في خطابٍ أمام مجلس الأمن، لم يكتفِ مندوب السودان لدى الأمم المتحدة، الحارث إدريس، بإنكار حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها السودانيون، بل حوَّل المنصة الدولية إلى مسرحٍ لتبرير استمرار الحرب، عبر خطابٍ يعكس تناقضات السلطة الحاكمة في الخرطوم، ويفضح أولوياتها العسكرية والأمنية على حساب حياة المدنيين. هذا الموقف ليس مجرد "رفض لوقف إطلاق النار"، بل جزء من استراتيجية أوسع تُعقِّد الأزمة وتُعمِّق جذورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.


السياق الخفي حرب النخب وصراع الهيمنة
لا يمكن فهم إصرار الحكومة السودانية على رفض وقف إطلاق النار دون الغوص في طبيعة النظام الحاكم وتحالفاته الداخلية. فالحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ليست صراعًا عسكريًّا فحسب، بل هي تعبير عن أزمة شرعية سياسية متجذرة منذ الإطاحة ببشير، حيث تتنافس النخب العسكرية والأمنية على موارد الدولة والنفوذ.
اقتصاد الحرب تُدرِّ الحرب أرباحًا هائلة على تحالفات النخب الحاكمة وتجار السلاح، عبر تهريب الذهب والموارد الطبيعية، ما يُفسِّر عدم وجود حافز حقيقي لوقفها.
التوازنات الإقليمية دعم دول مثل مصر والإمارات للجيش السوداني، وارتباط قوات الدعم السريع بدول أخرى، يحوِّل السودان إلى ساحة لصراعات بالوكالة، ما يُطيل أمد الحرب.
خطاب الإنكار من التضليل إلى التبرير
تحوَّل خطاب المندوب السوداني إلى أداة لـتضليل دولي عبر-
تزييف الواقع الإنساني: الحديث عن "عودة مليوني نازح" يتناقض مع تقارير الأمم المتحدة التي تُشير إلى نزوح 8.6 مليون شخص، وتصنيف السودان كأسوأ أزمة نزوح في العالم. بل إن منظمات مثل "أطباء بلا حدود" تُحذِّر من مجاعة كارثية في دارفور، حيث يُمنع وصول المساعدات بسبب الحصار العسكري.
شروط تعجيزية ربط وقف إطلاق النار برفع الحصار عن الفاشر يُستخدم كذريعة لاستمرار القتال، بينما تُهمَل مناطق أخرى مثل نيالا والجنينة التي تشهد مجازر يومية. الفاشر نفسها لم تُحوَّل إلى ممر إنساني، بل إلى ورقة تفاوضية.
خطاب ازدواجي الحكومة تتحدث عن "حماية المدنيين" بينما تقصف أحياء سكنية في الخرطوم بالطيران الحربي، وتُجيِّّش الميليشيات القبلية في دارفور، ما يُذكِّر بجرائم الحرب خلال النزاع الدارفوري السابق (2003-2020).
الأبعاد الإنسانية جريمة ضد الإنسانية مُستمرة
المأساة تتجاوز الأرقام إلى تفكيك النسيج الاجتماعي للسودان -
انهيار النظام الصحي 80% من المستشفيات خارج الخدمة، وانتشار الأوبئة مثل الكوليرا بسبب تلوث المياه.
تجنيد الأطفال تقارير أممية تؤكد استخدام الأطراف المتحاربة لأطفال في القتال، خاصة في غرب دارفور.
عنف جنسي منهجي تُوثِّق منظمات محلية زيادة بنسبة 300% في حالات الاغتصاب كسلاح حرب.
الدور الدولي صمتٌ مُتواطئ أم فشل مؤسسي؟
موقف مجلس الأمن يُظهر عجزه عن فرض حلول، بسبب -
انقسامات دولية - روسيا والصين تعارضان فرض عقوبات على أطراف الصراع، بينما تُركِّز الدول الغربية على أزمات أخرى مثل أوكرانيا.
تقاعس الاتحاد الأفريقي - عدم تنفيذ الاتفاقية الإطارية (ديسمبر 2022) التي كانت تهدف لتسليم السلاحة للمدنيين.
تسييس المساعدات - الجهات المانحة تتعامل مع الأزمة كقضية إغاثة دون ضغوط سياسية حقيقية لوقف الحرب.
مستقبل السودان- هل من مخرج؟
استمرار الوضع الراهن يُهدِّد بتحويل السودان إلى دولة فاشلة، لكن الحلول تتطلب-
ضغوط دولية غير تقليدية تجميد أصول القيادات العسكرية المتحاربة، ومحاكمتها بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية.
إشراك المجتمع المدني دعم مبادرات الشباب والنساء السودانيات (مثل تجربة لجان المقاومة) كأطراف فاعلة في أي حوار وطني.
وقف التمويل الخارجي للأطراف المتحاربة: عبر فرض عقوبات على الدول التي تُزوِّد الأطراف بالسلاح.
السودان بين مطرقة النخبة وسندان التضامن الدولي الفاشل
خطاب المندوب السوداني ليس سوى عرضًا لانفصال النخبة الحاكمة عن الواقع. فالحكومة، التي فقدت السيطرة على 60% من الأراضي السودانية، تُحاول تصدير نفسها كضحية للحصار، بينما ضحاياها الحقيقيون هم المدنيون الذين صاروا وقودًا لحرب لا تُبقي ولا تذر.
السودان لم يعد بحاجة إلى وعود سياسية، بل إلى تدخل جذري يُعيد الاعتبار لحياة الإنسان قبل الجغرافيا السياسية.

zuhair.osman@aol.com

   

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

قراءات إسرائيلية في خطاب نتنياهو.. ترك أسئلة بدون إجابات

ترقب الإسرائيليون مطولا بث الخطاب المسجل لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وما تضمنه من أسباب عدم التوصل إلى صفقة تبادل أسرى، واستمرار الحرب حتى هزيمة حماس، مما يفسح المجال للتعرف على خطته للمرحلة القادمة، وهو ما قامت به "القناة 12"، من خلال تقرير ترجمته "عربي21" لاستنطاق مراسليها.

يارون أفراهام مراسل الشؤون الحزبية، أكد أن "بيان نتنياهو ترك العديد من الأسئلة دون إجابة، فقد قال إنه لا نهاية للحرب، لكن لماذا وافق على وقف إطلاق نار طويل الأمد في الشمال، مع عدو كبير لا يحتجز رهائن، لكنه لم يوافق على وقف إطلاق النار في الجنوب، في مواجهة عدو أضعف يحتجز رهائن؟ ولم يتم تقديم إجابات فيما يتصل بقضية قطر-غيت، أو قضية مستشاره فيلدشتاين".



نير دافوري المراسل العسكري ذكر أن "تصريحات نتنياهو ربما تشير لمعركة احتواء يخوضها ضد الانحراف في الرأي العام الإسرائيلي، فهو يوضح لماذا، حسب رأيه، لا يمكن التوصل لاتفاق مع حماس، ويجب أن تستمر الحرب حتى هزيمتها، لكن السؤال ما إذا كانت العملية في غزة مرهقة في حد ذاتها، وربما لا تؤدي للنتيجة التي تأملها الاحتلال، ومن هنا علينا أن نرى أين نحن ذاهبون، فهل يستطيع نتنياهو فعلاً أن يذهب لإخضاع الحركة، رغم أنها خطوة تتطلب مشاركة مئات الآلاف من جنود الاحتياط، وتعبئة الدولة بأكملها".

عاميت سيغال محلل الشؤون السياسية رأى أن "نتنياهو قدم لأول مرة تفسيراً لسبب عدم صحة الحجة القائلة بأنه يمكن إرجاع جميع المختطفين، ثم العودة للقتال، فقد كان التلميح لمجلس الأمن واضحا: إن مطالبة حماس بإنهاء الحرب، حتى لو افترضنا أنهم سيعيدون الجميع، ولن يتركوا أي إسرائيلي في أيديهم للمساومة، هو قرار من مجلس الأمن لإنهاء الحرب، وحينها لا يمكن التراجع عن مثل هذا القرار".

وأكد أنه "من الواضح أن الجزء الحالي من العملية استنفد نفسه، فلم يتخيل أحد أنها ستؤدي لانهيار حماس، بل مجرد تحضير للمرحلة التالية، إما ممارسة ضغوط شديدة عليها كي توافق على مخطط ويتكوف، وتطلق سراح عشرة رهائن أحياء، ونحو 15 أموات، أو إعداد الظروف المثلى للهجوم النهائي على قطاع غزة، وهذا يعني احتلال غزة من أجل البقاء، وتوزيع المساعدات الإنسانية عبر شركة أمريكية، وخنق حماس من منظور حكومة مدنية".



ديفنا ليئيل خبيرة الشؤون البرلمانية أكدت أنه "بما أننا أمام تصريح مسجل، فلم تكن لدى نتنياهو فرصة لتحقيق ما يريده، لدى الجمهور أسئلة صعبة، وعندما لا تتاح الفرصة لطرحها، فلن يتم تقديم الإجابات، ولذلك فلم يُسأل عن كيفية استخدامه لطريقته لإعادة جميع المختطفين، ويأتي ذلك بعد تصريح المتحدث باسمه اليوم، الذي زعم أن الكلمات أُخرجت من سياقها، ولا يعطي إجابة بشأن ما ينوي فعله، وأين سيقود الحملة، ولا يوجد ضمان لعائلات المختطفين بأي شيء ملموس، ولأنه يريد الضغط العسكري، فلا يقدم أي معلومة تتصل بصفقة الرهائن".

مقالات مشابهة

  • الجيش السوداني يوجه ضربة حاسمة ضد ميليشيا الدعم شمال الفاشر
  • مكون الحراك الجنوبي يشيد بمضامين خطاب الرئيس المشاط
  • المفارقات في المشهد السوداني!
  • مؤتمر لندن.. ما هي مجموعة الاتصال الدولية التي أراد تشكيلها
  • يجب منح الجهاز صلاحيات جديدة تتناسب مع حالة الحرب وتتلاءم مع طبيعة المهددات الأمنية التي تهدد السودان
  • مجموعة منشقة من صندل تكشف أسباب وقوفها مع الجيش السوداني 
  • مقتل النور: عندما تخلى العالم عن السودان للإبادة الجماعية لمدة عامين كاملين
  • قراءات إسرائيلية في خطاب نتنياهو.. ترك أسئلة بدون إجابات
  • لن تستطع بريطانيا ان تفرض على السودان ما لا يريده الشعب السوداني
  • تعيينٌ في قلب العاصفة-قراءة في تعيين السفير عمر الصديق وزيرًا للخارجية