ويحكم كلكم يبكي.. فمن سرق المصحف؟
تاريخ النشر: 27th, February 2025 GMT
ويحكم كلكم يبكي.. فمن سرق المصحف؟
فتحي الضو
(1)عنوان هذا المقال هو عبارة عن مقولة جرت على لسان الإمام الفقيه مالك بن دينار، بعد خطبة عصماء وموعظة مؤثرة وجلت لها قلوب المصلين، وأبكتهم مراراً. وبعد أن انتهى بحث عن مِصحفه فلم يجده، وعلم أنه سُرق. فصوب بصره نحو المصلين وجال مُتفرساً ملامحهم علَّه يعرف السارق.
أما نحن فأمرنا عجب أيها العِالم الفقيه: نعرف جيداً من سرق المصحف. فلقد رأيناهم يتقدمهم الأنبياء الكذبة، وهم يقسِّمون بأنهم يريدون أن يخرجوننا من الظلمات إلى النور. لقد رأيناهم يسرقون وهم يعلمون إننا نعلم أنهم لسارقون والدموع تتفيض من عيونهم مدراراً. لقد رأيناهم يا سيدي وهم يبكون بحُرقة حرباً أشعلوا نارها وزكَّوا أوارها وهم يعلمون أنهم مخادعون. لقد رأيناهم أيها الشيخ الزاهد وهم يقتلون أخيارنا بدمٍ بارد لمجرد أنهم طالبوهم بالحرية والسلام والعدالة وكانوا يقهقهون. لقد رأيناهم يا مولاي وهم يُقسِّمُون وطناً ورثناه كابراً عن كابر بدعوى أنه أوسع مما نُريد وما سيتبقى يكفي ويزيد. لقد رأيناهم أيها العارف بالله يكنزون الذهب والفضة والدولار وقد انتفخت أوداجهم من أكل السحت وأموال الدولة بالباطل. سألناهم عن الخبز فقالوا ألا يكفيكم أننا نأكل نيابة عنكم. وطالبناهم بالحرية فقالوا تلك رفاهية لا تستحقونها. وأردنا الحياة فقالوا إن الموت أرحم لكم.
(3)أما بعد، ونحن في غمرة تساؤلاتنا الحيرى تلك، بدأت الحرب تفرز أشرارها، فاتضح لنا بجلاء إن مؤشرات دخول الوطن في النفق المظلم قد اتخذت أدواراً هزلية أو بالأحرى ما يسميه الجيولوجيون بتوابع الزلزال. فمن قبل أن تضع الحرب اوزارها بدأ أصحاب المطامع الرخيصة يجهزون في سكاكينهم من أجل أن يأخذوا حصتهم من (ثور) السلطة، ودموعهم لا تكف عن الهطلان. فلنتأمل معاً بانوراما الذين اجتمعوا في نيروبي لسماع ذلك اللحن الجنائزي لبلد عظيم. بلدٌ ذو تاريخ تليد وجذور ضاربة في القدم لكنهم يظنونه وُلد في 15 أبريل 2023م وأن الميثاق الذي فصلوا جلبابه على أنفسهم فيه القول الفصل. فمن هم الشعراء – يا هداك الله – ومن هم الغاوون؟
(4)هؤلاء وأولئك جاءوا تتقدمهم الحركة الشعبية لتحرير السودان (جناح الحلو) وما أقبلت إلا حينما أدبرت هروباً من الأسئلة الصعبة في حسابات الربح والخسارة على مدى سنوات التيه والضياع. ثمَّ جاء حزب الأمة القومي (فضل الله برمة) لكن الحزب شاء أن يقفز من المركب الغارق جبراً قبل أن تستوي على الجودي. ثمَّ جاء مهرولاً الاتحادي الديمقراطي أو الحزب الضرار، وكان كالعهد به لا حول له ولا قوة. أما مليشيا الدعم السريع فمن ذا الذي يقوى على وضع يده في يد فصيل كثير الخطايا عظيم الذنوب قبل أن تأخذ العدالة مجراها. أما بقية الأسماء (طويلة التيلة) فهؤلاء تحسبهم أيقاظاً وهم رقود.
وفي ما يلي جرد الحساب في نقاط لو كانوا يعلمون.
(5)أولاً: الميثاق الذي تمَّ التوقيع عليه مليئا بالثقوب- ما ظهر منها وما بطن- والتي سنكتفي بإيراد نماذج لا سيما وأن الظاهر والباطن كلاهما في بحر من الجرائم يسبحون. وتتكاثر القضايا المفصلية التي ظل يعتورها جدل عقيم منذ أن خُلق السودان في كبد ووضع على الخارطة بحدوده السياسية والإدارية القائمة الآن. مثل أطروحة العلمانية وحق تقرير المصير وهوية الدولة وقضايا المؤتمر الدستوري فهل قرأوه أم بالغيب يرجمون؟
ثانيا: على الرغم من أن أول القصيدة كفر كما ذكرنا إلا أن خيالي لم يشطح بتاتاً ليقول للناس إن من كتب هذا الميثاق افترى على الشعب السوداني كذباً. ذلك بأنه نيابة عن أربعين مليون سوداني قطع بالقول الواحد في مسألة دستورية تتطلب إجماع الأمة السودانية، التي ظلَّ خيارها يكابدون الأمرين في الاجتهاد منذ الاستقلال ليقولوا للناس إن أزمتنا المؤسسية تكمن في كيف يحكم السودان، وليس في من يحكم السودان؟ فإذا بجيل البطولات المجتمعين في نيروبي يقول لجيل التضحيات القابض على الجمر انتهى الأمر الذي كُنتم فيه تستفتيان. فسموا مولودهم الخديج (جمهورية السودان الفيدرالية). وما زاد الأمر ضغثاً على إبالة، إن المُدَّعين ليس لديهم شرعية تستر عورتهم الدستورية، وهذا ما نقول عنه: الفجور في تضخيم الذات.
ثالثاً: إذا افترضنا جدلاً أن هذا الميثاق ليست عليه ملاحظات سالبة مما ذكرنا أو لم نذكر، وأن كل الفقرات مبرأة من العيوب القانونية والتنظيمية والدستورية. وأنه سيتمخض عن حكومة ترضي طموحات المُهرولين. عندئذ يُواجههم السؤال الذي تعز إجابته: وهو أين سيكون مقر هذه الحكومة جغرافياً؟ فنظرياً قالوا إنها سوف تكون في مناطق سيطرة الدعم السريع، وهذا تمنٍ أكثر من كونه واقعاً بلسانٍ وشفتين. وإن شاءوا أن يهدوه النجدين، فذلك يعني حرباً أهلية بين الغريمين أشد ضراوة ولا ثالث لها، أي حتى يفِني أحدهما الآخر. ولا مناص عندئذٍ سوى أن تتنقب الحكومة الموازية وتعود إلى كينيا حكومة في المنفى.
رابعاً: من يا ترى ذلك العبقري الذي كُشفت له الحُجُب وسماها حكومة السلام. فالأمر ليس رهن التمنيات إنما هنا المقام الذي تعلو فيه أجندة البراجماتية في أبهى معانيها. فإذا ما كان هذا هو العمود الفقري للميثاق بهذه الرخاوة فما الذي تبقى ليطمح له الموقعون. ليت الذين يحاولون التذاكي يعلمون أن الأمر ليس في حكومة أمر واقع وإنما في مصير بلد يزحف نحو التشظي والفناء والهاوية وأن ما اغترفته أيديهم يستحق الحساب والعقاب والإدانة.
خامساً: ما ذكرنا هو درنٌ من فيض، ونحن نعلم أن دماء الشهداء أطهر من أن تُثار وتُذكر ضمن هذا العبث. ويا أيها العالم الجليل مالك بن دينار: أعلم أن الحاضرين هم من سرق المصحف ووراء دموعهم يختبيء المجرمون الحقيقيون. والغائبون هم جموع الشعب السوداني الصابر لأنهم أنبل من أن ينسون!
آخر الكلام:لابد من الديمقراطية والمحاسبة وإن طال السفر.
[email protected]
الوسومالاستقلال الدعم السريع الديمقراطية السودان العلمانية المؤتمر الدستوري حق تقرير المصير حكومة السلام فتحي الضو كينيا مالك بن دينار ميثاق نيروبيالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الاستقلال الدعم السريع الديمقراطية السودان العلمانية المؤتمر الدستوري حق تقرير المصير حكومة السلام فتحي الضو كينيا ميثاق نيروبي
إقرأ أيضاً:
اليُتْمُ الذي وقف التاريخُ إجلالًا وتعظيمًا له
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
بعد أن انتهيتُ من قراءة كتاب "عبقرية محمد" للمفكرِ العملاقِ عباس محمود العقاد، تذكَّرتُ على الفورِ قول اللهِ جلَّ جلالُهُ للنبيِّ الكريمِ سيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم: "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ"، فأدركتُ السرَّ في انجذاب كلِّ من اقترب من سيرته العطرة، وتذكرتُ على الفور أنه ليس هناك متشهدٌ ولا صاحبُ صلاةٍ إلا ويلهجُ باسمه... وكلُّ من سيقرأُ ما كتبهُ المفكرون عن شخصية النبيِّ الكريمِ قديمًا وحديثًا، سيعرف أثر كرم الله على نبيَّه برفع ذكره منذ مولده وإلى قيام الساعة.
ولذا، لم يدهشني إهتمام الكُتَّابِ في الشرق والغرب به، وقد قرأتُ بإعجابٍ شديدٍ آخرَ ما صدر من مؤلفاتٍ في الغرب عن خيرِ خلقِ اللهِ أجمعين، للكاتبةِ والمفكرةِ البريطانية "كارن أرمسترونج"،وهي مَنْ ؟ إنها الكاتبة المرموقة والباحثة الماهرة التي تتجنُّب التحيُّز الشخصي، ولا تُصدر الأحكام إِلَّا بعد فحص ما لديها من أدلَّةٍ وبراهين بتجرُّدٍ وشفافية، وقد كرَّست حياتها لدراسة الأديان السماوية، مثل الإسلام والمسيحية واليهودية، وكان كتابها "محمد: سيرة النبي"، والذي صدر عام ١٩٩١ وفيه قدَّمت فكرًا عميقًا، يُعدُّ هذا المؤلف من أبرزِ الأعمالِ التي قدَّمت رؤيةً موضوعيةً ومنصفةً عن النبيِّ الكريمِ في العالم الغربي. كما يُعدُّ جسرًا مهمًّا بين الثقافات، ودعوةً للحوارِ والتفاهمِ بين الأديان، بعيدًا عن الصور النمطيةِ والتشويهِ الإعلامي، فقدأَثْبَتَتْ فِي مُؤَلَّفِهَا هذا بأن النبي العظيم رجلًا ذا رؤيةٍ أخلاقيةٍ عَمِيقَةٍ...
ومن إنصافِها فى كتاباتها قالت: "كان محمدٌ رجلًا حنونًا، متواضعًا، وقائدًا بارعًا، لم يسعَ للسلطةِ بقدر ما كان يسعى لإحداث تغييرٍ أخلاقيٍّ عميقٍ في مجتمعه."
كما تناولت الكاتبةُ والباحثة دورَ النبيِّ الكريم في تحسينِ مكانةِ المرأةِ في المجتمع، حيث أشارت إلى أنه منحَ المرأةَ حقوقًا لم تكن موجودةً في الجاهلية، مثل حقِّ الإرث، وحقِّ التعليم، وحقِّ الاختيارِ في الزواج. وكان يسعى لتحريرِ المرأةِ من القهرِ الاجتماعي، ويدعو إلى معاملتها بكرامةٍ واحترام.
ولها أيضًا رأيٌ حرٌّ جريءٌ، إذ أكَّدت أن النبيَّ الكريمَ كان يسعى دائمًا إلى الحلولِ السلمية، وأن المعاركَ التي خاضها كانت دفاعية، ولم تكن من أجل التوسع أو فرض الدين بالقوة... وبذكاءٍ شديدٍ، اختارت صلح الحديبية وقالت عنه: "كان دليلًا واضحًا على براعةِ النبيِّ الكريم في إدارة النزاعاتِ بالسِّلمِ والحكمة، لأنه كان يؤمن بأن السلام هو الوسيلةُ الأقوى لنشرِ رسالته."
وهذه الشهادةُ من هذه الباحثة والتي تُعَدُّ واحدةً من أبرز الْباحثين في الأديان المُقَارَنَةِ تدحضُ الصورةَ السلبيةَ التي رسمها بعضُ المستشرقين لهذا النبي العظيم...
وقد تصدى لهؤلاء المستشرقين والشانئين المفكر الكبير عباس محمود العقاد في مواجهة هذه الافتراءات، حيث قال في كتابه الهام "عبقرية محمد": “إن التاريخ هو فيصل التفرقة بين محمدٍ وشانئيه، فحكمُه أنفذُ من حكمِ الشانئين والأصدقاء، وأنفذُ من حكمِ المشركين والموحدين، وأنفذُ من حكمِ المتدينين والملحدين... إنه حكم الله، وقد حكم له أنه كان في نفسه قدوة المهذَّبين، وكان في عمله أعظمَ الرجال أثرًا في الدنيا، وكان في عقيدته مؤمنًا يبعث الإيمان، وصاحبَ دينٍ يبقى ما بقيت في الأرض أديان، وسيطلع في الأفق هلالٌ، ويغيبُ هلالٌ، وسيذهب في الليل قمرٌ، ويعودُ قمرٌ، وتتعاقب هذه الشهور التي كأنها جُعلت التاريخَ ما بين الصدور، لأن الناس لا يؤرخون بها مواسمَ الزرع، ولا مواعيد الأشغال، ولا أدوار الدواوين والحكومات، ولا ينتظرونها إلا هدايةً مع الظلام، وسكينةً مع الليل: أشبه شيءٍ بهداية العقيدة في غياهب الضمير”.
وقبل أن يَخْتِمَ الكاتب الكبير عباس محمود العقاد صفحات كتابه "عبقرية محمد"، اختار يوم هجرة النبي إلى المدينة فكتب: "ستطلع الأقمار بعد الأقمار، وتقبل السنة القمرية بعد السنة القمرية، وكأنها تقبل بمعلمٍ من معالم السماء يوميء إلى بقعةٍ من الأرض: هي غار الهجرة، أو يوميء إلى يومٍ لمحمدٍ هو أجملُ أيامِ محمد، لأنه أدلُّ الأيام على رسالته، وأخلصها لعقيدته ورجاء سريرته، وهو يوم التقويم الذي اختاره المسلمون بإلهامٍ لا يعلوه تفكيرٌ ولا تعليم..."
ختامًا.. لقد عشتُ أوقاتًا ممتعةً مع كتاب "عبقرية محمد" للمفكر الكبير عباس محمود العقاد، ومن خلال صفحات هذا الكتاب شاهدت التاريخ يقف إجلالًا وتعظيمًا لهذا اليتيمِ الذي بُعث رحمةً للعالمين.. صلى الله عليك وسلم يا خير خلق الله أجمعين...
اللهم إنا نُشهدك أنه بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فاللهمَّ اجزه عنا خير ما جزيتَ نبيًّا عن قومه، ورسولًا عن رسالته...
ولنا لقاء الأسبوع القادم، بإذن الله، مع قراءة فى كتاب ممتع جديد...