العربي، بما فيها النظام «الناصري»، و»البعثي»، ومن أجل خلق مناخات وطنية مستقلة عن هذا النظام خشية من تكرار تجربتي الثورة الوطنية الكبرى في العام 1936، وحرب النكبة في الأعوام 1947/1948.

وكان لانطلاق «فتح» بالذات، والشروع بالكفاح المسلّح أهمية كبرى إن كان لجهة الاعتبارات الفكرية والسياسية، أو لاعتبارات النزوع نحو درجة أعلى من الاستقلالية عن النظام العربي، وعن الواقع العربي كلّه.

وبعد هزيمة حزيران 1967، ظهرت بسرعة انتشار النار في الهشيم المنظمات الفلسطينية الجديدة، وخصوصاً الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكانت معركة الكرامة هي المعركة الأولى بين قوات احتلال إسرائيلية كبيرة وقوات الثورة الفلسطينية في الأغوار، وخاص بضع مئات من القوات الفلسطينية معركة ملحمية مع قوات الاحتلال، وانتصروا فيها انتصاراً مبهراً دون أن يعرفوا، وقبل أن تتدخل مدفعية الجيش العربي الأردني من أجل إسناد القوات الفلسطينية القليلة بصورة أدّت إلى حسم المعركة، ومنيت دولة الاحتلال بأوّل هزيمة عسكرية في مواجهة مباشرة مع مئات المقاتلين.

لم يكن هناك أيّ مجال للحديث عن توازن للقوى في تلك المعركة، ولم يكن هناك أي توازن في كل معارك القشرة طول امتداد الحدود الأردنية الفلسطينية، ولم يكن هناك أي توازن في القتال من جنوب لبنان، ولم يكن في أي وقت من الأوقات مثل هذا التوازن لا قبل اجتياح وغزو لبنان ولا بعده.

وكان ميزان القوى الحقيقي هو في أنّ المقاومة عندما تحارب جيشاً مدجّجاً بالسلاح المتفوّق فإنها تراهن على عدة عوامل تشكل في محصّلتها نوعاً من إستراتيجية المواجهة المرنة، والتي قوامها حرب العصابات، والمغاوير، والضرب في مكامن الضعف، وتجنّب المواجهة إلّا إذا فرضت كما كان الأمر في «الكرامة»، هذا إذا تحدثنا عن ميزان القوى العسكري أو الميداني.

في مفهوم حركات التحرر الوطني للتوازن هناك عدة عوامل يحسب حسابها بدقّة:

الأوّل، أن تكون المعارك والحروب والمواجهات ليس لتحقيق النصر على العدو بصورة مباشرة، أو من خلال معركة واحدة فاصلة، أو خوض حرب لا يتم من خلالها استنزاف العدو وجرّه إلى الوقوع في مناطق الانقضاض عليه وضربه في نقاط ضعفه. وهذه المسألة تعني تحضير حركة التحرر الوطني لنفسها إذا كانت قادرة على المواجهة لحرب طويلة تنهك العدو وتستنزفه وتحبط قدرته من التمكّن أو الاستفراد بقوات الثورة.

الثاني، أن تكون لدى حركة التحرر قدرة على الصمود حتى تتحوّل الخسائر في صفوف العدو إلى وسائل ضغط كبيرة عليه بحيث يصبح هذا الضغط جزءاً لا يتجزأ من مفهوم التوازن.

الثالث، أن تكون الحروب والمعارك قادرة على خلق جبهات إسناد سياسية وميدانية، محلية وإقليمية ودولية.

والرابع، أن يكون للصمود الشعبي، ولصمود المقاتلين دور تعبوي في الوسط الخاص الوطني، وفي المحيط القومي القادر على تصليب الإرادة الوطنية، وعلى الحفاظ على أعلى درجات القوة المعنوية.
ميزان القوى بين مقاتلي حركة التحرّر وقوات المستعمر يبدأ بالإرادة، ويمرّ بالاستعداد والتجهيز وتوفير مقوّمات القدرة الطويلة على القتال، وينتهي بالمراهنة على يأس العدو من القدرة على تحقيق الأهداف.

في حروب التحرّر الوطني الرهانات جزء عضوي من الحسابات، والمغامرة حاضرة في أدقّ التفاصيل، والمراهنة مسألة أصيلة وطبيعية، والإرادة أقوى سلاح من أسلحة المواجهة. في حروب التحرّر الوطني الحق والعدل والعدالة مَعِين لا ينضب في إدانة الأعداء القتلة والمجرمين، والاستثمار في الضمير الإنساني الحيّ ليس فقط لشعوب «الجنوب»، وإنّما في ضمير شعوب «الغرب» نفسه.

في حروب التحرّر الوطني أنت تعرف وحشية الأعداء، وتعرف توحشّهم، ولكنك لا تستطيع أن تعرف دائماً ومسبقاً فيما إذا كانوا قادرين عليه، وفيما إذا كانوا قادرين على الاستمرار به.

الأيام الفلسطينية

مقالات مشابهة

  • دافوس 2025.. «الاستثمار» تصدر ورقة بحثية حول البيئة الاستثمارية في الدولة
  • السويح: المصالحة الوطنية ركيزة أساسية للحل السياسي في ليبيا
  • ماهي الدلالات السياسية التي تحملها زيارة وزير الخارجية السعودي إلى لبنان؟
  • هل يُنهي اختفاء كوشنر صفقة القرن..ورقة سرية تقلب المُعادلة
  • أبرزها مصر والإمارات.. كيف تستغل القوى الإقليمية الحرب السودانية لتحقيق مكاسبها؟
  • الحرب وبعض المفاهيم النظرية المغلوطة
  • الآلية الوطنية لحماية المدنيين تناقش إعادة تشكيل الآلية بما يواكب المستجدات التي فرضتها الحرب
  • حركة الجهاد تندد بعمليات القتل والتهجير التي يمارسها العدو في جنين
  • البعريني: إمّا أن تتمثّل القوى السياسيّة كافة في الحكومة أو نخرج جميعًا
  • محمد بن حمد: التعاون بين المؤسسات يمكّن الكوادر الوطنية