المحررة سحر المصري لـ” الثورة “: قضيت خمس سنوات في سجون مارب دون ذنب
تاريخ النشر: 23rd, August 2023 GMT
كنت قادمة من مصر إلى اليمن فاختطفوني من الطريق واقتادوني إلى السجن أطالب بمحاكمة المتهمين الرئيسيين.. وسأقوم برفع الدعاوى ضدهم في المحاكم المصرية والدولية كنا في سجن النساء نتعرض للضرب حتى يصير جسم الواحدة منا كلون البالطو الذي تلبسه ضربوني وأنا حامل حتى أسقطوا الجنين وبقيت أنزف لثلاثة أشهر الصليب الأحمر أفادني بإبلاغ السفارة المصرية.
كثيرة هي مآسينا في اليمن، جراء العدوان والحصار، وما يعلمه عامة الناس عن هذه المآسي لا يتعدى جرائم القتل والقصف والحصار والتجويع، لكن هناك مآسي تختفي خلف الحسبان، تتمثل في ما تنتجه آلة العدوان ومرتزقته من آلام وتعذيب واختطاف وسجن لأناسٍ ليس لهم في المشهد العام للقتال والحرب أي شأن.. لكن أن تتعدى إلى اختطاف وسجن وتعذيب غير اليمنيين فهذا أمر في غاية الإسراف من الغلو والعتو والظلم، وخاصة إذا كان ضد المرأة، نحن اليوم بصدد الحوار مع امرأة مصرية، تزوجت من يمني في مصر، وقررا أن يسافرا اليمن لزيارة أهله، والعودة إلى مصر في غضون أشهر على أقصى تقدير، فإذا بهما يقضيان خمس سنوات في سجون مارب، تتعرض فيها المرأة المصرية البريئة لأقسى أنواع التعذيب، وتتعرض للضرب حتى تسقط جنينها الذي حملت به من زوجها في السجن.. وهنا أرحب بالمختطفة المحررة سحر المصري، كما أرحب بالقراء الكرام إلى هذا الحوار الذي يقطر ألماً وحزناً، لولا أن منّ الله على أختنا المصرية وزوجها بالحرية. فكيف كانت قصة اختطافها، وكيف قضت سنوات خمس في سجن بلا تهمة ولا قضية، وما قصة الطفلة التي ولدت في السجن.. فإلى الحوار:
الثورة / صلاح الشامي
• نرحب بك أستاذة (سحر المصري) في هذا الحوار لصحيفة “الثورة”، ونود أن تحدثينا عن مأساتك، التي شهدها العالم عبر القنوات الفضائية اليمنية.. كيف كانت بداية السفر إلى اليمن، وكيف تحول إلى مأساة؟
– كنت قادمة إلى اليمن مع زوجي اليمني لزيارة أهله، ومن ثم العودة إلى مصر، وعندما وصلنا إلى مارب فوجئنا بأن تم القبض علينا، أنا وزوجي، واقتادوني إلى سجن، وزوجي إلى سجن آخر. وأخفوه عني لمدة شهرين في البداية، وسمحوا لنا بأن نلتقي، ثم أخفوه عني سنتين، وبعدها سمحوا لنا بأن نلتقي كل شهر مرة.. ودام سجننا لمدة خمس سنوات.
أين تم اعتقالك، أو اختطافك -بالمعنى الأدق- أنتِ وزوجك، وما التهم التي وجهت إليكِ؟
– تم القبض علينا في إحدى نقاط التفتيش، ولم يوجهوا إليّ أيّ تهمة، بل سألوني بعض الأسئلة، وأجبتهم عن تلك الأسئلة، ولم يعودوا يحققوا معي بعدها. وكانت تلك الأسئلة حول من يعرف زوجي، ومع من يتكلم، ومن هم أصحابه.. وأجبتهم عن كل أسئلتهم بكل صراحة، دون علم مني هل سأكون سبباً في توريطه أم لا. وعندما لم يجدوا ما يتهموني به، حاسبوني على كوني مصرية وأحب رئيس بلدي، وحاسبوني أيضاً على زيارتي لقبر سيدنا الحسين.
هل علمتِ بأي طريقة عن الجهة التي اعتقلتك؟
– في البداية أخذوني إلى البحث، عند (حسين الحليسي)، ثم عند واحدة اسمها (نادية الجعفري)، ثم أخذوني إلى الأمن السياسي، عند واحد اسمه (أحمد حنشل)، وسجنونا في البدروم أنا وحوالي إحدى عشرة سيدة معتقلة.
كيف كانت ظروف السجن، وكيف كان حالك فيه؟
– كانت ظروف صعبة جداً، وكنت أبكي ليلاً ونهاراً.. وكان المكان مليئاً بالذباب، ونقلوني إليه بدون أغراضي، ولكن في السجن الثاني كانت لديّ (ناموسية) وبعض الأغراض.
كيف كانت مشاعرك عن زيارتك اليمن للمرة الأولى، وكيف مثلت لك هذه الزيارة صدمة باعتقالك؟
– لم أكن أتوقع أن يحصل لي ما حصل أصلاً، صحيح أنني متزوجة من رجل يمني، ولكن لم يكن عندي أي خلفية عن اليمن بالمرّة.
لكنكما أتيتما إلى اليمن في ظروف حرب وعدوان، ولزيارة أهل زوجك، كما ذكرتِ، وليس لتمضية شهر العسل؟!!
– أنا لم يكن في خيالي أصلاً أن آتي إلى هنا، كنت أتوقع أن أقوم برحلة لإحدى الدول الأوروبية، كما يعمل البعض البعض بعد الزواج، كرحلة سياحية، وكان بعيداً عن خيالي أن آتي إلى اليمن، أو أي دولة عربية.. وكان قرار زيارتنا لليمن قراراً مفاجئاً، ولم أكن أتخيل أنني سأوافق، أو أنني سأزور أهل زوجي في اليمن، ولم أتصوّر أنني سأقع في ورطة.
هل بإمكانك أن تتحدثي عن كل ما كان يحصل معك في السجن؟
– كان يدخل علينا رجال مُقَنّعون، فيقومون بسحبنا، أنا وبعض السجينات هناك، فبعضنا يتم سحبها من شعرها، والبعض يتم سحبها من رجليها، ويقومون بإطفاء الأنوار في المكان بشكل كامل، ويقومون باستخدام المصابيح اليدوية، ويضربونا بالعصيّ والخراطيم وكابلات الكهرباء، والواحدة منا يقوم بضربها سبعة رجال أو ثمانية.
كم تستمر مدة الضرب؟
– كان يتم ضربنا حتى الواحدة منا يكون جسمها أسوداً كالبالطو التي تلبسه من شدة الضرب، يتم ضربنا في كل مكان من الجسم.
ماذا عن حملك وولادتك وإسقاطك في السجن؟
– كانوا يأخذوني إلى زوجي للزيارة والخلوة كل شهر، وحملت منه في السجن، وقد تم ضربي وأنا حامل، وولدت ابنتي الأولى في السجن، وفي الحمل الثاني تم ضربي وأنا حامل أيضاً، حتى تم إسقاط الجنين من شدة الضرب، وعلى فكرة: فقد أدليت بموضوع الإسقاط في مقابلات تلفزيونية سابقة، وقاموا بقص موضوع الإسقاط هذا، وعندما ضربوني في السجن في الحمل الثاني كنت في الشهر الثالث من الحمل، وبدأ الإسقاط بنزيف شديد، استمر لثلاثة أشهر، حتى أسقط الجنين في الشهر السادس من الحمل، وكان بالتحديد في شهر سبتمبر 2022م.
متى تم الإفراج عنكِ، وكيف كان خروجك من السجن؟
– في 21 مايو 2023م أخذوني إلى فندق، ولكنهم لم يعطوني أشيائي ومتعلقاتي كاللابتوب والموبايل وبقية أغراضي، على أساس أن أكون تحت الإقامة الجبرية، فلم يكن خروجنا نهائياً، ولم يعطوني بطاقتي وجواز سفري ليمنعوني من التحرك، ويضمنوا تواجدي تحت نظرهم، وليمنعوني من التواصل مع أي أحد.
هل تم بعدها الإفراج عنكِ ضمن صفقة من صفقات تبادل الأسرى والمسجونين؟
– لا، لكنهم جعلوني أوقع على أوراق، ألتزمُ فيها بعدم الإضرار بالأمن في مارب، وهم يعلمون أنني ليس لي دخل بمارب ولا باليمن بأكملها. وكنت أرفض التوقيع، لكن زوجي أقنعني بالتوقيع حتى أخرج من عذابات السجن.
هل كنتِ أثناء سجنك وتعرضك لكل هذا العذاب تتوقعين أن تخرجي، أم كنتِ قد يئستِ من الخروج إلى الحرية؟
– لا. لا. لا. أنا واصل وأنا أعلم أنني سأخرج من السجن، ولم ينقطع عني الأمل بالخروج.
هذا يدل على أن لديكِ عزيمة قوية، وإرادة صلبة…
– (أيوه.. أيوه.. أيوه) الحمد لله والشكر لله.
بمناسبة ذكر ما لديك من عزيمة وإرادة قوية، سمعت أنك قمت بالإضراب عن الطعام وأنتِ في السجن، فمتى كان، وما هي نتيجته؟
– طبعاً أنا عملت إضرابين وأنا في السجن، المرة الأولى عندما حرموني من رؤية زوجي سنة كاملة، فقمت بالإضراب لمدة خمس أيام، والمرة الثانية بسبب أنهم حرموني من رؤية زوجي وابنتي لمدة عشرة أشهر، فقمت بالإضراب عن الطعام لمدة عشر أيام، وبعدها قاموا بإخراجي مع زوجي وابنتي إلى شقة، قبل الإفراج الأخير.
الآن وأنتِ في صنعاء، وقد فرّج الله تعالى عنكِ، كيف تجدين الفرق بين مارب وصنعاء؟
– لا مقارنة إطلاقاً بين مارب وصنعاء، عناصر الأمن هنا محترمون، عكس هناك، والأمن متوفر للجميع.
خلال متابعتي لمقابلات أجرتها معكِ بعض القنوات الفضائية هنا، قلتِ إنه تم اتهامك بأنكِ مع (السيسي)، ما طبيعة هذا، إن جاز لنا أن نسميه اتهاماً؟
– (أيوه.. أيوه.. أيوه) هم هناك لا يحبون (السيسي)، ويحبون (محمد مرسي) كثيراً، حتى أنهم كانوا في السجن يعملون محاضرات، يشتمون بها (السيسي) ويتهمونه بالعمالة وأشياء كثيرة، فيقوم بعض اليمنيين المعتقلين بالرد على الرجل الذي يلقي المحاضرة، وخاصة من اليمنيين الذين سافروا إلى (مصر)، وكنا نسمعهم، رغم أننا في البدروم، والمحاضرة والسجناء الرجال في الحوش، لكن كان صوت الذين يردون على المُحاضر واضحاً ويصل إلينا..
ومن ضمن ما كان يلقيه المُحاضر، أن الحوثيين يقومون بحبس النساء، وأنهم يحبسونهن في (بدروم)، فيقوم الرجال بالصراخ فيوجه الشيخ المُحاضر، ويقولون له إن النساء عندك تحت، في البدروم هناك.. وفي تلك المرة قام الشيخ المُحاضِر بترك المُحاضرة، والمغادرة من المكان، وكأن الشيخ المُحاضر كان مستغرباً كيف أنهم أملوا عليه ما يقول، وجعلوه يؤمن به، بينما النساء لديهم هم في بدروم السجن ذاته الذي كان يلقي المحاضرة فيه.
هل كانوا يسمحون لكِ بالتواصل مع أهلكِ في (مصر)؟
– لا لمدة خمس سنوات لم يُسمح لي بالتواصل مع أهلي ولو مرة واحدة.
الآن، وأنتِ في (صنعاء)، هل تتواصلين مع أهلكِ في (مصر)؟
– نعم الحمد لله.
بالنسبة لابنتكِ التي ولدت في السجن.. هناك حقوق مدنية، نصت بها مواثيق واتفاقات دولية وأممية حول الذين يولدون في السجن، وخاصة في زمن الحرب.. هل رفعتم مذكرات إلى الجهات ذات .
العلاقة، كالمنظمات الحقوقية الدولية، للمطالبة بهذه الحقوق، كالرعاية النفسية؟ فبالتأكيد أن ابنتكِ قد تعرضت لظروف معينة تستلزم العناية والرعاية الدائمة؟
– بالتأكيد رفعنا مذكرة إلى الصليب الأحمر، لكن الصليب لم يتجاوب معنا، ولم يعمل أي شيء، هم كانوا يزورونني في السجن، خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر ابنتي التي ولدت في السجن، ويعطونني (كُروت)، ويعدونني بالعمل على إخراجي، وعودتي إلى بلدي (مصر)، وأخبروني أنهم تواصلوا مع السفارة المصرية، وعند تواصلي مع السفارة المصرية وأنا هنا في صنعاء، فوجئت بأن السفارة لم يكن لديها أي بلاغ من الصليب الأحمر، أي أن الصليب كان يكذب، لكن لدي الأوراق التي تثبت وعودهم وقولهم بالتواصل مع السفارة.
إذا كانت الأوراق معكِ فاحتفظي بها، لأنهم لو أنكروا، فسيتم فضحهم عبر الصحافة.
الآن لو سألتكِ عن ما تريدين من الدولة هنا في صنعاء؟ وما هي مطالبك القانونية والحقوقية بشكل عام؟
– أريد من المسؤولين هنا في صنعاء، وأناشد بالتحديد (السيد عبدالملك) باتخاذ موقف تجاه ما تعرضت له، كما أطالب بتسريع الإجراءات المتعلقة بأوراقي، لأن بطاقتي وجواز سفري لا يزالا لدى الذين سجنوني وعذبوني هناك في مارب، وأطالب برد اعتباري، وبسرعة عودتي إلى وطني (مصر).
وعلى فكرة: أرفض العودة حتى تتخذ مأساتي قضية رأي عام في مصر.. وهذا ما يتفق معي بشأنه المستشار المصري الذي يتابع قضيتي بتكليف من وزارة الخارجية المصرية، وهو الآن بصدد استخراج أوراق ثبوتية لي، كالبطاقة وجواز السفر.
وماذا عن مطالبك القانونية؟
– اما عن مطالبي القانونية فأنا أطالب بمحاكمة المتهمين الرئيسيين، وهم كل من:(علي محسن الأحمر، وسلطان علي العرادة، وأحمد حنشل، وعبده الحذيفي).. ولن أسكت عن كل ما تعرضت له، فسوف أقوم برفع قضية ضدهم أمام القضاء المصري، والدولي، وحتى في محكمة الجنايات الدولية..
وأطالب السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي باتخاذ موقف وقرار تجاه قضيتي، والتعاون معي، والوقوف معي لمحاسبة المتورطين في اختطافي وسجني وتعذيبي وإسقاط الجنين من بطني، كما أطالب برد اعتباري، كوني ضيفة على اليمن، وعار على كل اليمنيين..
وللعلم، فقد سبق أن ناشدت السيد عبدالملك، وكذلك ناشدت المستشار المصري على الهواء مباشرة، عبر قناة اليمن الفضائية.
هل نشر الإعلام المصري عن قضيتك؟
– نشروا حتى الآن أخباراً عن قضيتي، وهم الآن بصدد التنسيق مع مذيعين (كباراً) لنشر قضيتي ومأساتي بشكل أوسع. وأنا الآن في تواصل مع الأمن المصري، وهم مهتمون بي وبقضيتي، ويتم التواصل عبر المستشار، والأمن يقوم الآن بالتنسيق مع قنوات معينة في مصر، وأنا أشكر المستشار وأشكرهم على كل الجهود التي يبذلونها.
قبل أن نتكلم عن وصول الأمر إلى قضية رأي عام في مصر، هل وصلت قضيتك إلى قضية رأي عام هنا في اليمن، رغم كثر كثرة الحوادث التي تشبه حالتك؟
– لا. ليس إلى الوقت الراهن بعد.
بالعودة إلى ابنتك. سمعتُ أنها تخاف من الأماكن المغلقة.. فهل حصلتم لها على شيء من الرعاية النفسية التي طالبتم بها؟
– فعلاً.. هي تخاف من الأماكن المغلقة.. بمعنى أنها تريد أن يظل الباب مفتوحاً حتى تنام، وبعد أن تنام فقط نقوم بغلق الباب، وبالفعل عرضناها مرتين على طبيب نفسي في صنعاء، وأعطوها أدوية، ونصحوني بالعودة بشكل منتظم.
وبالنسبة لكِ أنتِ هل لديكِ أي آثار نفسية؟
– أنا أحسن حالاً، لكني بعد ما حصل لي أصبحت أشعر بالتوتر، وأي موضوع ممكن يعصبني.
أختم هذا الحوار بتقديم الشكر لكِ على إتاحة هذه الفرصة للحديث معك حول مأساتك التي فرج الله عليك منها، وأهنئك على خروجك من مأساةٍ حدثك لكِ هنا في وطنك الثاني اليمن، بسبب حرب وعدوان لا ناقة لكِ فيها ولا جمل. فألف مبروك على نعمة الحرية، وأتمنى لك المقام هنا في صنعاء مع زوجك وابنتك في سلامة وأمن وسعادة، حتى تعودي إلى وطنك الأول مصر، والذي هو وطن كل عربي-عربي، بالسلامة والأمن والسعادة، وأن يعوض الله عليكِ، عن كل ما تعرضت له.
– شكراً جزيلاً لك.
المصدر: الثورة نت
كلمات دلالية: خمس سنوات إلى الیمن کیف کانت فی السجن رأی عام فی مصر لم یکن
إقرأ أيضاً:
الهروب من جنهم.. كتاب جديد يوثّق واقع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال
الكتاب: هروب من جنهمالكاتبان: د. محمد منصور أبو ركبة، د. علاء سمير القطناني
الناشر: صيد الخاطر للنشر والتوزيع ، 2025م
عدد الصفحات: 106 صفحة.
من غياهب السجون الإسرائيلية انطلقت رؤية الهروب من جنهم، فهي سجون لا يمكن أن تشبه بسجن الباستيل، أو سجون غوانتنامو، بل هي أكثر فظاعة وانتهاكاً لحقوق الإنسانية والبشرية على وجه الكرة الأرضية، فلا محاكم دولية أو إقليمية يمكنها اختراق جدران تلك السجون من خلال مؤسسات حقوقية إنسانية دولية أو حتى إسرائيلية، لتكشف ما يجري بحق الأسرى الفلسطينيين والعرب، كونها سجون وضعت لكسر إرادة شعب تحت احتلال ومقاومته أوجبتها الشرائع الدولية، ووجدت مع وجود الاحتلال الإسرائيلي فخلال الفترة ما بين 1948م ـ 1967م أعتقل أكثر من مائة ألف فلسطيني.
منذ عام 1967م اعتقلت إسرائيل نحو مليون فلسطيني، أما اليوم فهناك 13500 أسير فلسطيني، يذوقون ويلات الأسر والقمع من وحدات إسرائيلية خصصت لقمع الأسرى حتى داخل زنزانة السجن، ومع اشتداد وطأة القيد وتزايد الانتهاكات الإسرائيلية ضد الأسرى، أبدعوا في إيجاد السبل لكسر قيود المحتل وعنفه، واختراق جدرانه نحو الحرية فكانت رحلتهم بالهروب ضرب من الخيال، كونه هروب من زنزانة القبور الحية المحاطة بالحراسة المشددة والتفتيش المتواصل، والمراقبة بأدق الكاميرات لأدنى تفاصيل حياة الأسرى، ويعد نجاح 77 أسيراً فلسطينيا من الهروب من سجن شطة عام 1958م، أِشهر عملية اختراق لقبور الصمت، بعد مواجهة دموية مع السجان الإسرائيلي واستشهاد 11 أسيراً وقتل سجانين من جنود الاحتلال، ولن تكون عملية هروب ستة أسرى عام 2021م الأخيرة، من سجن جلبوع بعدما حفروا نفقاً في زنزانة السجن، الذي يعد أكثر السجون الإسرائيلية تحصيناً.
تتناول هذه القصة واقعة هروب خمسة أسرى من سجن النقب ـ أنصار3 عام 1990م، واتيحت الفرصة للكتابين لقاء أربعة من الأسرى ليتم رصد وسرد تفاصيل هذه القصة بأدق تفاصليها، حتى مع تعرضهما للنزوح هربا من الإبادة الجماعية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني في حرب طوفان الأقصى عام 2023م، ليستكملا تفاصيلها التي توقفت خلال عام من الحرب، وخشية فقدان تفاصيلها خاصة مع استشهاد اثنين من الأسرى خلال الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة.
عماد القطناني وأيمن عابد في اللجان الشعبية بمنطقة الفالوجا في جباليا، كان لهم نشاط بارز في منع الناس من التعامل مع البضائع الإسرائيلية، واستخدام المواد الأساسية، وعدم تعامل الناس مع شرطة الاحتلال، والتحريض المستمر ضد الاحتلال والاحتكاك المباشر مع الاحتلال إما بالسلاح الأبيض أو المراوغة من بين المخيمات.
بدأت قصة الهروب من داخل المحكمة العسكرية في السابع من مارس عام 1990م، إذ اجتمعت الحشود على جنبات الطريق وسط مدينة لغزة بانتظار محاكمة جهاز القوى الضاربة بقطاع غزة الذي يضم عماد القطناني، أيمن عابد، رفيق حمدونة، وأنور أبو جبل.لذلك عمل جهاز المخابرات الإسرائيلية على البحث عن أعضاء اللجان الشعبية والقوة الضاربة وقيادات القيادة الوطنية الموحدة، وبدأت عمليات الاعتقال، وبأساليب الاحتلال في تعذيب المعتقلين وإكراههم على الاعترافات، ورغم صمود المعتقلين في وجه السجان، واستخدم قانون تامير، الذي عمل به رئيس وزراء الاحتلال إسحاق شامير عام 1983م، حيث سمح بالإيعاز لحكومته العنصرية بسن وتفريخ قانون تامير القاضي بالحكم على الأسير الفلسطيني دون اعتراف أو بشهادة أحدهم وأيضا دون وصول الأسير أو وجوده في المحكمة أساساً" بقي عماد وأيمن مدة التسعة شهود تحت التحقيقات ما بين (أنصار 2) وسجن من شدة التعذيب والتحقيق وممارسات الاحتلال معه، لتبدأ فكرة الهروب تراودهم من داخل القسم(5) من سجن أنصار، شاركه في الفكرة أحمد أبو طحان وأنور المقوسي من (قسم6 )، ولكن عند عمليات التحضير والتخطيط لعملية الهروب اختلفوا الثلاثة حول من يبادر بالخروج أولاً، لأن الخوف كان متربع بينهم، فالقسم(5، 6 ) خطيران من شدة الحراسات ونقاط المراقبة حولهما، وقسم الأشبال موجود خلف القسمين، فكانت نسبة الفشل في الهروب كبيرة جداً.
بدأت قصة الهروب من داخل المحكمة العسكرية في السابع من مارس عام 1990م، إذ اجتمعت الحشود على جنبات الطريق وسط مدينة لغزة بانتظار محاكمة جهاز القوى الضاربة بقطاع غزة الذي يضم عماد القطناني، أيمن عابد، رفيق حمدونة، وأنور أبو جبل.ص27
الليلة السوداء:
قررت إدارة سجن أنصار نقل عماد، وأيمن، ورفيق لسجن غزة المركزي، غرفة (رقم 10)، وهي المعروفة بغرفة الترحيل، هناك أخذ رفيق يشرح لرفاقه الفرق بين السجن والمعتقل" بين لهم أن السجن أقل سوءاً من المعتقل، وذلك لأن الذين يشرفون على السجون هم الشرطة المدنية، أما الذين يشرفون على المعتقلات هم الشرطة العسكرية التي تعتبر أكثر شراسة وإجراماً من الأولى.. السجون لها نظام محدد يسمح للأهالي بزيارة أبنائهم، أما المعتقلات فلا يسمح للأهالي بالزيارة حتى انقضاء مدة الحكم " ص29؛ إلا أنه تقرر نقلهم إلى سجن النقب الصحراوي، وهذا معناه عقاب اجرامي إضافي لهم بشكل غير مسبوق، وفي طريق اقتيادهم للسجن تمرد الشباب الثائر، وعملوا على نزع عصابات الأعين لتوديع شوارع المدينة، وأهلها لأكثر من عشر سنوات.
مخاض ثوري جديد:
اجتمع الشباب الثلاثة في غرفة( رقم3 ) ليلتقوا في القسم بصديقهم عمر العريني، الذي اعتقل مع رفيق عام 1984م، لتبدأ ملحمة نضالية جديدة لهم داخل السجن باتخاذ خطوة نضالية سريعة تكون ثمرتها إيقاف تصدير المحكومين بمدة عالية إلى معتقل أنصار 3، ومن داخل هذه الغرفة بدأ التفكير الهستيري لكيفية التخلص من هذه المقبرة، وتحدي الجنرال الإسرائيلي تسيمح الذي قتل أسيرين هما أسعد الشوا وبسام السمودي، تلك الجريمة التي أدت لترقية تسيمح الذي تمادى في أساليبه الإجرامية، وتحدى إدارة الصليب الأحمر وقوانينه.
عن سجن أنصار يقول الكاتبين: "سجن أنصار 3 مقسم إلى عدة أقسام بين كل قسم وآخر مسافة واسعة قد تبلغ 40 متراً، فكان لا بد من اللجوء لوسيلة تقليدية وبدائية، لكنها مجدية تتمثل في ربط الرسالة بحجر وقذفها إلى مقربة من أسلاك القسم المطلوب أو وراء الأسلاك الشائكة، ولقد تعارف الشباب على هذه الوسيلة باسم البريد الجوي، أما الشرطة فلقد أطلقت عليه اسم فاكس".
أراد الأسرى كسر العزلة الإعلامية عن معتقل النقب (أنصار 3 )، وفضح الممارسات الصهيونية داخل هذا الباستيل، فجميع مطالبات حملات القوى المحبة للسلام مثل السلام الآن ومطالبة بعض أعضاء الكنيست بالسماح للصحافيين بالتغطية الإعلامية قد باءت بالفشل بحجة أنها منطقة عسكرية واستراتيجية، وفيها مصالح على درجة كبيرة من السرية يمنع الاقتراب أو التصوير فيها. بالإضافة لرفع الروح المعنوية لدى الأسرى؛ لأن تنفيذ عملية الهروب تثبت بأن الانسان الفلسطيني قادر على إذلال العدو حتى وهو في أسره.. (ص37).
يقول عماد:"كنا مؤمنين أنه في حال نجاح العملية فإننا نكون قد فضحنا الممارسات الإجرامية البشعة في مقبرة الأحياء ( النقب- أنصار3 )، وإذا كتب لنا الفشل فنكون قد فزنا بالشهادة إضافة إلى الضجة الإعلامية التي سيحدثها خبر استشهادنا"
اختار المحتل موقع المعتقل بأن يكون في الصحراء لتأديب روح المقاومة لدى الشباب الفلسطيني ما بين:
ـ الجو الصحراوي حيث تكون درجة الحرارة في النهار مرتفعة جداً، وشديدة الانخفاض في الليل.
ـ بُعد المعتقل يساهم في عزل المعتقلين وحجبهم عن العالم الخارجي.
أراد الأسرى كسر العزلة الإعلامية عن معتقل النقب (أنصار 3 )، وفضح الممارسات الصهيونية داخل هذا الباستيل، فجميع مطالبات حملات القوى المحبة للسلام مثل السلام الآن ومطالبة بعض أعضاء الكنيست بالسماح للصحافيين بالتغطية الإعلامية قد باءت بالفشل بحجة أنها منطقة عسكرية واستراتيجية، وفيها مصالح على درجة كبيرة من السرية يمنع الاقتراب أو التصوير فيها. بالإضافة لرفع الروح المعنوية لدى الأسرى؛ لأن تنفيذ عملية الهروب تثبت بأن الانسان الفلسطيني قادر على إذلال العدو حتى وهو في أسره..فهو معتقل مناف للقوانين الدولية والمعاهدات الإنسانية وخاصة معاهدة جنيف الثانية التي وقعت عليها إسرائيل، ولكن ذلك لم يمنع جيش الاحتلال من اتباع أبشع الوسائل والأساليب لتركيع ومعاقبة الفلسطينيين، وارتكاب أبشع الجرائم بحقهم، ويتعرض المعتقلون للضرب المبرح والصلب تحت أشعة الشمس الحارقة لساعات طويلة، ولا تتوافر لهم لوازم النوم من أغطية وفرشات، وحين طلب المعتقلون من إسحاق رابين إغلاق المعتقل أو تحسين ظروفهم أجابهم قائلاً: ما دامت انتفاضتكم مستمرة فإن الصحراء واسعة جداً تتسع للمزيد من المعتقلات، ومع ظروف المعتقل حيث لا أغطية ولا فرشات أصيب أغلب من دخلوا السجن المعتقل بالعديد من الأمراض خاصة الروماتيزم والأمراض الجلدية ومن الأساليب الوحشية القمعية قيام سلطات المعتقل بين الحين والآخر بمصادرة ملابس المعتقلين في هجمات مفاجئة على الأقسام(ص40).
ساعة الصفر:
تم جمع المعلومات الكافية من الأسرى حول الأبراج الأخرى ودراسة إمكانية اكتشاف الشباب في لحظة الصفر أم لا، كما تابعوا نقاط الشرطة العسكرية الثابتة على الأرض، ليتم تحديد نقطة الانطلاقة في الهروب نحو الحدود المصرية، ليتم تحديد المسافة من خلال طلعات طيران سلاح الجو الإسرائيلي من احدى المطارات القريبة، وكذلك من خلال خارطة الأرصاد الجوية التي تنتشر بشكل يومي في الصحف الإسرائيلية التي تم تحديد مكان السجن بدقة تفصيلية.
بدأ العد التنازلي لساعة الصفر يوم 10 مارس 1990م، اجتمع الرفاق الخمسة داخل غرفة الخيمة، وكأنها حفلة وادع للشباب قبيل الهروب، تم ترتيب الخروج من المعتقل لأيمن أولا ثم رفيق وأنور، وأخيرا عمر على التوالي تحدث أيمن عن لحظة هروبه:" غابت كل الدنيا عن عالمي الجنود والأبراج والكشافات وبقي الهدف الوحيد هو اجتياز حواجز الموت الثلاثة المحيطة بالمعتقل كنا مجرد أموات في مقبرة الأحياء، وها نحن نعلن ميلاد القيامة"، وعن تلك اللحظة يضيف عماد " تصارع أيمن مع السلك الأول ونزلت الدماء من يديه، ولم يحس بها، وبالفعل استطاع تجاوز السلك الأول ولمحته وهو خارج السلك وكان علي ان اتبعه وخرجت مسرعاً حتى نساعد بعضنا البعض، ولأشد من عضده"، اقتربت لحظة الحرية للجميع بين السلك الثاني والثالث، لكنهم بين مرمى النيران والعيون والكشافات ودوريات الجيش الراجلة والمحمولة، لتبدأ لحظة الركض المتواصل فلا مجال للهرولة أو المشي...كنا نسابق الريح وكلما نظرنا للخلف أحسسنا أن المعتقل يصغر" .
وصل الجميع في حالة من التعب الشديد إلى صحراء سيناء، فرفح المصرية توجه الخمسة نحو القاهرة إلى مستشفى فلسطين التي نزلها الشباب الفلسطيني؛ ليجدوا الأطباء والممرضين يتحاورن فيما بينهم عن خبر عملية الهروب من سجن أنصار3، ليحضر مسؤول أمن حركة فتح، والأمن المصري، والجميع مندهش من هول ما يسمع ويرى أمامه في حالة من التعجب والذهول ليتم نقلهم إلى كلية الضباط، ومنها إلى التحقيق والتثبت من هويتهم، ومن ثم تم نقلهم لسجن أبو زعبل ص69.
علمت دولة الاحتلال بوجود الأسرى في مصر، فطالبت بتسليمهم فوراً بناءً على اتفاقية كامب ديفيد إلا أن تدخل منظمة التحرير الفلسطينية، ومسارعتها بنقلهم إلى تونس قد حال دون ذلك، ومن ثم استطاع الأسرى الثلاثة الالتحاق بالجامعات الهندية بكلية التجارة وهناك قاموا بدور ريادي في اتحاد الطلبة، يتحدثون عن أوضاع الشعب الفلسطيني، والمعتقلين، ومن ثم عادوا إلى غزة كأعضاء المجلس الوطني، ولكن إسرائيل رفضت دخول عماد كرفض أمني له.
الهروب من السجن فكرة تراود الأسرى منذ لحظة اعتقالهم أو النطق بالحكم، وبعضهم يذكر أن الفكرة لم تغب عن ذهنه لحظة واحدة على الرغم من تدقيق إدارة السجن والتفتيش المستمر الروتيني والمفاجئ الذي يتعرض له الأسرى وغرفهم داخل السجن، لذا قد تبدو مجرد الفكرة خيال أو سراب لكنها كانت للأسرى حلماً وهدفاً لا بد من السعي لتحقيقه والتركيز جيداً في سبيل نيله، فكان حفر الأنفاق في الغرف والحمامات ونشر القضبان الحديدية وإحداث الثغرات وانتزاع الأجساد من بين الأسلاك.. فالأسرى لم يتركوا طريقة إلا درسوها وخاضوها بعزم الأبطال فمن يعيش الموت في معتقلات الاحتلال لن يخيفه الموت على الأسوار.