جدلية التغيير ومقاومة البنى العميقة
تاريخ النشر: 27th, February 2025 GMT
حين ينهار نظام استبدادي، يتولد شعور عام بأن كل شيء سيتغير بين عشية وضحاها. يتوقع الناس تحسنًا فوريًا في الاقتصاد، والأمن، والخدمات، وكأن المشكلة كانت في رأس السلطة فقط، وليس في منظومة متجذرة تشكلت عبر عقود. هذه الحالة تجعل القوى الثورية أمام معضلة خطيرة: كيف تدير عملية التغيير دون أن تستنزفها الجماهير بتوقعات غير واقعية؟
الأنثروبولوجيا السياسية للثورات.
. لماذا لا يتغير كل شيء فورًا؟
تشير الدراسات الأنثروبولوجية إلى أن سقوط الأنظمة لا يعني بالضرورة تغير المجتمعات التي حكمتها. فالدولة ليست مجرد حكومة، بل هي نسيج من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حيث تشكلت عبر الزمن أعراف وسلوكيات يصعب استئصالها بسرعة. الأنظمة الاستبدادية تخلق مؤسسات تبدو وكأنها تخدم الناس، لكنها في الحقيقة تؤسس لاستدامة القمع، بحيث يصبح التغيير الجذري أكثر تعقيدًا من مجرد الإطاحة بالحاكم.
في السودان، بعد سقوط عمر البشير، كان المشهد نموذجًا حيًا لهذا التحدي. خرجت الجماهير محتفلة بالنصر، لكنها بعد أسابيع قليلة بدأت تطالب الحكومة الانتقالية بتحقيق إنجازات اقتصادية وأمنية فورية، رغم أن الدولة كانت تعاني من انهيار مالي ومؤسسات مترهلة. هنا لعبت الثورة المضادة دورها، حيث عملت أجهزة الدولة العميقة، بما في ذلك بعض القوى العسكرية، على عرقلة عملية الانتقال، حتى أصبح الشارع نفسه يردد شعارات تتهم الثورة بالفشل، مما مهد الطريق لانقلاب عسكري أعاد السلطة إلى أيدي القوى التقليدية.
سيكولوجية الجماهير.. من الصبر على الاستبداد إلى استعجال الثورة
في علم النفس الاجتماعي، يُعرف "التنافر المعرفي" بأنه حالة من الصراع الداخلي تحدث عندما يواجه الإنسان واقعًا يتناقض مع توقعاته. فالجماهير التي صبرت على الفساد لعقود، تتوقع أن تُحل كل المشاكل فورًا بعد سقوط النظام، وعندما لا يتحقق ذلك، تنتقل سريعًا من التأييد إلى الرفض، مما يسهل على الثورة المضادة اختراقها.
لبنان مثال آخر على ذلك. حين اندلعت ثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، امتلأت الساحات بالمحتجين المطالبين بإنهاء الفساد وإسقاط الطبقة السياسية. لكن مع مرور الوقت، بدأت المطالب تتشتت، وتحولت الحركة الاحتجاجية من قوة ضغط إلى حالة من الإحباط الجماعي. لعبت الأحزاب التقليدية على هذا الوتر، وبدلًا من أن تقدم حلولًا، دفعت نحو ترسيخ الفوضى الاقتصادية، حتى باتت الجماهير نفسها تطالب بالاستقرار بأي ثمن، ولو على حساب التغيير.
التاريخ يعيد نفسه.. كيف تُستنزف الثورات؟
ما يحدث في كل ثورة هو نمط متكرر، يمكن تلخيصه في ثلاث مراحل:
1 ـ التوقعات غير الواقعية: الجمهور ينتظر تحولات سريعة دون إدراك تعقيدات المشهد.
2 ـ المطالب التصعيدية: مع كل إنجاز يتحقق، تتزايد المطالب حتى تصبح غير قابلة للتنفيذ.
3 ـ استغلال النظام القديم للفوضى: عبر تأجيج الأزمات الاقتصادية والأمنية، ليجعل الجماهير نفسها تطالب بعودة "الاستقرار".
في الجزائر، بعد الحراك الشعبي الذي أطاح بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة، دخلت البلاد في مرحلة انتقالية معقدة. حاولت القوى العسكرية تقديم وعود بالإصلاح، لكن دون تفكيك فعلي لمنظومة الحكم السابقة. ومع تصاعد الإحباط الشعبي، بدأ الخطاب الرسمي يروج لفكرة أن الثورة لم تحقق شيئًا، وأن الحل الوحيد هو العودة إلى "حكم مستقر"، مما أدى إلى استنزاف الحركة الاحتجاجية تدريجيًا.
التغيير الحقيقي لا يتحقق بإسقاط الحكومات فقط، بل بترسيخ وعي جديد داخل المجتمع. الثورات التي تفشل هي تلك التي لم تستطع فصل نفسها عن الحالة العاطفية للجماهير، بينما تنجح الحركات الإصلاحية التي تدرك أن المعركة ليست في سرعة الإنجاز، بل في استدامة التحول. إذا لم يتغير وعي الشعوب، فستعود الأنظمة القديمة بأسماء جديدة، وستجد الجماهير نفسها تعيد إنتاج الطغيان الذي ثارت عليه، لأن المشكلة لم تكن في الحاكم وحده، بل في الثقافة السياسية التي سمحت له بالبقاء.ما الحل؟ نحو استراتيجية للتحصين ضد الثورة المضادة
إذا كانت الثورة المضادة تستغل الجماهير، فإن الحل يبدأ من الجماهير نفسها. يمكن تحقيق ذلك من خلال:
1 ـ إدارة التوقعات الشعبية
مصارحة الناس بأن التغيير التدريجي أكثر استدامة من التحولات الفورية.
تعزيز الوعي بأن بناء الدول يحتاج إلى سنوات، وليس مجرد قرارات سريعة.
2 ـ تفكيك الدولة العميقة بشكل مرحلي
تجنب الصدام المباشر مع المؤسسات القائمة، والعمل على اختراقها وإصلاحها من الداخل.
بناء بدائل تدريجية، حتى لا يكون إسقاط النظام مرتبطًا بفراغ إداري وأمني.
3 ـ حماية القيادات الثورية من الاستنزاف
ـ تحديد أولويات واضحة، بدلًا من محاولة حل جميع المشاكل دفعة واحدة.
ـ توزيع الأعباء على مختلف القوى، بحيث لا يُستهلك الزخم الثوري في تفاصيل يومية.
4 ـ تحصين الجماهير ضد الدعاية المضادة
ـ إنشاء منصات إعلامية مستقلة تشرح الحقائق بلغة مبسطة، دون تضخيم الإنجازات أو التهويل من الصعوبات.
ـ كشف أساليب التلاعب الإعلامي التي تستخدمها الثورة المضادة لإثارة الإحباط واليأس.
الثورة كعملية طويلة الأمد
التغيير الحقيقي لا يتحقق بإسقاط الحكومات فقط، بل بترسيخ وعي جديد داخل المجتمع. الثورات التي تفشل هي تلك التي لم تستطع فصل نفسها عن الحالة العاطفية للجماهير، بينما تنجح الحركات الإصلاحية التي تدرك أن المعركة ليست في سرعة الإنجاز، بل في استدامة التحول. إذا لم يتغير وعي الشعوب، فستعود الأنظمة القديمة بأسماء جديدة، وستجد الجماهير نفسها تعيد إنتاج الطغيان الذي ثارت عليه، لأن المشكلة لم تكن في الحاكم وحده، بل في الثقافة السياسية التي سمحت له بالبقاء.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات الثورات سياسة عرب رأي ثورات مآلات مدونات صحافة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الثورة المضادة
إقرأ أيضاً:
عندما تتكلم الشخصية مع نفسها.. كيف تنقل السينما ما يدور بذهن البطل؟
وفي هذا السياق، توضح ريتا خان في حلقة 2025/4/22 من برنامج "عن السينما" أن الفارق بين الرواية والسينما كبير، إذ إن الكاتب في الرواية يستطيع بسهولة وصف مشاعر وأفكار البطل مباشرة، في حين يواجه صانع الفيلم تحديا حقيقيا في نقل ما يدور في ذهن الشخصية إلى المشاهد.
ويلجأ الكتّاب والمخرجون إلى طرق عدة لنقل أفكار ومشاعر الأبطال، ومن أهمها ما يطلق عليه "صديق البطل"، وهو شخصية ثانوية غالبا ما تكون أقل ذكاء وجاذبية من البطل الرئيسي، ووظيفتها الأساسية أن تكون وسيلة للبطل للتعبير عن مشاعره وأفكاره من خلال الحوار معها.
وحفلت السينما عبر تاريخها بأمثلة كلاسيكية على شخصية "صديق البطل" في السينما، منها ثنائيات شهيرة مثل عبد الحليم حافظ وعبد السلام النابلسي، وكمال الشناوي وإسماعيل ياسين في السينما المصرية، وحتى شخصية شوباكا صديق هان سولو في أفلام حرب النجوم.
ويمكن ملاحظة أن مثالا مهما للأثر الكبير الذي تلعبه شخصية صديق البطل في فيلم "الناظر" لمحمد سعد يوضح كيف أن حذف شخصية "عاطف" صديق البطل من المشهد يجعله غريبا وغير منطقي، لأن الناس لا يتحدثون مع أنفسهم بصوت عال بشكل طبيعي.
كما لجأ بعض المخرجين إلى طرق جديدة ومبتكرة، مثل فيلم "كاست أواي"، حيث خلق البطل الذي يعيش وحيدا في جزيرة معزولة صديقا خياليا "ويلسون" عبارة عن كرة، ليتمكن من التعبير عن مشاعره.
إعلان
طرق أخرى
وطوّر مخرجون طرقا أخرى لنقل أفكار البطل، مثل التعليق الصوتي أو الصوت الداخلي (Voice-over)، كأفلام عالمية مثل "ذئب وول ستريت"، و"شاوشانك ريدمبشن"، أو مصرية مثل "إبراهيم الأبيض".
ورغم فعالية التعليق الصوتي فإن كثيرا من النقاد يعتبرونه "كسلا إبداعيا" من الكتّاب، ويؤكدون على أن إحدى أهم قواعد السينما هي تقديم حلول بصرية للتعبير عن الأفكار والمشاعر.
ويلجأ مخرجون آخرون إلى طرق إبداعية أخرى مثل الرسائل المكتوبة أو الصوتية كما في مسلسل "لعبة نيوتن" المصري، أو فيلم "بي إس آي لوف يو"، والأغاني التي يؤديها البطل كما في فيلم "لي ميزرابل".
واستخدم صناع بعض الأفلام تعليقا صوتيا بطريقة مبتكرة، مثل "فورست غامب" الذي كان فيه الصوت الداخلي عبارة عن حوار بين البطل ومجموعة من الغرباء، وفيلم "ذا غريت غاتسبي" الذي استخدم حوارا بين البطل وطبيبه النفسي.
وفي سياق متصل، قدّمت الحلقة قصة درامية عن عودة خان إلى زميليها السابقين عبود وعزام بعد أن تركت شركتهما "نو بادجيت" للعمل في شركة إنتاج كبرى، حيث تناقشوا بشأن إمكانية استئناف العمل معا بعد اكتشافها أن عملها الجديد لا يحقق طموحها في صناعة الأفلام بدلا من الإعلانات.
واقترح عزام أن يتقدموا لمنحة دراسية في تركيا لدراسة السينما، لكن عبود كشف عن خوفه من الطيران، في مشهد يجسد الفكرة الرئيسية للحلقة بشأن أهمية وجود شخصية ثانوية تساعد في إظهار مشاعر الشخصيات الرئيسية.
الصادق البديري23/4/2025