رحل عن عالمنا الشهر الماضي الأديب والروائي المصري محمد جبريل بعد حياة حافلة بالإبداع تُوجت في عام 2020 بحصوله على جائزة الدولة التقديرية في الآداب. استمر الراحل في الكتابة مدة تصل إلى نصف قرن بقي فيها وفيا للقصة القصيرة والرواية وبقي متصلا بالأجيال الجديدة في مصر والعالم العربي عبر ندوة أسبوعية استمرت قرابة 35 عاما نقل خلالها خبرة جيله للأجيال التي تشكلت وفق معايير ثقافية وكتابية مختلفة.

قدَّم الراحل للمكتبة العربية أكثر من 85 كتابا تنوعت بين القصة والرواية والدراسات الأدبية، كما سجّل الراحل حضورا كبيرا في الصحافة الثقافية، وهو أحد الأسماء التي ساهمت في تأسيس جريدة الوطن العمانية في مرحلة سبعينيات القرن الماضي وأحد الأسماء التي كان لها السبق في تأسيس الصحافة الثقافية في عُمان عبر صفحات جريدة الوطن.

وكنتُ قد أجريت مع الراحل حوارا طويلا نشرته في قناتي على اليوتيوب.. ومع خبر وفاته ووفاءً له ولدوره في مرحلة تأسيس الصحافة العمانية ولدوره الإبداعي في العالم العربي أعيد صياغة جزء من ذلك الحوار بما يتناسب مع النشر الورقي في ملحق جريدة عمان الثقافي:

***

تجربتي في سلطنة عمان بدأت بتصور مغلوط عن مدينة مسقط، إذ كنت أراها مجرد دوّار أمام البيت الكبير، حيث يقف رجل شرطة ينظم حركة السير. كانت تلك الصورة تبرز دائما في الصحف، وكانت تمثل مسقط بالنسبة لي. لكنني لم أكن أعرف شيئا عن المدينة، وكانت غامضة في ذهني حتى جاءني المرحوم الشيخ سليمان الطائي في القاهرة وعرض عليّ أن أتولى تحرير جريدة الوطن. استفسرت منه عن ظروف الجريدة، فعرفت أنها كانت تصدر بشكل متباعد وتواجه صعوبة في الاستمرارية، كما كانت تُطبع في بيروت وأحيانا في الكويت، مع غياب أسرة تحرير مستقرة.

وصلت مسقط ذات فجر من عام 1976، وأقمت في فندق الكورنيش المطلّ على سوق السمك في مطرح. استفقت في اليوم الأول على صوت الباعة الذين كانوا يملؤون المكان، وظننت أنني في القاهرة بين الصحو والنوم. جاءني الشيخ سليمان الطائي ومعه حسين مرسي، الإداري الذي كان يشرف على مهام الجريدة، ثم ذهبنا إلى مقر الجريدة الذي كان وقتها متواضعا بجانب النادي الأهلي. كان هناك بائع آسيوي يبيع المأكولات يُدعى محيي، وكان يستمع دوما إلى أغنية «أروح للملا علي وأقول له يا ملا علي»، حتى حفظتها من كثرة سماعي لها.. كان أمامنا أيضًا دكان لتقطيع اللحم، الذي كان يمثل مكانا حميميا.

يواصل جبريل حديثه بالقول: بدأت العمل في الجريدة، وكان في ذهني إصرار على تقديم شيء مختلف. وضعت خطة للصحيفة، وكنت أطمح إلى تجربة مشابهة لتجربة مجلة «الحوادث» اللبنانية التي أصدرها سليم اللوزي.

في البداية، واجهنا تحديات كبيرة بسبب أن عمال المطابع لم يسبق لهم إصدار صحف، كما أنني لم أكن متمرّسًا على تقنية الطباعة أوفست. لكننا تجاوزنا الأخطاء التي وقعنا فيها وبدأنا ننتظم في الإصدار. وصلني إحساس كبير بالنجاح عندما جاءني الأستاذ عبدالعزيز الرواس، وزير الإعلام في ذلك الوقت، وقال لي: «أنت أفضل من جريدة عمان»، على الرغم من أنني كنت أعمل وحدي، بينما كان طاقم جريدة عمان كبيرا.

يضيف جبريل: كان العمل في الجريدة مرهقًا للغاية. لم أكن أستطيع زيارة سلطنة عمان بشكل كافٍ، إذ كنت أعمل طول اليوم في الفندق أو في الجريدة. أحيانًا، كنا أنا وزوجتي نأكل الطعام من الثلاجة باردًا لعدم وجود وقت لتسخينه. أذكر أيضًا أنني كنت أذهب إلى الجريدة في الثالثة صباحًا، حيث كان يزورني شاب طموح محب للصحافة هو عبدالحميد الطائي، الذي أصبح فيما بعد أحد الأركان الأساسية للجريدة.

كانت الجريدة تصدر 12 صفحة أسبوعيًّا، وأحيانًا تصل إلى 16 صفحة، إذا استطعنا الحصول على إعلانات، لكننا واجهنا صعوبات مع المعلنين الذين كانوا يمتنعون عن الإعلان بسبب عدم انتظام صدور العدد. كان من الصعب إدارة الإعلانات بسبب التغيرات المستمرة في المواعيد، لكننا تمكّنا من تصحيح الوضع بعد فترة من الزمن، وأصبحت الجريدة تصدر بشكل أسبوعي ثابت.

في البداية، كنت أنا «أسرة التحرير» بالكامل. كنا نكتب المادة، نطبعها، نصححها، ثم أبدأ بتنسيق الصفحات. كان عملنا يعتمد على المجهود الفردي بشكل كبير، لكن الشيخ سليمان الطائي كان متحمسا جدا لدعمي، وحاول تسهيل كل العقبات التي واجهتنا. بعد وفاته، استمرت الجريدة بفضل دعم ابنه، الأستاذ محمد الطائي.

أذكر أنني أخبرت محمد الطائي في وقت لاحق أنني قررت أن أكرس نفسي للكتابة الأدبية، وأنني قد قدّمت كل ما لديّ للجريدة.

ويتحدث محمد جبريل عن الكتّاب الذين عاصرهم فيقول: أذكر بعض الأسماء مثل محمود الخصيبي -رحمه الله-، وسعود المظفّر، وزاهر الغافري. كما كان الأستاذ أحمد الفلاحي من الأسماء البارزة في ذلك الوقت.. كانوا قلة في البداية، ولكن سرعان ما نمت حركة أدبية في عُمان وأخذت تتطور يوما بعد آخر إلى أن أصبحت اليوم مصدر فخر على المستوى العربي.

ويتحدث جبريل عن الشاعر الشيخ عبدالله الخليلي باعتباره «مثالًا للمبدع المثقف والإنسان المتكامل خلقًا وعلمًا وإنسانية. يقول: زرته في سمائل، حيث وجدته يفيض علمًا، وكان هدوؤه وسموّ أخلاقه يترك انطباعًا عميقًا لدى كل من يلتقيه.. كان شخصًا استثنائيًّا، تتجسد فيه كل صفات الإنسان السويّ. أما هلال السيابي، فلم أتابعه كثيرًا كشاعر، لكنه كان صديقا مقربا، وكان يشغل منصب مدير الرقابة. حتى في اختلافاتنا، كان يعبّر عن رأيه بمحبة ولم تصل خلافاتنا يوما إلى الحدة. بعد مغادرتي عُمان، تواصل معي طالبًا لقاء، وكان من دواعي سروري أن نجلس ونتحدث مجددا.

أما عن الحياة الاجتماعية في مسقط، فيقول محمد جبريل: لم يكن لدي وقت كافٍ لحضور المناسبات أو زيارة مختلف المحافظات، كنتُ بين جريدة الوطن ومنزلي فقط، وكأن حياتي محصورة بين هذين المكانين. ورغم إقامتي في عُمان لمدة ثماني سنوات، لم أتمكن من استغلال الفرصة لاكتشاف البلد كما كنت أتمنى. رأيت نزوى يوما واحدا، وسمائل عندما التقيت بالشيخ عبدالله الخليلي، وزرت بهلا زيارة عابرة، وكذلك السيب.

يضيف جبريل: لكن الجريدة كانت تحديا كبيرا، إما أن أنجح أو أفشل، ولذلك كنت أكرّس لها كل وقتي. حتى خلال الرحلات بين مسقط والقاهرة، كنت أقضي وقتي على الطائرة أخطط لما سأفعله في الجريدة عند عودتي. خلال تلك السنوات، لم أنشر سوى مجموعة قصصية واحدة بعنوان «نكسات الأيام العصيبة»، لكن بعد مغادرتي عُمان، تفرغت أكثر للكتابة الأدبية، فأصدرت أكثر من 86 كتابا.

وعن وجود مسقط في أعماله يقول: لم تكن مسقط بعيدة عن أعمالي الروائية، بل كانت حاضرة بقوة. أول رواية لي كانت «الأسوار»، أما الثانية فكانت «إمام آخر الزمان» وقد استلهمتها من أجواء مسقط القديمة. كان المشهد هناك أشبه بعالم ألف ليلة وليلة، سواء في البنايات، أو الحياة اليومية، أو حتى الملابس، مما أوحى لي بفكرة الرواية التي تناولت المعتقد الشيعي الاثنا عشري حول ظهور الإمام المنتظر. كانت لتلك البيئة خصوصية فريدة، ذكريات لا أجد لها مثيلًا في أي مكان آخر، حيث الامتزاج العميق بين الماضي العريق وملامحه الساحرة.

وحول الحديث عن الرواية العربية يقول محمد جبريل: أرى أن إبداعنا العربي الحقيقي يظهر عندما نستمده من بيئتنا وتاريخنا وتراثنا. لقد حقق الرواد والأجيال اللاحقة هذا إلى حد كبير، لكنني أخشى أن الإسراف في محاكاة الغرب قد يبعدنا عن أصالتنا وهويتنا. شخصيًّا، أجد إعجابًا متزايدًا بالواقعية السحرية التي برزت في أدب أمريكا اللاتينية، لكنها مختلفة عن رؤيتي لما أسميه بالواقعية الروحية. يفسر جبريل حديثه فيقول: الواقعية السحرية تمزج بين الواقع والخيال، بينما الواقعية الروحية ترتبط بالمعتقدات وما وراء الطبيعة، وتعتمد على يقين شعبي بأمور تبدو خرافية لكنها جزء من الوجدان العام. في مصر، على سبيل المثال، نجد صلة عميقة بين الناس وأولياء الله، حيث يخاطبونهم كأنهم أحياء، يطلبون منهم المعونة أو يعاتبونهم إن لم تتحقق رغباتهم.. هذه الظاهرة غائبة عن عُمان، لكنها جزء أصيل من الموروث الشعبي المصري.

يتحدث محمد جبريل عن الترجمة فيقول: يُقال إنها خيانة للنص الأصلي، لكنني لا أستطيع الحكم على الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى. ومع ذلك، أجد أن بعض المترجمين من اللغات الأجنبية إلى العربية يتقنون اللغتين بشكل باهر، لدرجة أن القارئ يشعر كأنه يقرأ النص بلغته الأصلية. من أبرز هؤلاء صالح علماني، الذي كان مترجما بارعا. لكن هناك ظاهرة سلبية في الترجمة، حيث تُترجم بعض الأعمال أكثر من مرة دون ضرورة، بينما تبقى أعمال أخرى ذات قيمة عالية بلا ترجمة. كان من الأفضل أن يكون هناك تنسيق عربي لضمان توزيع جهود الترجمة بشكل أكثر كفاءة، بحيث ننتقل من عمل إلى آخر بدلا من تكرار ترجمة كتاب واحد عشرين مرة، كما حدث مع رواية «العجوز والبحر» لهمنجواي. كذلك، هناك من يعيد صياغة الكتب المترجمة إلى العربية بأسلوبه ثم ينسبها إلى نفسه كأنه أعاد الترجمة من جديد، رغم أنه لا يجيد اللغة الأصلية. هذه الظاهرة تسيء لجهود المترجمين الحقيقيين، وتضيع جهود أشخاص مخلصين مثل صالح علماني.

يتحدث محمد جبريل عن نجيب محفوظ فيقول: كانت علاقتي به وثيقة، لدرجة أنني خصصت له كتابا بعنوان «نجيب محفوظ: صداقة جيلين»، حيث كنت ألتقي به يوميا لمدة ساعتين في كل المكاتب التي أنتقل إليها، وذلك قبل أن يحصل على جائزة نوبل. كما كتبت عنه كتابا آخر بعنوان «زيارة أخيرة إلى حضرة نجيب محفوظ». كان نجيب محفوظ شخصية فريدة، ليس فقط بموهبته غير العادية، بل بثقافته الموسوعية أيضا.. رغم أن كل أعماله تدور حول مصر وبيئتها، إلا أن تأثير قراءاته للأدب الأوروبي كان واضحا فيها. على سبيل المثال، تجد في روايته «اللص والكلاب» و«الطريق» أصداء من أعمال كافكا وديستويفسكي، كما أن موضوع الجريمة حاضر في معظم رواياته.

في أحد اللقاءات، عندما قيل إن «أولاد حارتنا» ليست سوى محاكاة لقصص الأنبياء، ردّ قائلا: أعطوني عملًا واحدًا لا يخلو من تأثيرات أدبية سابقة، وعندما حاول النقاد إثبات العكس، فشلوا، حتى قال أحدهم: انتصرت يا نجيب.

ويضيف: ما يميز نجيب محفوظ أيضا هو نظامه الصارم، فقد كان يخطط ليومه مسبقا بدقة مذهلة. كان يستيقظ في وقت محدد، ويعمل حتى الثالثة ظهرا، ثم يتناول غداءه، ويأخذ قيلولة، وبعدها يجلس للقراءة والكتابة حتى الثامنة مساء. إن لم يجد شيئا ليكتبه، كان يرسم أشكالا على الورق في انتظار الإلهام. ثم يجلس مع ابنتيه قبل أن ينام ليبدأ يومه التالي بالدقة نفسها. حتى في ندواته، كان ملتزما بوقت محدد؛ فكل خميس يذهب إلى مقهى عرابي في العباسية من السادسة حتى الثامنة مساء، ثم يغادر إلى «الحرافيش» في عوامة على النيل حتى الفجر، ويوم الجمعة يخصصه لعائلته.

كان نجيب محفوظ في شبابه في المركز الثاني على مستوى قسم الفلسفة، لأنه كان يرفض الدراسة يومي الخميس والجمعة. لو كان حصل على المركز الأول، لربما أصبح فيلسوفا بدلا من أديب. الفائز بالمركز الأول، توفيق الطويل، سافر إلى باريس وعاد فيلسوفا، بينما بقي نجيب محفوظ في مصر ليصبح عميد الرواية العربية.

حتى عاداته اليومية تعكس شخصيته المنضبطة. عندما كنت ألتقيه يوميا، كان النادل يحضر له فنجان القهوة عند الساعة الثانية عشرة تماما دون أن يطلبه، وحين استفسرت، قال لي النادل: لا يحتاج أن يطلب، هذه عادته منذ سنوات.

كان يكتب بالقلم الرصاص، ويمحو ويصحح حتى يرضى عن النص، ثم ينقله بالقلم الحبر السائل ليسلمه إلى المطبعة. كان يحمل معه دائما ورقة صغيرة يدوّن فيها ملاحظاته، يلتقط من الشارع التعبيرات الشعبية، والنكات، والأغاني، تماما كما فعل بلزاك في الأدب الفرنسي. لهذا نجد في «الثلاثية» و«الحرافيش» تعبيرات لم يكن بالإمكان سماعها إلا من أفواه الناس في الأسواق.

نجيب محفوظ لم يكن مجرد كاتب موهوب، بل كان منظما صارما، ومثقفا موسوعيا، ومستمعا حادّ الملاحظة، وهو ما جعله سيد الرواية العربية بلا منازع.

محمد الندابي كاتب عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: جریدة الوطن محمد جبریل فی الجریدة نجیب محفوظ جبریل عن الذی کان فی ع مان کان من

إقرأ أيضاً:

الرواية اليمنية لحادثة سقوط طائرة “F-18”

يمانيون/ كتابات/ علي ظافر

في حادثة غير عادية أعلنت البحرية الأميركية سقوط وغرق طائرة حربية من نوع f18 في البحر الأحمر، وتعد هذه الطائرة من أحدث أنواع الطائرات الأميركية وأكثرها تطوراً وتعدداً في المهام، كما تبلغ قيمتها أكثر من 67 مليون دولار، فإن سقوطها أو إسقاطها على اختلاف الروايات والفرضيات، يمثل في الحقيقة قيمة استراتيجية وتطوراً هو الأهم والأحدث في مسار المعركة البحرية المستمرة منذ أكثر من أربعين يوماً بين القوات الأميركية من جهة والقوات المسلحة اليمنية.
أمام هذا التطور تبرز الكثير من التساؤلات. ماهي الثغرات في الرواية الأميركية تجاه حادثة سقوط طائرة f18 من على متن حاملة الطائرات يو إس إس هاري ترومان؟ وسواء سقطت الطائرة أو أسقطت … لماذا سارعت البحرية الأميركية إلى الاعتراف بتلك الحادثة رغم ما تمثله من فضيحة مدوية لقوة صورت وسوقت نفسها منذ زمن بعيد على أنها “سيدة البحار” من دون منازع أو منافس و”القوة التي لا تقهر”.!

وما دلالة الاعتراف الأميركي بـ “سقوط الطائرة” بعد ساعات من إعلان القوات المسلحة اليمنية عن “عملية اشتباك مشتركة… ضد حاملة الطائرات هاري ترومان والقطع المرافقة لها وإجبارها على التراجع والابتعاد” إلى شمال البحر الأحمر رداً على جريمتي العدوان الأميركي اللتان تسببتا باستشهاد ثمانية مدنيين بينهم نساء وأطفال في بني الحارث بالعاصمة صنعاء، و125 شهيداً وجريحاً في مركز إيواء المهاجرين غير الشرعيين من جنسيات أفريقية في صعدة.
وفي المقابل لماذا لم تصدر قوات صنعاء حتى اللحظة أي تعقيب أو رواية بخصوص الأسباب والملابسات التي أدت إلى غرق الطائرة الأميركية في البحر الأحمر؟ وقد أعلنت خلال الأسبوع المنصرم على لسان الرئيس مهدي المشاط “خروج هاري ترومان عن الجاهزية في الأيام الأولى من العدوان الأميركي”.

ارتباك وتناقض في الرواية الأميركية
الرواية الأولى صدر بيان عن البحرية الأمريكية في المنامة عن وقوع حادثة على متن حاملة طائرات، وإن أحد البحارة أصيب بجروح طفيفة، جراء سقوط الجرار وطائرة من نوع f18 في البحر من على متن حاملة طائرات. وفي هذه الرواية المضللة حاولت البحرية الأمريكية فصل وسلخ الحادثة عن سياقها، إذ لم تذكر الحاملة التي سقطت الطائرة من على متنها مع الإشارة السريعة إلى الطائرة غرقت وأنها يجري التحقيق في الحادثة وكأنها حادث عرضي أو حادث مروري!، والملاحظة الأهم أن البحرية الأميركية تعمدت تماماً عدم الإشارة إلى “النيران اليمنية”، وبأن الطائرة سقطت أثناء عملية الاشتباك بين ترومان والقطع المرافقة لها في البحر الأحمر من جهة، والقوات اليمنية من جهة أخرى.
وفي انعطافة حادة على صعيد الرواية، نقلت وسائل إعلام أميركية وأخرى عربية عن مسؤولين أميركيين اعترافهم بأن “الطائرة سقطت من على متن حاملة الطائرات هاري ترومان أثناء مناورتها أو انعطافها الحاد تفادياً لنيران الحوثيين” هذه الرواية كشفت بعضاً مما حاولت البحرية الأميركية إخفاءه، ووضعت الحادثة في سياقها بأنها وقعت أثناء عملية الاشتباك بالإشارة إلى “نيران الحوثيين” وأكدت على خلاف الرواية السابقة بأن الحادثة ليست “عرضية”.
الرواية الثانية وإن كانت لاتزال محاطة ببعض الشكوك، إلا أنها أكثر إقناعاً من سابقتها وأكثر احتراماً لعقول الجماهير والمتابعين في الداخل الأميركي وعلى مستوى العالم، وربما تعكس الخشية من الفضيحة أمام الرواية اليمنية بناء على تجربة مماثلة حصلت في  22 -12 – 2024 حينما سقطت طائرة من النوع ذاته f18، وكانت الرواية حينها أنها “أسقطت عن طريق الخطأ بنيران صديقة، مع إصابة طفيفة لأحد قائدي الطائرة”، لتؤكد الرواية اليمنية حينها على لسان المتحدث باسم القوات المسلحة العميد يحيى سريع بأن الطائرة الأميركية “أسقطت” بنيران يمنية.
أما لماذا سارعت البحرية الأميركية بهذا الاعتراف المنقوص والمجترئ للحقيقة فلأن إدارة ترامب بما فيها البحرية الأمريكية لا تستطيع أن تخفي الحقيقة كاملة عن الرأي العام الأميركي هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن المسارعة بالاعتراف المنقوص والمرتبك والمضلل، يأتي استباقاً للرواية اليمنية، ويرى البعض أن الاعتراف بهذه الفضيحة بمثابة قنبلة دخانية للتعمية على الجريمة الوحشية التي ارتكبها العدوان الأميركي بحق المهاجرين الأفارقة في صعدة وراح ضحيتها 125 شهيداً وجريحاً، بهدف صرف الرأي العام عن هذه الجريمة، وهذا الرأي محترم إلا أنه لا يمنع من الحديث عن السقوط الأخلاقي والإنساني لواشنطن من خلال التركيز على جريمة العدوان الأميركي بحق المهاجرين الأفارقة وما سبقها من جرائم، إلى جانب الحديث عن السقوط العسكري لأميركا ورهاناتها، ويكون الأمرين والقضيتين ضمن الأجندة الإعلامية والسياسية في آن معاً.

الرواية اليمنية لحادثة “سقوط طائرة f18”
الاعتراف الأمريكي بسقوط الطائرة جاء بعد ساعات من إعلان القوات المسلحة اليمنية عن عملية اشتباك مع حاملة الطائرات الأمريكية هاري ترومان والقطع العسكرية المرافقة لها، واستهدافها ضمن عملية مشتركة بعدد من الصواريخ والطائرات المسيرة وإجبار الحاملة على التراجع والابتعاد عن مكان تمركزها إلى أقصى شمال البحر الأحمر، ووضعت عملية الاشتباك والمطاردة تلك في إطار الرد على جريمتي العدوان الأمريكي في صنعاء وصعدة والتي راح ضحيتهما العشرات معظمهم من المهاجرين الأفارقة.
هذا التزامن وهذا السياق العسكري (الاشتباك) دليل كاف لأي متابع بالربط بين النيران اليمنية وسقوط الطائرة الأمريكية، سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر نتيجة حالة الرعب والاجهاد والارهاق الذي يعيشه فريق حاملة الطائرات “ترومان”.
وفي هذا السياق نقلت قناة المسيرة عن مصدر في وزارة الدفاع اليمنية معلومات جديدة عن عملية الاشتباك اليمنية مع ترومان والقطع المرافقة لها في أقصى البحر الأحمر كجزء من الرد على الرواية الأميركية.
المصدر الدفاعي اليمني، لم يستبعد “إصابة ترومان بشكل مباشر في عملية الاشتباك الأخيرة”، ورجح أن “ترومان قد تغادر مسرح العمليات في أي وقت”، وكشف المصدر أن عملية الاشتباك الأخيرة تميزت عن سابقاتها بـ “تكتيكات جديدة” وبزخم ناري كبير استمر لعدة ساعات، وأجبر ترومان “تحت الضغط المتواصل بالصواريخ والمسيرات” على التراجع والابتعاد عن مكان تمركزها السابق.
هذا التصريح يحمل عدة رسائل ضمنية، أولاها، أن حملة الضغط العسكري بالعدوان على المدنيين وتكثيف الجرائم بحقهم، كوسيلة ضغط على القوات المسلحة اليمنية وأدائها، يأتي بنتائج عكسية ضاغطة ومؤلمة ومؤثرة على العدو ضمن الرد على تلك الجرائم كما أشار العميد سريع في بيان الاشتباك.
الأمر الثاني، تكشف حادثة إسقاط الطائرة الأميركية فاعلية وتأثير العمليات اليمنية، بالقدر الذي أجبرت ترومان على “التفحيط في البحر” والإنعطاف الحاد خشية من النيران اليمنية، وهذا اعتراف بقوة التهديد.
كما أن العملية تحمل دلالات واضحة على أن قدرات اليمن لم تتأثر، وأن مفاجآتها تتكشف الواحدة تلو الأخرى، وأن العملية الأخيرة لم تقتصر أضرارها على طائرة واحد، بل على حاملة الطائرات وما حملت، كما تعكس حجم الإرهاق والإعياء والإجهاد الذي وصل اليه طاقم حاملة الطائرات، نتيجة الاستنزاف والضغط على مدى أكثر من أربعين يوماً.
وهذا مؤشر آخر بأن القوات اليمنية تَستنزف ولا تُستنزف، وتَردع ولا تُردع. وعلى إدارة ترامب أن تراجع حساباتها في هذه المغامرة بالنيابة عن “إسرائيل” وتوقف نزيف خسائرها الذي يترواح – على اختلاف الروايات الأمريكية – بين مليارين وثلاثة مليارات دولار.
وعلى الإدارة الأميركية أن تدرك أن اليمن لن يتوقف، وأن مفتاح الحل كما نكرر دائماً في غزة وهي قادرة عليه بالضغط لوقف العدوان ورفع الحصار، بغير هذا فإن أفق المعركة يبدو طويلاً والخسارة في نهاية المطاف ستكون أميركية.

مقالات مشابهة

  • الرواية اليمنية لحادثة سقوط طائرة “F-18”
  • قتلى دروز وتأهب إسرائيلي.. شفق نيوز تسرد الرواية الكاملة لأحداث صحنايا السورية
  • الجريدة الرسمية تنشر 3 قرارات جمهورية جديدة
  • محمد نجيب عوضين: آيات الميراث التفصيلية نزلت بسبب امرأة
  • شاهد | من “الإنزلاق” إلى “الإنعطافة الشديدة”.. الرواية الأمريكية في مأزق جديد
  • جبريل إبراهيم: شرُفت بتمثيل السودان في منتدى الأمن العالمي في الدوحة
  • الرموز الأدبية ودورها في أدب المقاومة.. مناقشات مؤتمر أدباء القناة وسيناء بدورته الـ 25
  • لعبة الإستخبارات، جبريل يشرب من كأس مناوي
  • وداعًا لآخر كُتّاب «الطفرة الأدبية» في أمريكا اللاتينية
  • ابن كيران: لسنا حزب الدولة وسنقاضي وزارة الداخلية.."وحدين حجزو الجريدة وخلصوها وهادو حجزو عنا الدعم"