أنظر إلى ما جرى في الساعات الأولى من صباح يوم 23 فبراير 2025 في قاعة المؤتمرات في نيروبي، بوصفه حدثًا تاريخيًّا فريدًا في السياق السياسي السوداني المعاصر. فقد جرى التوقيع على هذا الميثاق التأسيسي بعد مفاوضات عسيرة، تسببت في تأجيل حفل التوقيع بضع مرات. وحتى بعد أن اكتمل الحضور في القاعة للتوقيع لم يظهر الموقعون إلا في الساعات الأخير من الليل.

يمثل هذا الميثاق التأسيسي في نظري بارقة أملٍ في طريق بناء السودان الجديد الذي طالما ظللنا نتطلع نحوه. وأرجو أن يكون طوق النجاة الذي ننعتق به من قيود حقبة طويلة اتسمت بالبؤس وبالتعاسة وبالتراجع عن مكتسبات التقدم. فلقد عشنا منذ الاستقلال وغلأى اليوم حقبةً امتدت لسبعين سنة لم نر فيها سوى سفك الدماء وتدمير بنى الدولة ونهب مواردها الاقتصادية. وقد جرى كل ذلك، فقط، لكي تنعم طبقة صغيرة جدًا من العسكريين والسياسيين ورجال المال والأعمال بالسلطة وبالثروة والوجاهة. اتسمت هذه الطبقة بالنهم وبالأنانية وبفعل كل الموبقات لخدمة الذات من أجل احتكار ثروات البلاد وحراستها من ثورات السكان؛ ما كان منها سلميًا وما كان مسلحًا، ومنعهم أخذ نصيبهم العادل منها. لم تعبأ هذه الطبقة المسيطرة المركبة، مترابطة المصالح ومتشابكتها، قط، بإفقار الشعب وبتدمير بنى الدولة وجرها إلى الوراء باستمرار. حتى أصبح السودان والأمة السودانية أضحوكة بين الأمم وموضع عين كل طامع في خيراتها الثرة.
طبقة زئبقية
هذه الطبقة زئبقية الخصائص، شديدة البراغماتية، يصعب الإمساك بها. فقد تعلَّمت كيف تلعب على عددٍ من الحبال. فقد اكتسبت عبر تجربتها في السيطرة، من المهارة ما جعلها تخدم مراكز خارجية متضاربة المصالح. لكن، رغم ما يبدو على هذه الطبقة من تضامنٍ شديدٍ فيما بينها لحماية مصالحها، فإن لها، ايضًا، صراعاتها الداخلية، التي تحتد حينًا وتتراجع حدتها حينًا آخر. وهناك مركزان خارجيان بارزان تخدمهما هذه الطبقة: أحدهما أيديولوجي مثلَّته في الخمس وتلاثين عاما الماضية منظومة الإسلام السياسي الدولية. أما المركز الآخر، فهو مركز جيوسياسي وجيواستراتيجي تاريخي، ويتمثل في الدولة المصرية وأطماعها التاريخية في السودان. تستقوى هذه الطبقة الناهبة بالدولة المصرية طلبًا للسند العسكري والسياسي والدبلوماسي في الإقليم وعلى المستوى الدولي. وقد اضطرت الظروف هذه الزئبقية، التي كانت خفية في الماضي، لكي تخرج إلى العلن في سنوات البرهان الخمس الأخيرة هذه، بالغة البؤس والقبح.
لهذه الطبقة أداتان لحراسة إجرامها، وتتمثل هذان الأداتان، من جهةٍ، في الجيش والمنظومة الأمنية الباطشة وإعلامها مدفوع الأجر. وتتمثل من الجهة الأخرى في الخطاب الديني الشعبوي التضليلي التخديري الفج، الذي تستخدمه في قتل روح المطالبة بالحقوق في السلطة والثروة، وفي ستر عريها الأخلاقي الفاضح. ولقد استطاعت الحركة الاسلامية منذ أن كان اسمها "جبهة الميثلق الإسلامي"، في ستينات القرن الماضي، أن تبتز بالشعار الديني الحزبين الكبيرين؛ الأمة والاتحادي. وللأسف فقد جاراها هذا الحزبان بالانخراط معها في قضية حل الحزب الشيوعي السوداني. الأمر الذي قاد هذين الحزبين إلى خرق الدستور وتقويض النظام الديمقراطي من الداخل. وقد قام هذا الحزبان بهذا الفعل خوفًا من أن تسحب منهما جبهة الميثاق الإسلامي بقيادة حسن الترابي جماهيرهما المحبة للدين. وهكذا بقي الإسلامويون يسجنون هذين الحزبين الطائفيين في هذا الإطار ويشلونهما، حتى نفذا ضدهما انقلاب يونيو 1989، ليحكم الإسلامويون البلاد منذ تلك اللحظة وإلى اليوم بقبضةٍ من حديد.
لقد نجح الإسلامويون عبر آلتهم الإعلامية واستقطابهم لأئمة المساجد وسيطرتهم على الخطاب الذي يبث منها أن يبتزُّوا الأحزاب السياسية، وعامة الناس كذلك، عبر الإرهاب الديني. لقد نجحوا في أن يخلقوا خطوطًا حمراء بلغت أن جعلت الحديث عن علمانية الدولة كفرًا بواحا. فأصبح السياسيون يتلعثمون عند الحديث عنها حتى بلغ هذا الارتباك أن شمل تحالف "ق ح ت"، و"ت ق د م"، اللذين أُنيطت بهما خدمة أهداف ثورة ديسمبر. مارس الإسلامويون هذا الابتزاز الرخيص، في حين أن أكثر ثلاث دول تتسم بغلبة المسلمين الساحقة على سكانها، والتي تتميز بأنها الأكثر تقدُّمًا من حيث الاقتصاد والصناعة والتعليم والتنمية البشرية، هي دولٌ نظام الحكم فيها علماني وليس دينيّا. هذه الدول هي إندونيسيا وماليزيا وتركيا. وهذا جانبٌ من زئبقية و"استهبال" قومنا هؤلاء، الذين يشيطنون التوجه إلى جعل نظام الحكم في السودان علمانيا، وفي نفس الوقت، يحبون الحج والاعتمار، بل والإقامة في إندونيسيا وماليزيا وتركيا. بل، وفي مدينة دبي المركز المالي العالمي الذي يمارس انفتاحًا يبلغ حد الانفلات. كما يحبون الالتصاق بمصر العلمانية التي أخرست صوت إخوانهم هناك بالحديد والنار.
حزبا الأمة والاتحادي الجديدان
الميثاق التأسيسي الذي جرى توقيعه في مدينة نيروبي نص ولأول مرة في تاريخ السودان الحديث المستقل، على علمانية نظام الحكم دون تلعثم أو مواربة. كما نص على تحريم قيام الأحزاب على أساس ديني. والأهم من ذلك، أن الحزبين التاريخيين الكبيرين، تحت قيادة اللواء م.، فضل الله برمة ناصر والسيد، إبراهيم الميرغني، قد أخرجا الحزبين، ولأول مرَّة من دائرة الابتزاز الإخواني، بقبولهما، دون مواربةٍ، بعلمانية نظام الحكم. وسيصبح هذان الحزبان بصورتهما الجديدة هذه مَركزَيْنِ جذب لشباب الاتحاديين وشباب حزب الامة. فهذا الميثاق التأسيسي، بصورته هذه، التي لا مجال لعرض كل نقاطه هنا، فليقرأ نصه الكامل في مظانه من يشاء، إنما يمثل منعطفًا تاريخيًّا كبيرا. بهذا الميثاق ندخل منعطف الفرز الواضح بين قوى الثورة الحقيقية وناشدي التغيير المستدام، وبين من يريدون الازورار من مجابهة أس المشكل السوداني المزمن، وممارسة التكتيكات الوقتية البئيسة العقيمة، غير المنتجة. أعني: السير في درب الإمساك بالعصا من المنتصف انكسارا أما الابتزاز بالدين؛ إما بسبب ضبابية الرؤية وانعدام الوعي الديني الصحيح، أو بسبب الانهزام والأنكسار أمام أساليب الشيطنة والتخوين الديني "الأخونجية" المعهودة. المهم أن بداية الفرز للقوى الحية والقوى الميتة قد بدأت. وأن مرحلةً جديدةً من مراحل الثورة قد أخذت تتشكل في الواقع المتصدع. ولسوف ينحاز كثيرون في هذا المنعطف الفارق إلى بنية القديم، من مسافات متفاوتة، لكنهم حتمًا سوف يندرسون معه.
الحلو وقسما "تقدم" الحي والميت
زار رئيس الوزراء المُنقلَب على شرعيته عبد الله حمدوك، القائد عبد العزيز الحلو في الأراضي المحررة في كاودا، قبل بضع سنوات. لكن لم يسفر ذلك اللقاء عن الإتيان بالقائد الحلو إلى جانب مسار الثورة وفق ما كان يجري من منظومة الحكم القائمة حينها. ثم مرت الأيام وتغير المسرح وجاءت الحرب اللعينة، التي أشعلها البرهان والإسلامويون ومن ورائهم مصر، لتضع الجميع في ملعب جديد. هذا الملعب الجديد يقتضي تفكيرًا جديدًا وأدواتٍ جديدة. لقد قرأ القائد عبد العزيز الحلو، هذا الوضع الجديد قراءةً صحيحة، خاصةً عقب اتقسام "ت ق د م"، وتشكيل قطاعٍ كبيرٍ منها، ممثلاً في أحزابٍ لها وزنها، إضافة إلى غالبية الجبهة الثورية وقوى مدنية وأهلية عديدة، هذا التحالف العسكري المدني الجديد. فـ (ت ق د م) الآن جسمان: أحدهما حيٌّ، وهو الذي انحاز لهذا الحلف الجديد. أما الآخر فقد بقي يطالب بوقف الحرب عن طريق المناشدة الخطابية، وحدها، وهو في تقديري في طريقه إلى الموت.
لقد كانت تجربة السلمية عظيمةً، بلا شك. لكنها كانت في مواجهة بنية حكمٍ فاشيِّ الطابع، لن ينجح معها أسلوب السلمية. فقد حكمنا الإسلامويون حتى الآن بقوة السلاح والقبضة الأمنية. وقد بلغوا في ذلك الآن حد الارهاب بجز الرؤوس وبقر البطون والقتل العشوائي. لقد خدمت السلمية غرضها حتى استنفدته تماما. ولم تعد تملك مسرحًا تمارس فيه سلميتها، بل ولا فرصة للعودة لممارستها من جديد، والبرهان وقومه لا يزالون في أماكنهم. اقتضى هذا الوضع الجديد ميثاقًا سياسيًا واضحًا، ينص على علمانية نظام الحكم وعلى التحول الديمقراطي، والتعددية الثقافية، وعلى وحدة الأقاليم الطوعية، وتوحيد الجيوش، وابعاد الجيش عن السياسة والأنشطة الاقتصادية، واعتماد الشفافية في الإدارة المالية للدولة. لكن، مع حمايةٍ بالسلاح لهذا التوجه ولفرض السلام بالشوكة على من ظلوا يرفضونه، عبر كل تاريخهم في الحكم مستخفِّين بمن لا يحمل سلاحا. بهذه الانعطافة التاريخية الفارقة، نعود إلى نهج جون قرنق: حركةٌ سياسية ببرنامج واضح للتغيير، وذراعٌ عسكريُّ قويٌّ مساند. لقد توافق في هذا المنعطف الخط الذي كان يسير عليه القائد المناضل عبد العزيز الحلو، مع الخط الجديد الذي اجترحه قطاعٌ كبيرٌ من "ت ق د م" بإعلان حكومةٍ في الأراضي التي يسيطر عليها قوات الدعم السريع. توحدت الآن البندقية وتوحدت الرؤية السياسية بعد أن خرجت من دائرة الابتزاز الديني التاريخي الذي مارسه الإسلامويون على القوى السياسية. هذا الوضع لم يفهمه شق "ص م و د" المتبقِّي من "ت ق د م". وأُرجِّح أن ينقسم هذا الشق مرة أخرى. وللأسف، فإن القسم الأفضل منه سوف يموت. وأما الشق الثاني، فسوف يندغم في الخطة المصرية البرهانية الإسلاموية.
يتواصل

elnourh@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: المیثاق التأسیسی هذا المیثاق نظام الحکم هذه الطبقة

إقرأ أيضاً:

كيف أدت الحرب إلى تغيرات تركيب الطبقة العاملة السودانية؟ (١/٢)

بقلم : تاج السر عثمان
١
نتابع فى ذكرى أول مايو يوم العمال العالمى، المتغيرات التي أحدثتها الحرب اللعينة التي دخلت عامها الثالث في تركيب الطبقة العاملة السودانية، حسب الاحصائيات الرسمية تضرر حوالي 90% من القطاع الصناعي في السودان نتيجة الحرب.
، وتم تدمير 3493 منشأة صناعية، وتشريد الآلاف العاملين، وانتقال صناعات من الخرطوم التي كانت تمثل مركز ثقل الصناعة في السودان الي بعض الأقاليم. وقبل متابعة المتغيرات التي أحدثتها الحرب، نعيد للمتابعة وربط التطورات، نشر هذه الدراسة عن المتغيرات في تركيب الطبقة العاملة فى الفترة (١٩٥٦ - ٢٠١١).
٢
برزت وتطورت الطبقة العاملة السودانية منذ بداية القرن الماضي عندما قامت مشاريع الإدارة الاستعمارية الحديثة ( سكك حديدية ، ميناء ، محالج ، مشاريع زراعية حديثة – عمال زراعيين) اضافة الى العاملين في الصناعات الخفيفة التي قامت في المناطق الصناعية في العاصمة وبقية المدن. وكانت تلك الطبقة متفاوتة ومتباينة في الدخل وفى التعليم المهني والأكاديمي وفى المشارب السياسية والفكرية ، وفى الأصول الاجتماعية ، وانحدرت إما من المزارعين والرعاة الذين تركوا الزراعة والرعى في الريف ونزحوا إلى المدن التي تطورت مع النهضة الحديثة ، أو من الأرقاء الذين تم تحريرهم في بداية القرن العشرين ( تم إلغاء نظام الرق مع اتفاقية الحكم الثنائي في بداية 1898 م ) ، وفى عام 1932م تم تصفية نظام الرق نهائيا وساد نظام العمل المأجور ، والذين شكلوا مصدرا للعمالة في الصناعة والزراعة وفى أعمال البناء والمقاولات والخدمات والأعمال المنزلية ، ... الخ .
ويمكن تقسيم هذه الطبقة إلى قسمين :
_ العمال المهرة ( أو الفنيين ) : وهم خريجو المدارس الصناعية والفنية أو معاهد التدريب الحرفي التي كانت موجودة آنذاك .
_ العمال غير المهرة .
هذا وقد كان دور العمال المهرة أو الفنيين كبيرا في الدفاع عن حقوق ومصالح الطبقة العاملة وكان لهم شرف المبادرة في انتزاع حق التنظيم النقابي عام 1947 م .
٣
هذا وترجع جذور الطبقة العاملة السودانية إلى فترة الحكم التركي _ المصري عندما تم غرس بذرة نمط الانتاج الرأسمالي الذي يتمثل في الارتباط بالنظام الرأسمالي العالمي وتحول قوة العمل إلى بضاعة، وقامت ترسانة الخرطوم للنقل النهري ومصانع الذخيرة والنيلة والصابون وتطور العمل المأجور ، وظهرت فئات عاملة بأجر مثل : الكتبة والموظفين والقضاء والمعلمين ، وكذلك نتيجة لترك أعداد كبيرة من المزارعين سواقيهم واراضيهم الزراعية بسبب الضرائب الباهظة ، أي تحرر أعداد كبيرة منهم من الارتباط بالأرض ، ولكن نظام الرق ونظام السخرة الذي كان موجودا في بعض المؤسسات لم يساعد في إيجاد عمال أحرار في التنقل ، إذ أن من الشروط الأساسية لظهور ونشؤ الطبقة العاملة أن يكون لها حرية التنقل وحرية التعاقد ، أي حرية بيع قوة عملها . ذلك انه في نمط الإنتاج الرأسمالي أصبحت قوة العمل بضاعة ، وقيمة قوة العمل هذه شأن قيمة كل بضاعة أخرى تتحدد بكمية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجها ، إذن قيمة قوة العمل هي تكاليف إعادة تكوين قوة العمل هذه في إطار اجتماعي محدد ( المأكل ، الملبس ، المسكن ، .... الخ ) .
وبالتالي يمكن القول وبهذا المفهوم أن الشكل الحديث لنشوء وتطور الطبقة العاملة لم يظهر إلا مع بداية القرن العشرين عندما تم إلغاء نظام الرق والسخرة في السودان، وتم تعميم العمل المأجور كبديل لنظام الرق. وللقارئ الذي يرغب في المزيد من آليات التحول من نظام الرق إلى العمل المأجور يمكن أن يرجع إلي بحث د . أحمد العوض سكينجة: الانتقال من نظام الرق إلى العمل المأجور (Slaves Into Workers ,1898 -1956 , )
هذا فضلا عن أن الإدارة البريطانية كانت محتاجة لهذا الشكل ( نظام العمل بالأجر ) ، حيث كانت ترغب في إيجاد عمال متحررين من قيود العبودية لكي يعملوا في المشاريع الاقتصادية والعمرانية التي كانت تخطط لها في بداية دخولها للسودان مثل : مشروع الجزيرة ، السكك الحديدية ، الميناء . الخ . وان نظام العبودية كان نظاما متخلفا ولا يتناسب مع الشكل الجديد للاستغلال الرأسمالي الذي كانت الإدارة البريطانية تريد غرسه في السودان .
٤
ومنذ نهاية القرن الثامن عشر اندفعت الثورة الصناعية في إنجلترا ومنها إلى بلدان العالم الرأسمالي الأخرى والمستعمرات . بإعادة احتلال السودان عام 1898 م ارتبط السودان مرة أخرى عن طريق إنجلترا بالنظام الرأسمالي العالمي ، وبدأ السودانيون يعرفون القاطرات ، والعربات والشاحنات ، كما بدأت تحل طلمبات الري محل السواقي ، وحلت الطواحين محل المرحاكة ( والفندك والهون ) ، كما حلت عصارات الزيوت الميكانيكية محل عصارات الجمال ، وبدأت التراكتورات تدخل في الأساليب الحديثة للإنتاج الزراعي .
كل هذه التطورات والآلات الحديثة التي بدأت تدخل السودان واتسعت منذ بداية القرن العشرين ، كانت محتاجة إلى قوى عاملة جديدة ، وكانت محتاجة إلى نوع جديد من التعليم للتعامل معها ، وبالتالي طور الاستعمار نظام التعليم ليتواءم مع احتياجاته الجديدة لتسيير مشاريعه الصناعية والخدمية ، ولسد النقص في الإداريين والكتبة لتسيير دولاب الدولة
هكذا بدأت تظهر طبقة عاملة وفئات متعلمة تعليما حديثا ، وظهرت شركات ومشاريع زراعية وصناعية ، وبالتالي تطورت طبقة التجار الأجانب والمحليين واصحاب الملكيات الزراعية ، وهكذا ظهرت علائق انتاج جديدة ، وتوسع العمل المأ جور.
٥
* ومع استقلال السودان عام 1956م ظهر قطاع صناعي كان يساهم بحوالي 9% من إجمالي الناتج القومي، وبلغ عدد عمال الصناعة حوالي 12 ألف عامل.
وكان عدد العاملين حوالي 100 ألف في بداية الخمسينيات من القرن الماضي. كما زاد عدد العاملين في قطاع الخدمات على سبيل المثال: بلغ مجموع العاملين في السكة الحديد والنقل النهري (25,263) في عام 1953م ( سعد الدين فوزي : الحركة العمالية في السودان).
هذا ويعتبر إلغاء نظام الرق والانتقال إلى العمل المأجور وتعميمه ليصبح هو السائد من أهم المتغيرات في تركيب الطبقة العاملة حتى نيل السودان لاستقلاله عام 1956م.
(للمزيد من التفاصيل حول ذلك: راجع تاج السر عثمان الحاج : خصوصية نشأة وتطور الطبقة العاملة السودانية، الشركة العالمية 2007م)
*المتغيرات بعد الاستقلال:
كان من أهم المتغيرات في تركيب الطبقة العاملة بعد الاستقلال في الفترة( 1956-1969 م)، وبتأثير الدفع الرأسمالي الذي حدث: ظهور عاملين في صناعات جديدة حديثة علي رأسها صناعة الغزل والنسيج وظهر تمايز في الطبقة العاملة بين العاملين في الإنتاج الصناعي وقطاع الخدمات، فعمال الانتاج الصناعي نما عددهم من حوالي 12 ألف عشية الاستقلال الي أكثر من 20 ألف (الماركسية وقضايا الثورة السودانية ص 175-176).
هذا اضافة للارتفاع في المستوي المهني للطبقة العاملة واتسع نطاق التعليم المهني والفني الذي ادي الي تطور الطبقة العاملة نفسها.
٦
الفترة ( 1969 م – 1985م)
في هذه الفترة تدهورت وتعمقت مشاكل الصناعات مثل : صناعة السكر ، الأسمنت ، الغزل والنسيج ، الزيوت ، الجلود ، الصناعات الغذائية .... الخ . هذا إضافة لتركز هذه الصناعات في الخرطوم والإقليم الأوسط ( مثلث الخرطوم – سنار – كوستي ) كما أوضح المسح الصناعي للعام 81/1982 ، فقد كانت 56,4 % من الصناعات بها 79 % من العاملين تبلغ مرتباتهم 80,9 % توجد في الخرطوم والإقليم الأوسط ، كما نلاحظ ضعف التعليم الفني اللازم للتنمية الصناعية والزراعية ، فقد كانت نسبة الطلاب في المدارس الفنية لا تتجاوز 20 % من مجموع الطلاب في التعليم العام ، كما أنها لا تتجاوز أيضا 21 % في التعليم العالي .
+ من حيث تركيب القوى العاملة ، كان 71,6 % يعملون في القطاع الزراعي ، والعاملون في مجالات الإنتاج غير الزراعي 12,6 % ، العاملون في الخدمات 7,6 % ، العاملون في البيع 4,5 % ( العرض الاقتصادي 76 /1977 ) .
+ كما ارتفعت تكاليف المعيشة بشكل كبير في هذه الفترة بشكل لا يتناسب مع الأجور ، على سبيل المثال في عام 1985 ، كان الحد الأدنى للأجور 60 جنيها ، بينما كان الحد الأدنى لتكاليف المعيشة 536,326 جنية حسب دراسة قامت بها الجبهة النقابية .
كما تميز تطور الطبقة العاملة في تلك الفترة بتدهور أوضاعها المعيشية ، مما أدى إلى هجرة الآلاف من العمال المهرة إلى بلدان الخليج إضافة لتدهور الإنتاج الصناعي وإغلاق العديد من المصانع أو العمل بنصف طاقتها أو ثلث طاقتها ، كما انضم إلى صفوفها آلاف المهاجرين من الريف من ذوى الوعي المنخفض ، هذا إضافة لتشريد وهجرة مئات النقابيين المتمرسين ، وأصبح اتحاد العمال جزءا من الدولة أو رافدا من روافد الاتحاد الاشتراكي ، وتمت مصادرة حق الإضراب .
٧
فترة الانقاذ ( 1989 – 2005م):
نلاحظ في هذه الفترة ظهور قطاعات جديدة في الصناعة مثل قطاع البترول والتعدين ، مدينة جياد الصناعية في مضمار الصناعة التحويلية الذي يشمل قطاع صناعة المتحركات ( ورش وستة خطوط تجميع التراكتورات ووسائل النقل المختلفة ) وقطاع الصناعات المعدنية الذي يشمل مصنع الحديد والصلب ، مصنع الألمنيوم والنحاس الكوابل، مصنع المواسير و مجمع سارية الصناعي ( الذي بدأ بمصانع الأحذية والبطاريات والملبوسات الجاهزة وتحولت ملكية المجمع للقطاع الخاص ، وبدأ في إنتاج سلع مثل : مصنع الأجهزة الكهربائية ، مصنع البلاستيك ومصنع التغليف ) .
رغم هذه التطورات الجديدة في القطاع الصناعي، إلا أنه ظل يعاني من مشاكل مثل: الطاقة، ضعف القدرات التسويقية، مشاكل متعلقة بالتمويل سواء المكون المحلي أو الأجنبي لتوفير قطع الغيار، مشاكل القوانين المتعلقة بالاستثمار...الخ. .
كما أشار المسح الصناعي الأخير ( 2001 ) إلى توقف 644 منشأة صناعية ، ومن الأمثلة لتدهور بعض الصناعات : * صناعة الزيوت والصابون عملت بنسبة 16 % من طاقتها التصميمية ( تقرير بنك السودان 2003 ). * والمثال الآخر صناعة الغزل والنسيج : بلغ عدد مصانع الغزل 15 مصنعا ، العامل منها 6 مصانع فقط ، كما بلغ عدد مصانع النسيج 56 مصنعا ، العامل منها 4 مصانع فقط ، كما تعمل مصانع الغزل بنسبة 5,4 % بينما تعمل مصانع النسيج بنسبة 5 % من إجمالي الطاقة الإنتاجية ( تقرير بنك السودان 2003 ) . كما أوضح المسح الصناعي لولاية الخرطوم الذي تم عام 1997م أن أكثر من 60% من المصانع معطلة والعاملة منها تعمل بأقل من 30% من طاقتها الانتاجية( الصحافة 11/11/ 2001م)
هكذا نصل إلى حقيقة تدهور القطاع الصناعي بسبب تلك المشاكل وعجز الحكومة تماما عن مواجهتها ، رغم ذلك فقد ساهم القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 24,1 % وهذا يعود إلى ارتفاع نسبة البترول والتعدين التي بلغت 9,6 % في الناتج المحلي الإجمالي ( تقرير بنك السودان 2003 ).
٨
وكان من نتائج تدهور القطاع الصناعي أن تقلص عدد العمال الصناعيين في الصناعة التحويلية والتعدين والكهرباء والمياه والبناء والتشييد من حوالي 320 ألف في عام 1992م إلى حوالي 130 ألف في عام 130 ألف في عام 2003م ، و تقلصت نسبة المرأة العاملة في الصناعات " صناعات النسيج والأغذية" من 10% عام 1992م الي 8,5% عام 2003م( التقرير السياسي المجاز في المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني، ص 42- 45).
وتم تشريد الالاف من العاملين بسبب الخصخصة، وتدمير مؤسسات خدمية عريقة مثل : السكة الحديد التي تقلص عدد العاملين فيها من 31,200 عام 1989م إلى 11.250 عام 2003م ( صحيفة الميدان ، فبراير 2003م).
وتقلص عدد العاملين في قطاع النسيج من 30 ألف عامل مطلع التسعينيات إلى 8 ألف عامل فقط عام 2001م( صحيفة الأيام: 4/ 9/2001م، تقرير رئيس غرف النسيج د. الفاتح عباس). كما بلغ عدد المتأثرين بخصخصة مؤسسات القطاع العام 32 الف عامل وموظف عام 2004م ( صحيفة الايام 14/ 4/ 2004م).
كما بلغ عدد العاملين في القطاع الأهلي للتنقيب عن الذهب اكثر من 200 ألف عامل يعملون في ظروف بيئية وأمنية قاسية، حيث بلغت عائداته خلال العام 2010م مليار دولار( الصحافة 1/ 10/ 2010م).
هذا إضافة لتمركز الصناعات في المدن ، فقد أوضح المسح الصناعي الأخير أن 64 % من المنشآت الصناعية الكبيرة في الخرطوم ( المسح الصناعي 2001 ) .
٩
* ومن المتغيرات تدهور التعليم الفني والتدريب ، وظهور العمالة الأجنبية في البلاد ( هنود، بنغال، مصريون، اثيوبيون..الخ)، علما بأن العطالة بين الشباب بلغت 1,4 مليون عاطل عن العمل، أي 15% من قوة العمل في البلاد" 15- 24 سنة"، كما بلغت نسبة البطالة بين خريجي الجامعات 49% ( صحيفة الأيام : 4/11/ 2001م). وفي ظروف يضرب فيها الفقر 97% من السكان، ويستحوذ 2% من السكان على 88% من الدخل القومي( الأيام: 30/ 9/ 2001م).
اضافة للاستغلال البشع والأوضاع السيئة التي يعاني منها العاملون في المصانع والمؤسسات في ظروف مصادرة الحقوق والحريات النقابية، وفرض نقابة المنشأة بدلا عن نقابة الفئة، والفصل والتشريد من العمل. علي أن اسوأ الاستغلال هو عمل السخرة الذي يعيدنا فترة الحكم التركي والذي يتمثل في الخدمة الالزامية التي يتعرض لها الخريجون الجدد حيث تستحوذ الدولة أو المؤسسة المعينة على عرق وجهد الخريج بمرتب ضئيل حوالي 60 جنيها، وهو استغلال اسوأ من نظام الرق حيث كان الاسياد يستحوذون على كل عائد عمل الرقيق مقابل معيشته واولاده، أي مايكفي لتجديد قوة عمله، أما الخريج الجديد فلا يكفي مبلغ الـ60 مصروفات مواصلاته!!.
١٠
* ومن المتغيرات ايضا أن أصبحت خدمات التعليم والصحة وقطاع خدمات الكمبيوتر من مصادر التراكم الرأسمالي فانتشرت في البلاد المدارس والجامعات والمستشفيات وشركات الكمبيوتر الخاصة والتي يملكها افراد أو شركات، يتعرض فيها العاملين من معلمين وأساتذة جامعات واطباء ومبرمجي و مهندسي وفنيي الكمبيوتر الي استغلال رأسمالي بشع حيث يتم الاستحواذ علي قوة عملهم الذهنية مقابل أجور زهيدة وشروط خدمة مجحفة. وهذا يدخل في المتغيرات في تركيب القوى العاملة في ظروف الثورة العلمية التكنولوجية والتي اصبحت تضم فئات العاملين اليدويين والذهانيين الذين يتعرضون للاستغلال الرأسمالي.
١١
وأخيرا تلك خطوط عامة لمتابعة المتغيرات في تركيب الطبقة العاملة السودانية، والتي تحتاج للمزيد من دراسة الواقع لمعرفة أعمق بتلك المتغيرات والتي تساعد في تنظيم الطبقة العاملة من اجل انتزاع حقوقها وتنظيماتها النقابية وتحسين أوضاعها المعيشية والثقافية.
تلك باختصار كانت أوضاع الطبقة العاملة قبل الحرب، فكيف أدت الحرب لتغييرات في تركيب وأوضاع الطبقة العاملة السودانية؟
نتابع فى الحلقة القادمة.

alsirbabo@yahoo.co.uk

   

مقالات مشابهة

  • بعد 100 يوم في الحكم.. هل قضى ترامب على أميركا؟
  • حلبة كورنيش جدة تستضيف بطولة السعودية تويوتا كسر الزمن في موسمها الجديد
  • كيف أدت الحرب إلى تغيرات تركيب الطبقة العاملة السودانية؟ (١/٢)
  • حرامية والفيديو قديم.. الداخلية تكشف تفاصيل تعدى سائق توكتوك على فتاة الخصوص
  • عقيد أمريكي لمجلة” نيوزويك”: “سقوط طائرة “إف18” غير طبيعي ونادرًا ما تحدث”
  • انهيار جزئي لمنزل قديم في المنيا دون وقوع إصابات
  • عرض الحلقة الأولى من مسلسل “لام شمسية” بمهرجان SeriesFest في أمريكا
  • الرئيس السيسي يمنح نوط الامتياز من الطبقة الأولى للواء معتز البدوي رئيس الأحوال المدنية بالمنيا
  • فيديو قديم ومطاردة بينهما.. كشف حقيقة تعدي سائق على فتاة بالخصوص
  • حبس ناشر فيديو قديم عن واقعة عقر كلب في القاهرة 4 أيام بتهمة بث أخبار كاذبة