«هل تعرفين اللغات؟ كيف نقول (كمن دي دي) بالفرنسية؟
أجابت أليس بجدّية:«(كمن دي دي) ليست إنجليزية»
«ومن قال إنها كذلك؟»
أليس عبر المرآة: الفصل التاسع
للأحلام مفرداتها الخاصّة، مستمدة من تجارب حياة اليقظة واقعًا وخيالًا، مُعاشةً أو مقروءة في كتاب، جزئيات وشذرات من العالم الذي ندعوه بالواقعي تُغربَلُ ويعاد تنظيمها في الأحلام وفقًا لقواعد ومنطق لا نعلم عنها إلا القليل في يقظتنا.
إن الترجمات من زمن الحلم إلى زمن اليقظة تبني جسورًا بين حالتين وجوديتين مختلفتين، ويمكن بالمثل قول ذلك عن الترجمة من لغة إلى أخرى، سواء من لغة شفهية إلى لغة شفهية أخرى، أو من لغة مكتوبة إلى لغةٍ من لغات الإيماء؛ مثل الرقص التعبيري أو لغة الإشارة للصم والبكم، أو الفنون البصرية إلى كلماتٍ، والعكس. تتيح هذه الجسور عبورًا سلسًا، لكن وفي الآن ذاته، يُحدث العبور تحوّلا في العابر. ويجب ألّا ننسى أن «Translation» (نقل شيءٍ ما من مكانٍ إلى آخر) هي المفردة اللاتينية لما يُطلق عليه «Metaphor» (استعارة/مجاز) باليونانيّة. إذن فعلاقة الترجمة بالنص الأصلي هي كتلك التي تجمع بين الاستعارة والمفهوم الأصلي.
في بواكير العصور الوسطى، كانت كلمة «Translation» (من الفعل الماضي للمفردة اللاتينية transferre «ينقل») تستخدم بمعنى تحريك رفات قدّيسٍ ما من موقعٍ إلى آخر. في بعض الأحيان كانت عمليات النقل والتحريك “translations” هذه غير قانونية، كأن تُسرق هذه الرفات المقدسة من مدينة بغرض تحقيق المجد بنقلها لمدينة أخرى؛ كما في حادثة نقل جثمان القدّيس مارك من القسطنطينية إلى البندقية، مخفيًّا تحت عربة مليئة بلحم الخنزير، الأمر الذي جعل حرّاس القسطنطينية الأتراك يأنفون عن لمسها. يمكن إذن فهم الترجمة «Translation» على أنها عملية أخذ شيءٍ ثمين وتملّكّه بكل الطرق الممكنة.
ما من ترجمة بريئة على الإطلاق؛ كل الترجمات تنطوي على قراءة، واختيار للموضوع والتأويل، وإقصاء أو طمس لنصوص أخرى، وإعادة تعريف وفق شروط يفرضها المترجم الذي-في هذه الحالة- يستولي على لقب المؤلف. وبما أن الترجمة لا يمكن أن تكون محايدةً، تماما كما لا يمكن للقراءة أن تخلو من التحيّز، فالترجمة فعلٌ ينطوي على مسؤولية تتخطى حدود الصفحات المُترجمة، ولا يقتصر ذلك على الترجمة من لغة إلى أخرى فحسب، بل يشمل أيضًا الترجمة داخل اللغة نفسها، بين تصنيف وآخر، ومن نوعٍ أدبيٍّ إلى آخر. وفي هذا السياق لا يُعترف بكل الترجمات بوصفها ترجمات: فعندما جلب حُنين بن إسحاق العبادي هوميروس إلى المكتبة العربية الكلاسيكية، وحينما حوّل تشارلز وماري لامب مسرحيّات شكسبير إلى قصص نثريّة للأطفال، أو عندما ضمّت فيرجينا وولف بسخاء ترجمات كونستانس غارنيت لأعمال تورغينيف «إلى حظيرة الأدب الإنجليزي»، فإن انتقال النصوص الأصلية إلى الحاضنة الجديدة أو إلى المكتبات الوطنية لم يُنظر إليه بوصفه ترجمةً على الصعيد الاشتقاقي للكلمة. حُنيْن، ولامب، ووولف، كلٌّ منهم عمل على إخفاء النص وإلباسه معنىً آخر، إيجابيًّا كان أم سلبيًّا.
اسمحوا لي أن أضرب مثالًا شخصيًّا؛ خلال جزء من عاميّ 1992 و1993، عملت على ترجمة ثلاث قصص قصيرة لمارغريت يورسنار، وهي قصص منشورة بالفرنسية تحت عنوان Conte Bleu، وقد ترجمتها إلى الإنجليزية بعنوان A blue Tale قصةٌ زرقاء، كُتبت هذه الأعمال في فترة باكرة من حياة الكاتبة التي ستعرف فيما بعد بفرادة أسلوبها. بطبيعة الحال، ولأن هذه الأعمال كُتبت بحماسة الشباب وبما فيه من اعتداد معرفيّ، كانت القصص تتأرجح أحيانًا بين البساطة في الأسلوب والتقعّر المفرط. ولمّا كان للمترجمين -ما ليس للمؤلفين - القدرة على إصلاح أخطاء الماضي، بدا لي أن الإبقاء على كل بريقٍ وزخرفة في نص يورسنار الشاب لم يكن سوى محاولة تحذلق، تستهدف علماء الآثار الأدبيّة أكثر مما تستهدف عشاق الأدب. أضف إلى ذلك أن اللغة الإنجليزية أقلّ تقبّلا للإفراط من الفرنسية، عليه وفي بعض الأحيان اقتطعت -بكل أسف- صفةً أو شذّبت تشبيهًا بصمت.
عندما تعرضت ترجمة فلاديمير نابوكوف لـيوجين أونيجين -والتي ترجمها بعيوبها- انتقادًا من صديقه إدموند ويلسون، جاء ردّ نابوكوف بأن مهمة المترجم لا تقتضي تجويد العمل الأصلي أو التعليق عليه، بل على المترجم أن يوفّر للقارئ الجاهل بلغةٍ ما نصًّا مكافئًا مصوغًا بكلمات لُغته. يبدو أن نابوكوف آمن -رغم أني أجد صعوبةً في تصديق أن هذا الحرفيّ الماهر عنى ذلك- أن كلّ اللغات «متكافئة» في المعنى والنبر، وأن ما يُمكن تخيله بلغةٍ ما يُمكن إعادة تخيّله بأخرى، دون حاجة لعمليّة إعادة خلقٍ كاملة. لكن الحقيقة -كما يكتشفها كل مترجم في بداية الصفحة الأولى- أن العنقاء المُتخيلة في لغة ما ليست إلا دجاجة حظيرة في أخرى، ولإضفاء الفرادة والجلال على طائرٍ يُبعث من رماد احتراقه، قد تحتاج لغة أخرى إلى استلهام كائن مختلفٍ يُستمد من عوالم خرافية لها مفاهيمها الخاصة بالغرابة. في اللغة الإنجليزية، على سبيل المثال، «Phoenix» لا تزال تحمل وقعًا جامحًا ومثيرًا؛ لكن في اللغة الإسبانية فإن ave fénix تنتمي إلى البلاغة المتكلّفة الموروثة من القرن السابع عشر.
حتى مراحل متأخرة من طفولتي، لم أكن واعيًا بوجود شيءٍ كالترجمة، نشأت على الإنجليزية والألمانية على يد مربيّتي التشيكية، وتعلمت الإسبانية لاحقًا في عُمر الثامنة أو التاسعة، وطوال طفولتي، عمدت إلى استخدام لغاتي الأولى دون تفرقة، ودون تمييز إحداها على الأخرى، ولم أنظر إليها إطلاقًا بوصفها عوالم منفصلة بحدود يجب عليّ عبورها. بالنسبة لي، كانت اللغة أشبه بما حدث في بابل(1)، ولكن بروحٍ وديّة، حيث تتداخل الكلمات المختلفة في صوتها وإيقاعها لكنها تتقاطع في معناها وقيمتها، كنت أعرف أنه يجب عليّ استخدام كلماتٍ معيّنة بحسب من كنت أخاطب؛ مخاطبة الطبّاخ الذي كان من ميونيخ كانت تتم باستخدام كلمات مختلفة عن المستخدمة في مخاطبة ضيف من الولايات المتحدة، لكنني لم أشعر أبدًا أنه بفعلي ذلك كنت أنقل فكرةً من عالم لغويّ ما إلى آخر. في طفولتي، لم تكن هناك جوازات سفر دلاليّة، ولا هويّات وطنية.
أدركت أن هذا الأمر لم ينطبق على الجميع ذات يومٍ مدرسيّ، لم أكن يومها واثقًا تمامًا من لغتي الإسبانية، فخاطبت معلمي الأرجنتيني باللغة الإنجليزية، فتعرضت لتوبيخ صارم؛ هكذا تعلّمت بأن الحدود اللغوية قائمة، وبأنه يجب علي احترامها، لكنني لم أنجح تمامًا في فعل ذلك. الشعر الإيروتيكي لأبي نواس كما اكتشفته في الترجمات الإسبانية لمارتين ريبا، والنسخة الغريبة والمبتورة التي قدمتها إيزابيل فلورنس هابغود لرواية النفوس الميتة لجوجول، والتي نُشرت بالإنجليزية تحت عنوان الحياة المنزلية في روسيا، والرواية الصينية الكلاسيكية حلم الغرفة الحمراء في النسخة الألمانية التي أعدها الدكتور فرانز كون؛ كلها كانت تنتمي إلى اللغة التي قرأتها بها، وهكذا أغنى إهمالي للتدقيق الأكاديمي مكتبتي الخاصة التي ضمت كتبًا بالإنجليزية والألمانية، ولاحقًا الإسبانية.
للقدرة على التحدث بأكثر من لغة مزايا عدّة؛ يمكّنك ذلك من تبني منظورٍ أكثر انفتاحًا للعالم. فكما يخبرنا علم الأعصاب بأن تعلّم الطفل للغةٍ ثانيةٍ قبل السادسة يسمح بتكوين مساحة أو مسارٍ في دماغه لتعلّم لغاتٍ أخرى أيضًا. أي أن الكلمة المستخدمة في ذهن الطفل لتسمية الحيوان الذي يراه لم تعد مجرّد Dog (كلب) -إذا كان الطفل يتحدث الإنجليزية- لكنها واحدة من كلمات كثيرة تشمل جميعًا هذا المخلوق المكسو بالفرو؛ «Hund»، «perro» ،«chien» ،«cane» بالنسبة للطفل متعدد اللغات، جميعها أسماء متساوية لذلك الحيوان وقابلة للتبديل فيما بينها، إلا أن كلًّا منها تتطلب سياقًا لغويًّا خاصًّا، هذا ما تعلّمته بطريقةٍ مُحرجة ذات يومٍ مدرسيٍّ بعيد. نستخدم كلمة معينة من لغة ما في تفاعل معيّن، ونبدّلها في حال تغيّر المُخاطب، كما نبدّل بين «صباح الخير» و«مساء الخير» وفقًا للتوقيت، فالمعنى في التحيّتين ذاته إلا أن الضوء المحيط بهما هو الذي يتغير.
في اللحظة التي أدركت فيها أن الترجمة فعلٌ ممكن، بدأت بترجمة نصوص أحببتها لمشاركتها مع أصدقائي الذين لا يتحدثون لغة النصّ الأصلية. أعني أن الأمر كان متعةً ذاتيّة، لأنه وكما يعرف القراء جميعهم، ما إن تُشغف بنصٍّ قرأته، لا يمكنك مقاومة إلحاح الرغبة في إخبار الآخرين عنه، فتسارع إلى صديقك لتصيح به: «يجب أن تقرأ هذا!». فالقراءة فعل يبدأ فرديًّا، لكنه كثيرًا ما يتحول إلى تجربة تشاركية.
يمكن للترجمة -بل يجب- أن تكون أعمق أشكال القراءة وأكثرها دقّة، بل تفوق حتى دقة القراءة المصاحبة لتأليف النص الأصلي، فعلى المترجم أن يُبقي القارئ المستهدف في ذهنه ونصب عينيه. ونظرًا لهذه المسؤولية، لا يمكن للمترجم -بل لا ينبغي له- أن يعود للنص الأصلي بعد اكتمال الترجمة؛ لأن مهمة القارئ تبدأ هنا، وبالنسبة لقارئ الترجمة، يجب على العمل الأصلي أن يفنى.
قد تكون أسطورة أورفيوس بمثابة استعارة لفعل الترجمة؛ إذ إن أورفيوس، بوصفه مترجمًا ليوريديس الراحلة، يخسر محبوبته المُتَرْجّمَة بمجرد أن يلتفت خلفه ليتأكد من وجودها. إنه يدرك أن النص، بمجرد أن ينتهي منه المؤلف، يظل معلقًا وثابتًا إلى أن يأتي قارئ ليبعثه من جديد، منتشلاً إياه من «عالم الموتى». في جوهرها، تحمل الترجمة بعدًا قياميًّا، وكان على أورفيوس أن يؤمن بقوة فنه السحري.
يقترح إسماعيل قادري في إحدى رواياته تصورًا مختلفًا لأسطورة أورفيوس، إذ يرى أن الآلهة لم تكن تنوي حقًا إطلاق سراح يوريديس من «مملكة الموتى»، بل وعدته بخداع مقصود، مدركةً أنه لن يقاوم إغراء الالتفات إلى الخلف. في الواقع، لم تكن يوريديس خلفه قط، ولم يُسمح لها أصلاً بمرافقته. أرادت الآلهة الاستمتاع بأغنيته العذبة، فابتكرت هذه الحيلة التي تفترض مسبقًا فقدان الفنان للإيمان. وهكذا، تصبح ترجمة يوريديس خيانة، شأنها شأن كل ترجمة أخرى، إذ يستحيل على المترجم بعث النص الأصلي من موته. في أحسن الأحوال، لا يعدو عمله كونه إعادة تشكيل ليوريديس في هيئة جديدة، لكنها تظل دائمًا مجرد ظلٍّ للنص الأصلي، لا أكثر من كلمات ترثي فقدانها الأبدي. في النهاية، ليست الترجمة سوى رثاء.
لو كانت الترجمة فعل نقلٍ مُجرّد، لما أفسحت مجالًا للتحريف أو الرقابة (أو التطوير والتنوير) أكثر من النسخ الفوتوغرافي، أو في أحسن الأحوال، النسخ الكتابي، لكن الأمر ليس كذلك. إن اعترفنا بأن كل ترجمة، بمجرد نقلها للنص إلى لغة ومكان وزمان آخرين، تُغيره للأفضل أو للأسوأ، فعلينا أن نعترف أيضًا بأن كل ترجمة -حرفية كانت أم إعادة سرد أو صياغة- تضفي على الأصل قراءة جاهزة، أي تعليقًا ضمنيًّا، هنا بالتحديد يتدخل الرقيب.
إن إمكانية أن الترجمة قد تُخفي، أو تحرّف، أو تُخضِعُ، أو تقمع النص الأصليّ هي حقيقة يُدركها القارئ ضمنيًّا حين يقبلها كنسخةٍ عن الأصل. وهو ما وصفه جواشيم دو بيللي عام 1549 في كتابه الدفاع عن اللغة الفرنسية وإبراز جمالها قائلًا: «وماذا عساي أقول عن هؤلاء الذين أرى أنهم خونة لا مترجمون، إذ يخونون من يسعون إلى إبرازهم، عابثين بمجدهم، مضللين قراءً جهلة، فيقرؤون الأبيض في محلّ الأسود».
في فهرس كتاب جون بوسويل الرائد حول المثلية الجنسية في العصور الوسطى، المسيحية، التسامح الاجتماعي، والمثلية الجنسيّة، نجد أن المدخل المخصص «للترجمة» يوجّه القارئ مباشرة إلى «الترجمة الخاطئة»، أو ما وصفه بوسويل «بالتزوير المتعمّد للسجلات التاريخية». إن حالات الترجمة المنقّحة والمُعقّمة للنصوص الكلاسيكية اليونانية والرومانية كثيرة إلى حدّ يصعب إحصاؤه، وهي تتراوح بين مجرد تغيير ضمير يخفي الهوية الجنسية لشخصية ما، إلى الحذف التام لنصّ بأكمله، كما حدث مع كتاب أموريس المنسوب زيفًا إلى لوسيان، والذي قام توماس فرانكلين عام 1781 بحذفه بالكامل من ترجمته الإنجليزية لأعمال المؤلف، نظرًا لما يتضمّنه من حوار صريح بين مجموعة من الرجال حول ما إذا كانت النساء أم الفتيان أكثر إثارة من الناحية الإيروتيكية. وقد برر فرانكلين حذفه لهذا الجزء بقوله: «لكن بما أن هذا الموضوع قد حُسم منذ زمن طويل لصالح السيدات -على الأقل في هذه الأمة- فلا حاجة لمزيد من النقاش حوله».
كتب جورج ستاينر في بعد بابل: «لا يمكننا حظر إلا ما نستطيع تسميته». طوال القرن التاسع عشر، وتحت شرط أن تكون قد نُقيّت عبر الترجمة، أوصي بالنصوص اليونانية والرومانية للتعاليم الأخلاقية للنساء. وقد كشف القس جي. دبليو. برغون عن ذلك صراحةً عام 1884 حينما خطب من على منبر نيو كوليدج في أُكسفورد ضد السماح للنساء بدخول الجامعة، حيث سيتعين عليهن دراسة النصوص بلغتها الأصليّة. وكتب هذا القس المرتاب قائلًا: «إذا كان لا بد لها من منافسة الرجال بنجاح للحصول على ‹مراتب الشرف›، فلا مفر من أن نضع بين يديها بلا تحفظ كتابات العصور الكلاسيكية، وبعبارة أخرى، يجب أن نعرّفها على فحش الأدب اليوناني والروماني. هل يمكنكم حقّا الإقدام على فعل ذلك؟ وهل يعني ذلك أن برنامجكم يرنو إلى تلويث تلك الأرواح الشابّة بقذارة حضارات العالم القديم؟ وهل تسعون أيضًا إلى تعريف تلك العذراوات في زهرة شبابهن على مئات الأشياء البغيضة، والتي تفضّل النساء - وحتى الرجال، لو كان ذلك ممكنًا - تجنّبها تمامًا؟»
من الممكن فرض الرقابة من خلال الترجمة ليس على كلمة أو سطر من النص فحسب، بل على ثقافة بأكملها، كما حدث مرارًا وتكرارًا على مرّ القرون بين الشعوب الواقعة تحت الاحتلال. على سبيل المثال، قام الملك فيليب الثاني ملك إسبانيا وحامي الإصلاح الكاثوليكي المضاد في أواخر القرن السادس عشر بمنح الإذن لليسوعيين باتباع خطى الفرنسيسكان والاستقرار في أدغال ما يُعرف اليوم بباراجواي. منذ عام 1609 وحتى طردهم من المستعمرات عام 1767، أنشأ اليسوعيون مستوطنات للسكان الأصليين من شعوب الغواراني، مجتمعاتٍ مسوّرة عُرفت باسم reducciones «الاختزاليّات»، حيث كان الرجال والنساء والأطفال الذين سكنوها «يُختزلون» إلى دوغمائيات التحضّر المسيحي. إلا أنه لم يكن من السهل تذويب الفروقات بين الغزاة والمغزوّين. «ما يجعلك تراني وثنيًّا، هو ذاته ما يمنعني من رؤيتك مسيحيًّا»، هكذا خاطب أحد الشامانات الغوارانيين أحد المبشّرين اليسوعيين. أدرك اليسوعيون أن التبشير الديني الفعّال يتطلب نوعًا من التبادلية، وأن فهم الآخر هو المفتاح الذي سيمكنهم من إبقاء الوثنيين فيما أسموه - مستعيرين مصطلحًا من أدبيات التصوف المسيحي - «الأسر المستتر». وكانت الخطوة الأولى نحو فهم الآخر هي تعلم لغته وترجمتها.
إن الثقافة تتحدد بما تستطيع تسميته؛ ولأجل فرض الرقابة، يجب أن تمتلك الثقافة الغازية أيضًا المفردات التي تُمكّنها من تسمية ما يخصّ الآخر مما يُراد فرض الرقابة عليه. لذا، فإن الترجمة إلى لغة الغالب تحمل دائمًا في طيّاتها خطر الاستيعاب أو الإبادة، بينما تحمل الترجمة إلى لغة المغلوب خطر الهيمنة أو التقويض. وتنسحب هذه الشروط المتأصلة في الترجمة على كافة أشكال الخلل السياسي. فقد كانت الغوارانية -التي لا تزال تُنطق حتى اليوم، ولو بشكل مختلّف، من قبل أكثر من مليون باراجواياني- لغة شفهية حتى وصول اليسوعيين. حينها، قام الراهب الفرنسيسكاني فراي لويس دي بولانيوس، الذي أطلق عليه السكان الأصليون لقب «ساحر الله» لموهبته الفريدة في اللغات، بجمع أول قاموس للغة الغوارانية. واصل اليسوعي أنطونيو رويز دي مونتويا العمل الذي بدأه فراي لويس دي بولانيوس، وقام بتنقيحه وإتمامه، ليصدر بعد سنوات من الجهد المضني كتابًا حمل عنوان كنز لغة الغواراني. وفي مقدمةٍ لتاريخ البعثات اليسوعية في أميركا الجنوبية، أشار الروائي الباراجواياني أوغوستو روا باستوس إلى أن إيمان السكان الأصليين بالمسيحية تطلّب منهم، قبل كل شيء، تعليق مفاهيمهم الموروثة عن الحياة والموت أو إعادة النظر فيها. من خلال استخدام كلمات الغوارانيين أنفسهم، واستغلال بعض أوجه التشابه بين المعتقدات المسيحية والغوارانية، أعاد اليسوعيون ترجمة الأساطير الغوارانية بحيث تبدو وكأنها تنبأت أو أعلنت مسبقًا عن حقيقة المسيح. فـ»الأب الأول الآخِر الأخير « ، Ñamandú، الذي خلق جسده وصفاته من ضباب البدء، تحوّل إلى الإله المسيحي في سفر التكوين؛ و«توبا»، الأب الأول وأحد الآلهة الثانوية في البانثيون الغواراني، أصبح آدم، أول البشر؛ أما العصي المتقاطعة yvyrá yuasá، التي كانت في تصور الغوارانيين تحمل العالم الأرضي، فقد أصبحت الصليب المقدس. وبما أن الفعل الثاني لناماندو كان خلق الكلمة، فقد استطاع اليسوعيون توظيف هذا المفهوم ليثقلوا الكتاب المقدس، المترجم إلى الغوارانية، بهالة السلطة الإلهية المعترف بها.
عند ترجمة اللغة الغوارانية إلى الإسبانية، نسب اليسوعيون إلى بعض المصطلحات - التي كانت تدلّ على سلوك اجتماعي مقبول بل ومحمود بين السكان الأصليين - معاني تتوافق مع رؤية الكنيسة الكاثوليكية أو البلاط الإسباني. فمفاهيم الغواراني حول الشرف الشخصي، والتقدير الصامت عند قبول الهدايا، والمعرفة المحددة في مقابل المعرفة العامة، والاستجابة الاجتماعية لتغيرات الفصول والتقدم في السن، تُرجمت بفظاظة وبما يخدم الغاية التبشيرية إلى: «كبرياء»، «جحود»، «جهل»، و«تقلب». سمحت هذه المفردات للرحالة النمساوي مارتن دوبريشوفر - بعد ستة عشر عامًا من طرد اليسوعيين - بأن يعكس في كتابه تاريخ الأبيبونيين (Geschichte der Abiponer) عام 1783، تصوره حول الطبيعة «الفاسدة» للغوارانيين، حيث كتب: «فضائلهم العديدة، التي لا شك تنتمي إلى كائنات عاقلة قادرة على التعلم والتمدن، ليست سوى واجهة لأعمال مشوّهة في جوهرها. فهم أشبه بآلات تلقائية جُمعت عناصرها من الكبرياء والجحود والجهل والتقلب، وتنبثق من هذه الجذور الأساسية ينابيع الكسل، والسُّكر، والوقاحة، وانعدام الثقة، إلى جانب العديد من العلل الأخرى التي تضعف من قيمتهم الأخلاقية».
وعلى عكس ما زعمه اليسوعيون، لم تُؤدِّ المعتقدات الجديدة إلى سعادة السكان الأصليين. في عام 1769، كتب المستكشف الفرنسي لويس أنطوان دي بوغانفيل واصفًا الغوارانيين بكلمات مقتضبة: « هؤلاء الهنود حزانى جدًّا، إنهم يرزحون تحت وطأة سيّد متشدد صارم، ولا يملكون أي ممتلكات، ويحيون حياة شاقة تكفي رتابتها لقتل واحدهم مللًا. لذا، وعندما يموتون، لا يشعرون بأي أسف على ترك هذه الحياة»
وبحلول الوقت الذي طُرد فيه اليسوعيون من باراجواي، كان المؤرخ الإسباني فيرنانديز دي أوفييدو قادرًا على أن يصف أولئك الذين «حضّروا» شعب الغواراني ما نُقل عن الزعيم البريطاني كالجاكوس بعد الاحتلال الروماني لبريطانيا: «إن الرجال الذين ارتكبوا هذه الأفعال يُطلقون على هذه الأراضي المحتلة وصف «مسالمة»، أمّا أنا فأرها غير ذلك تمامًا؛ إنها مُدَمَّرة».
عبر التاريخ لطالما اتخذت الرقابة عبر الترجمة أشكالًا أكثر دهاءً. وفي عصرنا الحالي، صارت الترجمة في بعض الدول وسيلةً لإخضاع المؤلفين «الخطرين» لعمليات تطهير. (لقد نُشرت أعمال البرازيلية نيليدا بينيون في كوبا، وأوسكار وايلد «المنحلّ» في روسيا، والمؤرخين من السكان الأصليين في الولايات المتحدة وكندا، و«الطفل المشاغب» الفرنسي جورج باتاي في إسبانيا الفرانكوية، جميعها في نسخ مبتورة. وعلى الرغم من كل نواياي الحسنة، أليس من الممكن اعتبار ترجمتي ليورسنار نوعًا من الرقابة أيضًا؟) وفي كثير من الأحيان، لا تُترجم أعمال المؤلفين الذين قد تسبب آراؤهم السياسية إقلاقًا من نوعٍ ما، ويُتجاهل المؤلفين ذوي الأسلوب الصعب لصالح أعمال أسهل، أو يُحكم على نصوصهم بنسخ ضعيفة أو ركيكة.
إلا أن الترجمةٍ ليست دومًا فسادًا أو خداعًا، بل قد تُنقذ الترجمة أحيانًا الثقافات، ويجد المترجمون ما يبرر مساعيهم الشاقة والمضنية. ففي يناير 1976، جثى عالم المعاجم الأمريكي روبرت لافلين على ركبتيه أمام قاضي قضاة مدينة زيناكانتان في جنوب المكسيك، ورفع كتابًا استغرق إنجازه أربعة عشر عامًا؛ وهو قاموس تسوتزيل العظيم الذي نقل لغة المايا إلى اللغة الإنجليزية، وهي لغة يتحدثها 120 ألفًا من سكان تشياباس الأصليين، والمعروفين أيضًا باسم «شعب الخفاش».
يؤمن شعب الخفّاش بأن الأحلام تمثل حقيقة لا شعورية تسمح لهم باستكشاف أهمية الحياة العملية عبر الأحلام. تبدو لغة أحلامهم وكأنها ملموسة، وتوفر بوابة للواقع الجوهري الكامن وراء الأشكال المادية لحياة اليقظة. إنها أحداث اجتماعية تخضع لأحكام مجتمعية، تتيح الوصول إلى عوالم مغلقة من المشاعر والدوافع البشرية. وهي أيضًا وحي مقدّس يصل الإنسانيّ بالإلهيّ. بالنسبة للتسوتزيل، الأحلام هي الجسر الذي يتيح ترجمة لغة عالم حقيقي إلى لغة عالم حقيقي آخر، لا يقل واقعيّة، ولكنه مختلف.
مُقدّما القاموس إلى شيخ التسوتزيل، قال لافلين بلغة سعى جاهدًا لتوثيقها: «إذا جاء أي أجنبي وقال إنكم هنود حمقى وجاهلون، فرجاءً أرُوه هذا الكتاب، أرُوه الثلاثين ألف كلمة التي تجسد معرفتكم وتفكيركم.»
لا بدّ أن يكون ذلك كافيًا.
1- في التوراة، يُروى أن نسل النبي نوح كانوا يتكلمون لغة واحدة وقد أقدموا على بناء برج في مدينة بابل يصل إلى السماوات. لكن هذا العمل أثار غضب الله، فقرر معاقبتهم فبلبل ألسنتهم، مما حال دون تفاهمهم وتواصلهم فيما بينهم.
ألبرتو مانغويل كاتب ومترجم ومحرر أرجنتيني كندي، يعد من أبرز المفكرين المعاصرين في مجالات الأدب والمعرفة. اشتهر بكتبه حول القراءة والتاريخ الأدبي، ومن أشهر أعماله «تاريخ القراءة» و«المكتبة في الليل»، شغل منصب مدير المكتبة الوطنية في الأرجنتين.
ألقى ألبرتو مانغويل هذه الكلمة يوم 16 فبراير الجاري في النادي الثقافي بمسقط ضمن فعاليات الحفل السنوي لجائزة بيت الغشام دار عرب الدولية للترجمة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: اللغة الإنجلیزیة السکان الأصلیین أن الترجمة ت الترجمة ة إلى لغة أکثر من لا یمکن إلى آخر إلا أن فی بعض من لغة تمام ا التی ت
إقرأ أيضاً:
عمرو أديب: وسط القاهرة في الماضي كانت أجمل
أكد الإعلامي عمرو أديب، أنه “هل فيه مكان في العالم من 100 سنة أحلى من دلوقتي، وسط القاهرة في الماضي كان أجمل وكانت كأنه شايفين حتة من باريس أو نيويورك”.
وقال عمرو أديب، خلال تقديمه برنامج “الحكاية”، أن "مصر تحت ايديها ثروة ولكن لا بد من حسن إدارتها، مؤكدا أنه لا بد أن يتم بالعلم وبوجود لجنة استشارية بها اكبر مهندسين في مصر، وفتح المجال أمام المستثمرين.
وتابع مقدم برنامج “الحكاية”، أن منطقة وسط القاهرة بعد 2011 كانت تعاني من ظاهرة الباعة الجائلين، ولكن بفضل جهود الدولة، نجحت في فرض نوع من الإنضباط، وعودة أهمية تلك المنطقة.