هل تعلم أن النجاة من الألم تكمن في شعورك به، وأن رضاك بالفقد لا يكون إلا بعد أن تجربه، وأن اللذة بالعطاء تكون عند إلحاح الحاجة، و أن الطمأنينة منبعها شدة الخوف.
لا أتحدث هنا عن قاعدة نفسية، أو قانون اخترعه أصحاب العلم، بل هو نتاج تجارب شخصية ونظرة متفحصة للمحيطين من حولي. فالشعور الدائم بعدم المعرفة يكون نتيجة لعدم التجربة.
ليس القصد من الأمر وجوب المرور بتلك المشاعر فهي ليست مشاعر جميلة إطلاقاً، وإن كنّا لسنا مخيّرين في خوضها ،إنما هي تجعلنا أكثر تقبّلاً لمهاترات الحياة معنا، وربما تقوى شوكتنا ونتحول بفضلها إلى حكماء أو فلاسفة فيما مررنا به ،فتصبح شاعريتنا أكثر وضوحاً ،تظهر في عباراتنا المغلّفة بالمشاعر الإنسانية.
لعل عبارة :”أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة”، هي تفسير لما يحدث لنا خلال مسار حياتنا .ولعل صيغة المبالغة في كلمة “أكبر”، تعني كل ما مررنا به من مصاعب في الحياة ،لا عدد السنين والشهور والأيام، فليس كل كبير تعلم الدرس من صفعات الحياة، وليس كل صغير جاهل.
يبقى أمر هام قد لا ندركه إلا بعد حين، وربما لا تقبله النفس من الوهلة الأولى لصعوبته، أنه أمر المعارضة والرفض الشديد لتقبّل الأمر، والإصرار أن هناك أمراً خفياً يحدث أوقعنا في هذه المحنة.
قد يحمل هذا العارض مسمّيات عدة نربت بها على أنفسنا لنتجنب العلاج الصحيح، منها على سبيل المثال: “حسد، حقد، ابتلاء، سوء حظ….”
لا أنفي وجود هذه الأمور ، إنما هي أيضاً جزء من منظومة العلاج الصحيح الذي يشمل الروح والجسد وتطهيرها بمسكنات ومضادات حيوية أخبرنا بها ديننا الإسلامي وعلماء النفس البشرية -العقلاء-.
القول بالقول يذكر ، فلقد سمعت عبارة لمعالجة نفسية ذكرت مصطلح جميل في العلاج النفسي تحت مسمّى علم النفس الإسلامي للباحثة رفاة سحاب وأجمل ما في حديثها قولها : (نحن نؤمن بوجود السحر والعين مع التأكيد بوجود علاج طبي للسحرفليس من الشرط أن نختزل فنقول أنه إما هذا أو هذا . قد يكون الاثنان معاً فما الذي يجعلنا لا نسلك كل السبل فنرتقي بالرقية الشرعية وأيضاً نتعالج؟
ليس لدينا مقدرة على أن نقول: (إن الله أحبني فابتلاني لأقترب أكثر وأصبح أفضل) حتى لو أنك قلت لأحدهم ما أصابك هو ابتلاء أو رفع درجات عند الله يعتبر ما تقوله لا علاقة له بالعلم وإنما هونوع من التفسيرات التي لا ترتبط بالعقل ،مع أنني في رأيي الشخصي ، قمة العقل أن أؤمن بأن الله أوجد الأسباب لأصل لهذا الأمر وأخوض في التصديق بين ما هو واقع ملموس وما يبنى على أمور لا علم لنا بها وهي من الغيبيات.
في النهاية، ارتقي واستعين واستشير ثم انطلق على بركة الله، وأرضى بالسراء والضراء لأنهما وجهان لقضاء واحد هو قضاء الله وقدره.
eman_bajunaid@
المصدر: صحيفة البلاد
إقرأ أيضاً:
طفولة مغتصبة دمرها العدوان .. تبحث عن طوق نجاة
في زقاق ضيق بحي الشجاعية شرق مدينة غزة، يلعب الطفل مجد عرفات، البالغ من العمر ثمانية أعوام، بقطعة معدنية مشوهة، التقطها من بين أنقاض بيت مجاور. ينظر إلى القطعة بدهشة ثم يصرخ بصوت عالٍ: «هذه قنبلة!» ويضحك، بينما تتبدل ملامح والدته، منى عرفات، إلى قلق عميق. تحاول أن تُبعده بلطف عن المشهد، ولكنها تعرف أن ما رأته في عينيه أكبر من مجرد لعب.
«مجد وُلد في عام 2016، لكنه لا يعرف شيئًا عن الحياة خارج الحرب.. كل ذكرياته مرتبطة بصوت الطائرات، وأنقاض البيوت، وأزيز الصواريخ»، تقول منى، وهي تنظر إلى ابنها بعينين ملؤهما الخوف والعجز.
هذا ليس حال مجد وحده، بل حال جيل كامل وُلد في غزة بعد الحرب التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي على القطاع عام 2014، وفتح عينيه على حروب متكررة، آخرها الإبادة الجماعية المستمرة منذ أكتوبر 2023. جيلٌ تكوّن وعيه في الظلام، وحُرم من أبسط حقوق الطفولة: الأمن، والتعليم، واللعب، والحياة.
*جيل مولود في نار الحرب.. ومجبور على النجاة
على مدار الأيام، تابعت جريدة «عُمان» عن كثب يوميات عدد من الأطفال الذين لم يعرفوا غير الحرب، وتقصّينا شهادات من ذويهم، وأطباء نفسيين، وخبراء في السلوك الطفولي، لكشف ملامح هذا الجيل الذي كبر على أصوات الانفجارات بدلًا من أصوات الحكايات.
ليان أبو طه، 9 سنوات، تعيش في مخيم خان يونس بعد أن دُمر منزل عائلتها في رفح. في إحدى زياراتنا اليومية، كانت ليان تجلس في ركن من الخيمة، ترسم وجوهًا بلا عيون. وحين سألناها لماذا، أجابت بخجل: «لأنهم كلهم ماتوا وما عادوا يشوفوا».
تقاطعت هذه الكلمات مع شهادة والدها، خالد أبو طه، الذي قال: «ليان لا تنام ليلًا. تستيقظ كل ساعة تقريبًا وهي تصرخ. تحلم أن الدبابة ستدهس أمها. حتى حين ترسم، كل لوحاتها حزينة، لا ألوان فيها سوى الأسود».
*بين الأنقاض.. كيف يعلب الأطفال؟
عن ذلك، يقول الدكتور فتحي مكي، رئيس قسم الطب النفسي في مستشفى الشفاء بغزة: «الأطفال الذين وُلدوا بعد 2014 هم أكثر الفئات العمرية تضررًا على المستوى النفسي. لقد عاشوا فترات نموهم الأولى في ظل تهديد دائم، دون بيئة آمنة، ودون مدارس منتظمة، ودون رعاية نفسية متخصصة».
ويضيف: «هذه الطفولة المشوهة تخلق أنماطًا سلوكية غير سوية، مثل العدوانية، واضطرابات النوم، وضعف التركيز، والخوف المفرط من المجهول. الطفل الغزي بات يرى العالم كمكان خطر، لا كمكان للعب والاكتشاف».
ويكمل: «تأتينا يوميًا حالات لأطفال مصدومين. جمعوا أشلاء إخوتهم أو جيرانهم من تحت الأنقاض. تخيّل الأثر النفسي حين يحمل الطفل ذراع شقيقه أو يرى وجه صديقه مشوهًا بالكامل. هذه المشاهد لا تُمحى، بل تتحول إلى ذاكرة راسخة تُشكل وعيه وسلوكه للأبد».
*عائلة على جدار الانهيار.. كيف يواجه الأهالي المجهول؟
في أحد مراكز الإيواء في دير البلح، التقينا وفاء سعيد، أمًّا لثلاثة أطفال، أكبرهم عمره 10 سنوات، وأصغرهم عامان. تقول: «ابني الكبير، مالك، كان يحلم بأن يصبح طيارًا، لكنه اليوم يقول لي: ماما، أنا بدي أكبر علشان أقتل اليهود».
تتوقف وفاء للحظة، ثم تضيف بصوت متهدج: «أنا خائفة عليه. خائفة من أن يكبر ويصير مشروع شهيد. لا أحد يعلم كيف نمحو آثار الحرب من داخل نفوسهم وعقولهم». وتتابع: «هم أصلًا لسه عايشين في الحرب. والله أعلم متى تنتهي؟!».
يشير الدكتورة آمال جودة، أستاذ علم النفس في جامعة الأقصى، إلى أن البيئة المحيطة تعزز التوتر لدى الأطفال: «حين يرى الطفل والده يبكي، أو يسمع أمه تصلي وهي ترتجف من أصوات القصف، أو يعيش في خيمة بلا طعام كافٍ، فكل هذا يخزن في عقله كذكريات أولى عن العالم».
*الطفولة المغتصبة.. هل يمكن أن نسترد ما فُقد؟
تحكي سلمى الشرفا، مديرة مؤسسة «بسمة أمل» للدعم النفسي في غزة، أن معظم الأطفال الذين تستقبلهم مراكزها خلال الأشهر الأخيرة يعانون من متلازمة اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). تقول: «يأتينا الأطفال وهم لا يتحدثون إطلاقًا، أو يتكلمون بطريقة مفككة، أو يبللون فراشهم ليلًا، أو يعانون من كوابيس متكررة».
وتضيف: «الأزمة في تكرار الأحداث العنيفة. الطفل لا يستطيع التمييز بين وقت الحرب ووقت السلم، لأن لا فترة سلم حقيقية يعيشها».
إياد حمودة، 11 عامًا، من حي التفاح، فقد والدته في قصف على منزلهم، وبات منذ ذلك الحين يعيش مع جدته. تقول الجدة: «كان إياد اجتماعيًا ومرحًا، والآن لا يريد أن يختلط بأي أحد. يرفض الذهاب إلى المدرسة المؤقتة، يقول: إيش بتفيد المدرسة يا جدة في اللي إحنا فيه».
ويعلق الدكتور باسم أبو هداف، رئيس قسم الإرشاد النفسي بوزارة التربية والتعليم في غزة، على ذلك قائلًا: «نحن لا نتعامل مع أطفال فقدوا منازل فقط، بل فقدوا الثقة بالحياة. التحدي الآن ليس في التعليم، بل في إعادة تأهيلهم نفسيًا ليستطيعوا تقبل فكرة الغد».
*التعليم المقطوع.. كيف تتحول المدرسة من حلم إلى وهم؟
منذ بداية العدوان الأخير على قطاع غزة، أصبحت المدارس في مختلف أنحاء القطاع هدفًا مباشرًا للهجمات الجوية. فقد تعرّضت العديد من المدارس للتدمير الكلي أو الجزئي، ما جعل التعليم يشهد انقطاعًا غير مسبوق. حسب بيانات وزارة التربية والتعليم الفلسطينية.
وحُرم أكثر من 350 ألف طفل من الذهاب إلى مدارسهم، وأصبح التعليم حلمًا بعيد المنال بالنسبة لهم. حتى الأطفال الذين ما زالوا قادرين على التعلم في بيئات مؤقتة مثل خيام الإيواء أو تحت الأشجار، يجدون أنفسهم في صراع دائم مع ظروف غير آدمية. وتعتبر هذه الظروف بمثابة انتهاك أساسي لحقهم في التعليم، الذي هو أساس لبناء مستقبلهم.
في خيام الإيواء أو تحت أشجار الزيتون، يحاول الأطفال أن يتعلموا ما استطاعوا، لكن لا شيء يشبه المدرسة. غابت الجدران والسبورة والأمان، ولم يتبق سوى محاولات متقطعة تبقيهم على قيد الأمل.
هبة النجار، 12 عامًا، كانت من المتفوقات في مدرستها شمال غزة، لكنها اليوم تُدرّس إخوتها الأبجدية في خيمة مضيقة: «أنا بحب المدرسة كتير، بس مش قادرة أروح. اشتقت لصديقاتي وللمعلمة».
تشير بيانات وزارة التربية والتعليم إلى أن أكثر من 350 ألف طفل حُرموا من التعليم منذ بداية الحرب الأخيرة، فيما تم تدمير مئات المدارس كليًا أو جزئيًا.
يقول زايد قشطة، خبير التربية والتعليم: «المدرسة ليست فقط مكانًا للتعليم، بل هي بيئة نفسية واجتماعية. انقطاع التعليم يعمّق العزلة، ويقضي على طموحات الأطفال».ومع غياب التعليم، تُمحى الأحلام. كرم الزنط، 13 عامًا، يقول: «كنت بدي أصير مهندس. بس هلأ بسأل حالي: ليش أدرس إذا يمكن أموت بكرة؟».
*جيل «منكوب نفسيًا».. بلغة الأرقام
وفقًا لبيانات وزارة التنمية الاجتماعية في غزة، فإن أكثر من 650 ألف طفل في القطاع بحاجة إلى دعم نفسي عاجل منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023.
من جهتها، أفادت منظمة اليونيسف أن 80% من الأطفال في غزة يظهرون علامات اضطرابات نفسية حادة، وأنهم محرومون من الخدمات الأساسية، بما في ذلك التعليم، والدعم النفسي، واللعب.
كما تشير إحصاءات مركز الدراسات المجتمعية في جامعة الأقصى إلى أن 60% من الأطفال الذين وُلدوا بعد عام 2014 يعانون من أعراض اضطراب القلق العام، بما يشمل القلق المفرط من الانفصال، والخوف من الأماكن المغلقة أو المظلمة، واضطرابات في النوم.
وتشير الأرقام ذاتها إلى أن أكثر من 45% منهم يعانون من كوابيس متكررة تتضمن مشاهد عنف، أو مطاردة من قبل دبابات وطائرات، أو فقدان أحد الوالدين، وهي كوابيس تعيد إحياء تجاربهم القاسية وتجعل النوم مهمة مرهقة بدلًا من أن يكون وسيلة للراحة.
وعن ذلك يوضح الدكتور خالد الجديلي، الخبير في الصحة النفسية المجتمعية في جمعية عايشة لحماية المرأة والطفل، إن المؤشرات المتوفرة حاليًا تنذر بجيل يحمل إرثًا ثقيلًا من الألم والاضطراب: «إذا لم يتم العمل سريعًا على دعم هؤلاء الأطفال، فنحن أمام كارثة تمتد لعقود، ليس على غزة فقط، بل على استقرار المنطقة ككل».
*عندما يصبح الحلم عبئًا.. كيف يرى أطفال الحرب المستقبل؟
وبينما كنا نتجول في مدرسة إيواء بمدينة خان يونس، وجدنا الطفل أدهم الطويل، 10 سنوات، يجلس شاردًا على تخت في فناء المدرسة، فسألناه: ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟ فأجاب بعد صمت طويل: «ما بعرف إذا رح أكبر أصلاً. يمكن أموت مثل أخوي».
كان شقيق أدهم قد قُتل في قصف منزلهم في حي الزيتون بمدينة غزة. ومنذ ذلك الحين، لم يعد أدهم يحلم بشيء. لا يرى أي معنى للحياة. تقول والدته: «لم أعد أعرف كيف أعيده كما كان. صار شاردًا، لا يهتم بلعبه، لا يضحك، لا يتفاعل».
يُعلّق الدكتور هيثم الدحدوح، أخصائي الطب النفسي للأطفال في مستشفى العودة، على هذه الحالة قائلًا: «الطفل الذي يفقد شخصًا قريبًا في عمر مبكر دون تأطير نفسي، يختزن الحزن والذنب داخله، ويعيش في حالة نفي مستمرة للمستقبل».
*من بين الركام.. محاولات ضئيلة للبقاء
بالرغم من قتامة الصورة، لا تزال هناك محاولات فردية ومؤسساتية لتقديم الدعم النفسي للأطفال، وإن كانت محدودة. تقول ريهام زقوت، مرشدة نفسية تعمل مع الهلال الأحمر الفلسطيني: «نحاول إقامة أنشطة فنية بسيطة، أو ألعاب ترفيهية، لكن المشكلة أن القصف لا يتوقف، والأمان غائب، وهذا يجعل الطفل غير قابل للانخراط بسهولة».
وتضيف: «أحيانًا يكون الرسم هو المتنفس الوحيد للأطفال، فنطلب منهم أن يرسموا ما يشعرون به، وتكون النتائج مفزعة: دمار، دماء، وجثث».
وتوضح أن الطفولة في غزة تُختصر الآن في لحظات مؤقتة من السكينة، بين جولة قصف وأخرى، وكل ما نحاوله هو تثبيت بعض الضوء في عقولهم، كي لا تبتلعهم العتمة.
*حين يُختطف المستقبل من المهد.. أطفال بلا ذاكرة حلوة
أطفال الحرب في غزة ليسوا مجرد ضحايا لمعارك عابرة، بل جيل بأكمله نشأ على الأنقاض، وتفتّح وعيه على أصوات الانفجارات، لا على ضحكات الطفولة. إنهم مشاريع ندوب نفسية، تتنامى بصمت تحت الركام، ملامحهم غامضة، وذكرياتهم مشوّهة، وأحلامهم مؤجلة إلى أجل غير معلوم.
إن الحرب لا تقتل فقط مَن يُقصف، بل تقتل أيضًا مَن يبقى حيًا، لكنها تتركه نصف إنسان، بنصف ذاكرة، ونصف مستقبل.
هؤلاء الأطفال، إن تُركوا دون علاج، لن يخرجوا من رماد الحرب، بل سيسيرون به، وقد يغدو صمتهم القادم أخطر من أي انفجار.