هيبة التشييع ورسائل المقاومة: من بيروت إلى ما بعد الحدود
تاريخ النشر: 26th, February 2025 GMT
لم يكن يوم تشييع الأمين العالم لحزب الله، الشهيد الأممي السيد حسن نصر الله مجرد حدث جنائزي، بل كان استفتاءاً شعبياً على طبيعة المعركة الدائرة في المنطقة. بيروت، التي لطالما كانت في قلب الصراع، استيقظت على مشهد لا يُخطئه أحد: بحرٌ من المشيعين يتدفق في الشوارع، يعلنون بأجسادهم وأصواتهم أن المقاومة ليست مجرد تنظيم مسلح، بل هي فكرة، وهوية، وعهدٌ لا يسقط.
في اللحظة التي قررت فيها الطائرات الإسرائيلية التحليق فوق بيروت، كان القرار محسوماً: لا أحد سينظر إلى الأعلى، لا أحد سيأخذ خطوة إلى الخلف. بل على العكس، ارتفعت الهتافات، تردد صدى القسم: “على العهد باقون”. أراد العدو أن يستعرض قوته، فوجد نفسه أمام شعب لا يخشى سوى التفريط بكرامته. إنها معادلة جديدة، تُكتب في شوارع الضاحية كما كُتبت من قبل في مارون الراس وبنت جبيل: الخوف أصبح سلاحاً مستهلكاً، لم يعد له مكان هنا.
في حديثه مع قناة الجديد، قال عضو المجلس السياسي في حزب الله، غالب أبو زينب ما يعرفه الجميع لكنهم يفضلون عدم الاعتراف به: هذا المشهد ليس طارئاً، وليس عاطفياً. إنه تعبير واضح عن خيار استراتيجي اتخذه الناس عن وعي وإدراك. هذا الحشد لم يأتِ تحت التهديد أو بدافع المجاملة، بل جاء ليقول للعالم إن حزب الله ليس قوة عسكرية فقط، بل هو مجتمع، قاعدة شعبية تزداد صلابة مع كل تهديد.
أبو زينب شدد على أن المقاومة ليست مجرد رد فعل، بل هي مشروع متكامل، رؤية سياسية وأمنية واقتصادية تمتد إلى ما هو أبعد من المواجهة العسكرية. في ظل الحديث عن تغييرات إقليمية وتسويات محتملة، أراد الرجل أن يقول بوضوح: لا أحد يمكنه القفز فوق هذه الحقيقة، ولا أحد يستطيع اختصار المقاومة في معادلات سطحية تحاول إسقاطها من المشهد.
الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، كان أكثر وضوحًا في كلمته خلال التشييع. “نحن هنا، باقون على عهدنا، لا نخاف من طائراتكم، ولا نرتعب من استعراضاتكم”، بهذه الكلمات لخص قاسم جوهر الرسالة. لم يكن ذلك خطاباً احتفالياً، بل كان إعلاناً بأن زمن فرض الوقائع على الأرض قد انتهى. إن كان العدو يراهن على ترهيب الناس، فهو واهم، وإن كان يظن أن المقاومة تعيش قلقاً وجودياً، فهو أكثر من واهم.
الرسالة هنا ليست فقط للإسرائيليين، بل أيضاً لكل من يعتقد أن حزب الله يمكن احتواؤه أو تحجيمه عبر التسويات الدولية أو الضغوط الداخلية. المقاومة ليست حالة يمكن ضبطها بقرارات خارجية، ولا يمكن تطويقها بحسابات سياسية قصيرة النظر. هذا التشييع كان إعلاناً جديداً للثبات، وكان على الجميع أن يقرأ المشهد جيداً.
لم يكن التشييع مجرد وداع لرجل، بل كان إثباتاً جديداً أن هذه المعركة لا تُخاض فقط بالسلاح، بل بالعزيمة، بالالتزام، بالإيمان بأن الطريق الذي بدأ لن يتوقف. في لحظةٍ أرادت فيها إسرائيل أن تقول إنها لا تزال قادرة على تهديد لبنان، جاء الرد دون حاجة لبيان أو تصريح: هذه الجماهير ليست خائفة، هذه الشوارع لم تُقفل بسبب الغارات، هذا العهد لم يُكسر.
عندما يتجمع عشرات الآلاف وسط بيروت، يرفعون صور الشهداء، يرددون ذات العبارات التي قيلت منذ عام 1982 حتى اليوم، فهذا ليس مجرد حدث عاطفي، بل هو تثبيت لمعادلة جديدة: نحن هنا، لا نخاف، ولا نتراجع. التشييع لم يكن وداعًا، بل كان وعدًا بأن القادم لن يكون كما يريده الأعداء، بل كما يريده من لا يزال يؤمن بأن هذه الأرض لا تُحرَّر إلا بالمقاومة.
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: لا أحد بل کان لم یکن
إقرأ أيضاً:
لحشود التشييع رسائل، فما أهمُّها؟
محمد الموشكي
دخل حزب الله معركة إسناد غزة في اليوم التالي من انطلاق عملية “طوفان الأقصى” المباركة في السابع من أُكتوبر المجيد. فبدأ حزب الله تصعيدًا مدروسًا في جبهة الشمال، مما أَدَّى إلى استنفار نصف جيش الاحتلال الإسرائيلي، خوفًا من اختراق هذه الجبهة من قبل حزب الله.
واستمرت عمليات الإسناد المتصاعدة حتى وقوع الجريمة الإرهابية الغادرة “البيجر”، حَيثُ انتقلت هذه العمليات إلى منحى جديد من التصعيد، فوسع الحزب دائرة الاستهداف لتشمل معظم مدن الشمال، وُصُـولًا إلى حيفا وما بعدها.
بعد ذلك، جن جنون الكيان؛ لأَنَّه أدرك أن خطط حزب الله القتالية تتقدم وفق استراتيجيات مدروسة. ولم تنجح عملية البيجر الإرهابية في إيقاف نشاطات الحزب، فقرّر الكيان تَفتيت خطط حزب الله الناجحة عن طريق تنفيذ عمليات اغتيال متزامنة ومتتالية طالت الصف الأول والثاني والثالث في الحزب. وقد حقّق الكيان هذا الهدف بالفعل، بل ونجح في تحقيق أحد أبرز أهدافه، وهو قتل السيد حسن نصر الله، القائد العربي الوحيد الذي هزم “إسرائيل” في عدة جولات من الصراع.
هنأ الكيان نفسه بعد هذا الاستهداف، شعر بنشوة النصر العظيم التي فتحت شهيته لتغيير معالم الشرق الأوسط الجديد. فأطلق جميع جنوده وعتاد جيشه للهجوم على لبنان واحتلاله. ولكن، منذ اللحظة الأولى من التقدم، شهد جيش الاحتلال الجحيم وبأس المقاومة، وكأن السيد لم يرحل أَو يُقتل، وأنه لم يغادر ساحة القتال، مما ألحق بجيش الاحتلال هزيمة قاسية في قرى الجنوب اللبناني، ليضطر هذا الكيان، عن طريق ذراعه السياسي أمريكا، لعمل هدنة مع لبنان.
استجاب حزب الله لهذه الهدنة وعمل بكل بنودها، ولكن الأمريكيين وأدواتهم اعتقدوا أن رضوخ الحزب للهدنة يعكس ضعفًا ووهنًا يعيشه. فعملوا على تأليب الدولة والحكومة اللبنانية، وكذا الداخل اللبناني، بواسطة الإعلام وبعض الأحزاب والوجوه التي لم تتجرأ حتى على الظهور للعلن قبل رحيل نصر الله. استخدموا عدة حيل وتلفيقات كاذبة تصب في صالح الاحتلال الإسرائيلي.
استمر الأمريكيون في هذا المسعى حتى حاولوا بشكل علني إبعاد حزب الله قبل أن يتعرضوا للخيبة والفشل من الحكومة اللبنانية. السعوديّة وغيرها من الدول العربية حاولت الضغط على حزب الله، خُصُوصًا بعد سقوط سوريا بيد الجماعات التكفيرية، للقبول بالإملاءات الأمريكية التي تصب لصالح “إسرائيل”، ومن أبرزها إرجاع حزب الله إلى ما قبل نهر الليطاني، مع بقاء جيش الاحتلال في بعض القرى الحدودية في جنوب لبنان.
وهنا، وأمام هذا المشهد الضاغط بقوة على حزب الله، جاء يوم الأحد، 23 فبراير، يوم تشييع نصر الله، ليكون يومًا فارقًا بين مرحلة مليئة بالألم والضغوط العسكرية والسياسية والإعلامية ومرحلة لاحقة غير مسبوقة. مرحلة مؤهلة لالتهام كُـلّ ما صنعه الأعداء. ونجاح هذه المرحلة وملامحها الأولى تتطلب أمرًا واحدًا، وهو زخم الحشود المليونية التي ستخرج حاملة أعلام ورايات وشعارات حزب الله، وفي ذات الوقت المعاهدة أمام الملأ أنها على العهد باقية، لن تتخلف قيد أنملة عن منهاج نصر الله.
وهنأ تحقّق هذا الأمر، وشاهده العالم أجمع، وكذا شاهده الأعداء بتأمل عظيم حشود يوم الأحد، الأعظم والأكبر في تاريخ لبنان.
يوم الأحد، كان له رسائل من أهم هذه الرسائل للدّاخل والخارج هي أن حزب الله قوي، بل أقوى مما يتصوره الأعداء وحتى الأصدقاء أنفسهم. يومًا أحبط كُـلّ ما حقّقه العدوّ في جميع الأصعدة، وبالأخص في الجانب السياسي. يومٌ أثبت فيه حزب الله أنه أعاد ترتيب صفوفه من جديد في أقل من 70 يومًا،
يومٌ ألحق في الكيان خسائر فادحة بكل ما أنفقه من مليارات الدولارات ومئات القتلى وآلاف الجرحى في حربه على حزب الله.
حقًا، إنه ليوم من أَيَّـام الله، يومٌ جدد فيه الأحرار والعظماء الولاء لنصر الله.