«العالم بعد غزة».. كتاب جديد عن آثار مأساة أوجعت قلب الإنسانية
تاريخ النشر: 25th, February 2025 GMT
كل من إسرائيل و«غزة» بعد السابع من أكتوبر الماضى غيَّر العالم بطريقته.
«غزة» أيقظت ضمير الإنسانية بعد أن أوجعته، صنعت مشاهد القتل والدمار فيها جيلاً جديداً حول العالم، أنضجه الألم قبل الأوان، وقرر أن يتحمل مسئوليته الأخلاقية فى الدفاع عمن لا يملك صوتاً يصل إلى العالم غير صوت الصراخ. هؤلاء الشباب الذين اندفعوا فى مظاهرات حاشدة فى العواصم الكبرى يحاسبون كبارهم من أصحاب الوجوه الجامدة، والقلوب القاسية، والألسنة الملتوية بالكذب والتدليس والتجاهل للفظائع التى ترتكبها إسرائيل.
صارت «غزة» هى لحظة الميلاد التاريخية والحقيقية لضمير هذا الجيل الجديد الذى ولد معظمه بعد بداية القرن الحادى والعشرين. جيل الشباب ومن هم على أعتاب الشباب ممن يحملون فى قلوبهم القوة الحقيقية التى سترسم مصير الإنسانية فى المستقبل. هؤلاء الذين استقبلوا أحداث «غزة» بقلوب ما زالت تتفتح بعد، وضمائر لم يغطها الصدأ بعد، وعزائم لم يصبها الوهن بعد.
أما إسرائيل، فغيّرت العالم بعد السابع من أكتوبر بأن أطلقت أسوأ ما فيه.
تلك الوحشية والبربرية التى تعاملت بها إسرائيل مع هذا القطاع الساحلى الضيق، الذى تلقى ضربات فاقت قوتها وشراستها كل ضربات قوات الحلفاء ضد ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، فتحت المجال أمام كل من يحملون نفس النزعات المتطرفة التى يحملها قادة إسرائيل، هؤلاء الذين يريدون أن يمنحوا لأنفسهم الحق فى محو الآخر دون رادع ولا محاسبة. منهم قادة وتيارات اليمين المتطرف فى أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية، الذين أظهروا بلا تردد تأييدهم المطلق للمجازر الإسرائيلية فى «غزة»، ثم ساروا بعدها خطوة أوسع، ليعلن بعضهم بجرأة أكبر، وصراحة أكثر، أنهم يملكون كل الحق فى اللجوء للعنف، وبلا رحمة، كما فعلت إسرائيل، من أجل الحفاظ على جنسهم أو عرقهم أو بلادهم ضد من يعتبرونهم «تهديداً» أو «معتدين محتملين».
حرب «غزة» جاءت إذاً فى وقت تنقسم فيها الإنسانية على نفسها بين طرفى نقيض؛ فى الطرف الأول يقف جيل الشباب، وأصحاب الضمائر والعقول والقلوب التى تئن لآلام غيرها من البشر أياً كان موقعهم حول العالم، ومهما كانت جنسيتهم أو لونهم أو عرقهم، وعلى الطرف الآخر، يقف هؤلاء الذين يعتبرون أن إسرائيل تمثلهم، وتطلق بالنيابة عنهم كل نزعات الشرور فيهم، يساندون أفعالها الوحشية، ويحلمون باليوم الذى تطلق فيه أيديهم بدورهم لضرب غيرهم من البشر، ممن يختلفون عنهم فى جنسيتهم أو لونهم أو عرقهم!.
تلك هى الفكرة الرئيسية التى يدور حولها كتاب جديد، صدر هذا الشهر فى الأسواق الأمريكية والأوروبية، حاملاً عنوان «العالم بعد غزة». صدر الكتاب عن دار نشر «بنجوين راندوم هاوس» البريطانية - الأمريكية، للمؤلف ذى الأصول الهندية «بانكاج ميشرا». حمل الكتاب بين صفحاته محاكمة لضمير الغرب الذى صمت أمام مجازر إسرائيل فى «غزة»، ومحاولة لرسم المستقبل الذى ستصبح دول العالم عليه، بعد أن أظهرت «غزة» هذه الحالة من الفصام الأخلاقى التى تمر بها دول العالم الكبرى، ما بين قيادات سياسية واقتصادية تدعم بلا هوادة آلة الحرب الإسرائيلية التى تطلق مذابحها بلا رحمة، والشعوب التى صارت تنظر إلى مأساة «غزة» بعد السابع من أكتوبر على أنها الحدث الذى سيرسم ملامح القرن الحادى والعشرين، تماماً كما كانت المحرقة التى ارتكبها النازيون فى حق اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، هى الحدث الذى أوجع ضمائر الملايين فى الغرب، وأجبر الإنسانية على أن تحاكم نفسها.
إسرائيل مصابة بهوس البقاء.. وتأييد اليمين المتطرف لها فى الولايات المتحدة وأوروبا وأمريكا اللاتينية يعنى أن مزيداً من الفظائع فى الطريق إليناكلا الحدثين أظهر أسوأ ما فى الإنسانية، وكل منهما أدخلها بعده فى حالة من الشعور بالذنب التاريخى وبعدم قدرة البشر على القيام بمسئوليتهم الطبيعية فى حماية أبناء جنسهم من الفناء.
من أجل ذلك، رأى «ميشرا» فى كتابه أن العالم بعد «غزة» لم يعد أبداً هو نفس العالم الذى كان عليه من قبل.
يقول الكتاب: فى كل مكان حول العالم، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وجدنا أنفسنا نواجه معارك جديدة من أجل الحرية والكرامة والمساواة لجميع البشر، من أجل تشكيل عالم أقل شقاءً وبؤساً. إلا أن «غزة» هى التى أجبرت الكثيرين على أن يجدوا أنفسهم فى مواجهة الشرور العميقة الكامنة فى مجتمعاتهم. كانت «غزة» هى التى فتحت أعينهم على نحو متسارع لكى يدركوا أنهم أصبحوا يعيشون فى عالم متهالك لم يعد يؤمن حتى بنفسه، ولا تحركه سوى غريزة البقاء والحفاظ على الذات. هذا العالم الذى يدهس، بلا رادع، كل الحقوق والمبادئ التى كان يعتبرها يوماً ما مقدسة، مدمراً فى طريقه كل إحساس بالكرامة والشرف، ومعلياً فى الوقت نفسه من شأن العنف والأكاذيب والوحشية والخنوع أمام الأقوى.
«غزة»، من وجهة نظر الكتاب، أحدثت صدمة أخلاقية عميقة بالنسبة لسكان العالم، وشكل ما جرى فيها من فظائع، وصمت أو تجاهل لهذه الفظائع، ضربة موجعة لقلب الإنسانية التى كانت تحلم بعالم أفضل. إلا أنها فى الوقت نفسه، ربما تكون نقطة انطلاق نحو إنسانية جديدة، ترفض تكرار أخطاء الماضى، وترفض أن تتكرر مأساة «غزة» فى أى مكان فى العالم، تماماً كما رفع العالم من قبل شعار «لن يحدث هذا مجدداً أبداً»، فى إشارة لرفضه تكرار حدث المحرقة النازية ضد اليهود.
وستكون نقطة الانطلاق هذه من الشباب.
يقول الكتاب: فى الوقت الذى تسبب فيه أحداث «غزة» لدينا إحساساً بالدوار وبالفوضى والفراغ، صارت «غزة» بالنسبة لكثيرين، لا يحصى عددهم حول العالم، هى النقطة والقاعدة الأساسية التى سيقوم عليها الضمير السياسى والأخلاقى فى القرن الحادى والعشرين، تماماً كما كانت الحرب العالمية الأولى هى النقطة التى صنعت هذا الوعى لدى جيل كامل فى الغرب. إن الجرائم التى جرت فى «غزة»، والتواطؤ والتجاهل المتعمد (الذى أظهره الغرب) لما يحدث فيها، كان لها أبلغ الأثر على أجيال من الشباب فى أواخر المراهقة وبدايات العشرينات. هؤلاء الذين يقفون على حافة الانتقال من الطفولة إلى النضج، والذين تلقوا درساً قاسياً وسريعاً فى الوحشية والبربرية والهمجية، وعرفوا كيف أن الكبار والناضجين الذين يتولون مواقع المسئولية فى بلادهم يسوقون كل أنواع الأعذار لتبريرها.
ويتابع: كانت هذه التجربة غريبة تماماً على وعى هؤلاء الشباب. ففى الوقت الذى كان فيه رجال السياسة والحكومات ورجال الأعمال والصحفيون يكذبون ويخلطون الأوراق، أو يدّعون عدم العلم بما يجرى، وجد طلبة الجامعات الصغار أنفسهم مضطرين للتعامل لحظة بلحظة مع هذه الحالة المثيرة للجنون التى يقضى مؤرخو الإبادة الجماعية أعمارهم فى تحليلها. هى حالة «المجتمع المتفرج»، أو الحالة التى يظل الواحد فيهم «يتفرج» على ما يجرى أمامه بشكل سلبى، ليس فيه إيجابية أو قدرة على التدخل لمساندة ودعم الضحايا، بل على العكس، قد يشعر الواحد منهم أنه يشجع العنف الدائر أمام عينيه بسبب عجزه عن الوقوف فى وجهه وإدانته.
ويواصل الكتاب: اندفع الشباب فى مظاهرات احتجاجية ضد ما يجرى فى «غزة»، لكنهم وجدوا أنفسهم، خاصة فى الولايات المتحدة، فى صدام مباشر مع الكبار من ذوى النفوذ. ظهر ذلك فى إدارات الجامعات التى أطلقت قوات الشرطة ضدهم، والمليارديرات من أصحاب الأعمال الذين قضوا على فرص العمل أمامهم، ومرشح رئاسى وقتها توعد بترحيل المهاجرين من بينهم. ليس من الضرورى أن يؤيد المرء كل الأساليب التى لجأ إليها هؤلاء الشباب، ولا أن يوافق على تصرفات لا يمكن التسامح معها بدرت منهم أحياناً، لكن يكفينا أن نعترف بمدى عمق رفضهم للسلطة التقليدية، وإصرارهم على ألا يكونوا مشاركين فى العنف والظلم الذى يجرى من حولهم على نحو نادر الحدوث.
تلك الحالة التى رسمت ملامح جيل جديد فى العالم كله يختلف تماماً عن وجوه الشيوخ ذات التجاعيد القاسية والقسمات الجامدة التى لم تهتز خلية واحدة منها أمام أنهار الدماء فى «غزة»، يصفها الكتاب قائلاً: لقد ظهر واضحاً من شعور هؤلاء الشباب بعدم الاكتراث بفرص العمل والتقدم الوظيفى (وهى إحدى القيم الأساسية التى تحكم المجتمع الأمريكى والغربى عموماً)، وبوقوفهم فى وجه «المؤسسة» (السياسية أو التعليمية أو الاقتصادية)؛ إما لكى تصحح مسارها أو تقوم بسحقهم، أنهم يتمتعون بنوع من الشجاعة لم نشهد مثله من قبل. لقد رفض هؤلاء الشباب التواطؤ مع المؤسسات الفاسدة، مظهرين إيمانهم الذى نحتاج جميعاً إليه فى القدرة الإنسانية على مقاومة «بلطجة» السلطة، وعلى التعاطف مع الضعفاء والعاجزين فى أى موقف. لقد كانت لديهم الجرأة لكى يتحملوا بعض المخاطر فى سبيل الحرية والديمقراطية والمساواة، الأمر الذى شكل تحدياً أخلاقياً رهيباً بالنسبة لتلك العقلية والنفسية التى تسود الحياة السياسية والمهنية حالياً، ولا يعنيها سوى الاستمرار والبقاء بأى ثمن، والاكتفاء بـ«الفرجة» على ما يجرى.
ويواصل الكتاب: على ما يبدو، فإن هؤلاء الذين عرفوا النضج الأخلاقى المبكر بسبب فاجعة «غزة»، هم وحدهم من يمكن أن يتحملوا أمانة إعادة القوة والكرامة للضمير الإنسانى. من الواضح أنهم يملكون رؤية أكثر وضوحاً من «كبارهم» الذين يحتلون مواقع المسئولية حول العالم، حيث الكلمة العليا للجبن والغباء العنيد. لقد نسى معظمنا مدى هشاشة وجودنا الإنسانى أمام انبهارنا بالسلطة والمال، وطموحنا من أجل التقدم الوظيفى والترقى الاجتماعى، لكن هؤلاء المحتجين يعرفون أنه إذا كان هناك أى درس يمكن أن نستخلصه من المحرقة النازية ضد اليهود بحق، فسيكون شعار «لن يحدث ذلك مجدداً لأى أحد»، وليس لليهود فقط، وهو الشعار الذى صاغه النشطاء الشباب الشجعان الذين شكلوا حركة «الصوت اليهودى من أجل السلام».
من المؤسف أن الشباب قد يخسرون المعركة.. وكفة الميزان لا تميل دائماً لصالح العدالة.. والتاريخ يكتبه الأقوىلكن المستقبل لا يظهر بألوانه الوردية أمام هؤلاء الشباب، وانتفاضتهم ضد ما جرى من فظائع فى «غزة» لا يبدو أنها ستغير الكثير مما يحدث من حولها.
هذا هو ما يشير إليه الكتاب قائلاً: من المحتمل، وربما من الأرجح، أنهم سيخسرون. إن إسرائيل التى ينتابها هوس البقاء صارت تنذر بمستقبل عالم منهك وخرب. وما نراه من حولنا من التأييد المطلق لإسرائيل، الذى يعلنه مخابيل اليمين المتطرف مثل بعض رؤساء أمريكا اللاتينية، والدعم الذى تقدمه لها الدول الغربية التى تسبب أصحاب النزعات القومية المتطرفة داخلها فى تلويث الحياة السياسية فيها، كلها تنبئ بجحيم من الفظائع ما زال فى طريقه إلينا. صارت هناك أعداد متزايدة من البشر الذين يرون أن بلادهم أو عرقهم أو طبقتهم الاجتماعية لن يكتب لها البقاء إلا باستخدام وسائل وأساليب لا ترحم. وفى الوقت الذى تتزايد فيه الأسلاك الشائكة والجدران العازلة بين حدود الدول، صارت الوحشية التى تحدث تحت مسمى «الحفاظ على النفس» تحظى بتأييد واسع، خاصة مع النجاح الذى حققه الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» فى الانتخابات، الأمر الذى قد يشير إلى أن إسرائيل سوف تنجح على الأرجح فى التطهير العرقى لـ«غزة»، وربما للضفة الغربية كذلك.
ليس من الصعب تصور أن تؤدى مذابح إسرائيل لانتصار يعقبه نوع من غسيل السمعة بأيدى المؤرخين والسياسيين المؤيدين لهاويواصل الكتاب رسم تلك الصورة القاتمة التى قد يسببها نجاح إسرائيل فى مخططاتها قائلاً: هناك بالفعل دلائل أكثر من اللازم على أن كفة الميزان لا تميل دائماً نحو العدالة. دائماً ما قام الرجال الذين يملكون النفوذ والقوة بإظهار المذابح التى يرتكبونها كما لو كانت ضرورية ومشروعة، بالتالى، ليس من الصعب إطلاقاً أن نتصور أن تؤدى المذبحة الإسرائيلية لانتصار، يعقبه نوع من غسيل السمعة أو إضفاء القداسة عليه بواسطة المؤرخين والصحفيين ورجال السياسة، هؤلاء الذين يخضعون دائماً فى كل مكان لمن يملك القوة. هذا ما كان يحدث، وسيظل يحدث عبر التاريخ.
لكن هذه النهاية القاتمة، حتى وإن حدثت، فإنها لن تقدر على قتل وعى وضمير أجيال كاملة استيقظت بسبب مشاهد العنف والدمار الجنونى فى «غزة»، ولن يقدر أحد، مهما بلغت قوته، على إخماد نيرانها فى قلوبهم وعقولهم.
يقول الكتاب: ربما كان الخوف من التعرض لهزيمة كارثية يخيم بظلاله على عقول الشباب الذين خرجوا فى مظاهرات احتجاجية ضد ما يحدث فى «غزة»، لكنهم لم يغيروا، ولن يغيروا، من موقفهم ورأيهم أمام هذا المد القاسى الذى يهيمن على الغرب. ربما كان هؤلاء الذين يقاومون أعمال إسرائيل الوحشية، ويقفون ضد الدعاية الغربية التى تساندها إما بالحجب وإما بالتدليس، يخاطرون بأن تظل حياتهم كلها محكومة بالفشل، لكن ربما كان تعبيرهم عن الرفض والغضب، وإظهارهم لتضامنهم مع أهالى «غزة»، أمراً يخفف ولو قليلاً من ذلك الشعور الرهيب بالوحدة الذى يعانى منه الفلسطينيون. وربما لذلك سيظل هؤلاء هم من يحملون مشعل الأمل للعالم من بعد «غزة».
ويتابع: لم تعد إسرائيل قادرة على أن تقدم نفسها للعالم على أنها ضحية تحت رحمة تصرفات الآخرين. لقد كشفت إسرائيل اليوم عن وجهها كعنصر مضطرب على نحو بالغ الخطورة، لا يتحمل الفلسطينيون وحدهم تداعيات فشله الكارثية. بالتالى صارت الدولة اليهودية الأولى تنذر بالشؤم للكل وليس فقط لليهود حول العالم. إنها تجبر الآخرين على أن يحددوا أنفسهم وهويتهم إما بالوقوف معها أو ضدها، كما لو كانت تحمل، بمجرد وجودها، مرآة أمام الشعوب والمجتمعات الأخرى، تجبرها على النظر لأنفسها ولضمائرها الأخلاقية ومحاكمتها.
ويتابع: يوماً ما، سوف تتراجع الحرب على «غزة» لتصبح مجرد حدث من أحداث الماضى، وربما يطوى الزمان تلك الصفحات المتراكمة من الفظائع التى جرت فيها. لكن المأساة ستترك آثارها الغائرة باقية فى قلب «غزة» لعقود قادمة؛ فى الأجساد الجريحة، والأطفال الذين أصبحوا أيتاماً، فى الأحياء التى تهدمت، والأشخاص الذين أصبحوا بلا مأوى، وفى الإحساس الجارف والطاغى بتلك الفجيعة الجماعية التى شاهدها الكل من بعيد وهم يقفون عاجزين أمام قتل وتشويه عشرات الآلاف من الناس فى هذا القطاع الساحلى الضيق، على وقع تصفيق أو تجاهل من يملكون القوة. كل هؤلاء سوف يعيشون حاملين فى قلوبهم جرحاً غائراً، وصدمة قد لا يداويها مرور السنين.
يدرك الكتاب جيداً حالة الانقسام التى يحيا فيها الغرب؛ بين من يمنحون حقاً مطلقاً لإسرائيل فى ارتكاب كل ما تريد من فظائع «لحماية أمنها»، ومن يتعرضون فوراً للاتهام بمعاداة السامية لو حاولوا الدفاع عن حق أبرياء «غزة» فى الحياة. هذا الانقسام الذى أدى إلى حرب «توصيف» لما يجرى فى «غزة» على نحو يستهدف إرباك الضمير الإنسانى أمام فظائع لا يمكن إنكارها. يقول الكتاب: إن الخلاف الدائر حول كيفية وصف العنف الإسرائيلى فى «غزة»، ما إذا كان دفاعاً مشروعاً عن النفس، أو حرباً عادلة فى ظروف مدنية صعبة، أو تطهيراً عرقياً وجرائم ضد الإنسانية، هو خلاف لن تتم تسويته أبداً. لكن ليس من الصعب أن نرى أن انتهاكات إسرائيل القانونية والأخلاقية تمثل البشاعة فى أقصى صورها: هذا التصميم الصريح والمتكرر من قيادات إسرائيل على محو «غزة»، حتى بالرغم من الاتهام الضمنى الذى وجهه الرأى العام لهم ولجيش الدفاع الإسرائيلى بتوقيع عقوبة على «غزة» لا تتناسب مع الجرم الذى تم ارتكابه (بواسطة حركة «حماس»). يضاف إلى ذلك استهدافهم لضحاياهم فى القطاع بكل أشكال الشر، وواقع أن أغلب الضحايا كانوا أبرياء ومعظمهم من النساء والأطفال.
ويواصل: إن حجم التدمير الذى جرى فى قطاع «غزة» هو أكبر بكثير من حجم الدمار الذى أحدثته قوات الحلفاء مجتمعة بقصف ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية، وكان إيقاع القتل المتسارع والرهيب يملأ المقابر الجماعية فى «غزة» بالجثث التى تهاوت باستخدام أدوات تستهدف ضحاياها بشكل عشوائى غير شخصى باستخدام خوارزميات الذكاء الصناعى، وبأساليب استهداف شخصية مثل القناصين الذين كانوا يصيبون الأطفال بطلقة رصاص فى رؤوسهم وأحياناً بطلقتين. امتزج ذلك كله بمشاهد حرمان الأهالى من الغذاء والدواء، وهتك عرض السجناء بقضبان معدنية حامية، وتدمير المدارس والجامعات والمساجد والكنائس وحتى المقابر. وظهر الشر الخالص مجسداً فى جنود قوات جيش الدفاع الإسرائيلى وهم يتراقصون مرتدين الملابس الداخلية لنساء فلسطينيات موتى أو هاربات، وفى شعبية وانتشار هذه المقاطع على منصة «تيك توك» داخل إسرائيل، والتى قابلها القتل والاستهداف الدقيق للصحفيين الموجودين فى «غزة» الذين كانوا يقومون بتوثيق الإبادة التى يتعرض لها شعبهم.
هذه المشاهد جعلت «ميشرا» يرى أن «المحرقة» لم تعد مجرد ذكرى طوتها الإنسانية مع سقوط النازية فى ألمانيا، لكنها حالة امتد ظلها على شعوب أخرى، ولم تعد قاصرة على اليهود وحدهم.
يقول: لقد جعلت «غزة» ظل المحرقة (أو الهولوكوست) يمتد ليشمل العديد من الشعوب الأخرى وليس الشعب اليهودى وحده. أصبح قدر المليارات حول العالم أن تظل مشاهد العنف الوحشى لما جرى فى «غزة» عالقة فى أذهانهم لوقت طويل. هؤلاء الذين رأوا بأعينهم طالب هندسة فلسطينياً لا يزيد عمره على ١٩ عاماً يحترق حياً والمحاليل ما زالت معلقة بأوردته، فى واحد من المستشفيات العديدة التى تعرضت للقصف الإسرائيلى. وبعد عدة شهور متواصلة من شهود هذا القتل الجماعى الوحشى بأيدى أشخاص يحاولون تقديمه للآخرين على أنه ضرورة جماعية ومشروعة، بل وحتى إنسانية، أصبح ملايين الناس من بلاد مختلفة يشعرون أن العالم قد أصبح مكاناً غريباً عليهم. هذا هو تأثير صدمة مشاهدة ذلك الشر الخالص الذى كان ارتكابه من قبل مقصوراً على الأفراد المختلين نفسياً، وأصبح يجرى اليوم على يد قادة وأفراد مجتمعات من المفترض أنها متحضرة. هذا أمر لا يمكن الاستهانة به، ولا التخفيف من حدة الهاوية الأخلاقية التى نجد أنفسنا فى مواجهتها. إن ما نشعر به اليوم هو القشة الأخيرة التى ستقصم ظهر التاريخ الأخلاقى للعالم الحديث الذى كنا نرى أنه وصل إلى حد الانهيار الكامل عام ١٩٤٥، العام الذى شهد المحرقة النازية لليهود، والتى صارت مرجعية عالمية للانهيار الكارثى للضمير الأخلاقى للإنسانية.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: القضية الفلسطينية غزة تصفية القضية الفلسطينية وزارة الخارجية الحرب العالمیة هؤلاء الشباب هؤلاء الذین یقول الکتاب العالم بعد حول العالم فى الوقت ما یجرى على نحو جرى فى على أن من أجل ما کان من قبل لیس من
إقرأ أيضاً:
نتنياهو يتلاعب بالأرقام ويزعم الإنجاز بعدد الأسرى الذين استعادهم.. هذه الحقيقة
زعم رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، السبت، استعادة 147 أسيرا حيا من قطاع غزة منذ 7 تشرين أول/أكتوبر 2023، إلا أن الحقائق المعلنة تشير إلى تلاعب واضح في هذه الأرقام.
ففي بيان صادر عن مكتبه، قال نتنياهو زاعما: "استعدنا حتى الآن 192 أسيرا من غزة منذ 7 أكتوبر، منهم 147 على قيد الحياة، و45 أمواتا".
وتابع حديثه: "لا يزال 63 أسيرا إسرائيليا في يد حماس".
تزامن إعلان نتنياهو مع تسليم حركة حماس الدفعة السابعة من الأسرى ضمن صفقة التبادل الحالية، وشملت 4 جثامين الخميس، و6 أسرى أحياء اليوم.
لكن الحقائق المعلنة تكشف عن تلاعب واضح في بيانه اليوم بالأرقام، إذ لم يتمكن الاحتلال عبر العمل العسكري خلال حرب الإبادة على غزة التي دامت قرابة 16 شهرا، سوى من استعادة 5 أسرى أحياء، مرتين.
المرة الأولى كانت في 8 حزيران/يونيو 2024، عندما أعلن الجيش استعادة 4 أسرى من منطقتين منفردتين في قلب مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، بهجوم جوي وبري وبحري، ما أسفر عن استشهاد 274 فلسطينيا بينهم 64 طفلا و57 سيدة وإصابة المئات بجروح مختلفة.
فيما قالت كتائب القسام، الذراع العسكري لـ"حماس"، آنذاك، إن الجيش قتل 3 من الأسرى، أحدهم يحمل الجنسية الأمريكية، خلال استعادة الأسرى الأربعة.
أما المرة الثانية فكانت في 27 آب/أغسطس 2024، عندما أعلن الجيش استعادة أحد الأسرى حيا، ويدعى فرحان القاضي.
وحتى الأسير القاضي، قالت صحيفة "هارتس" العبرية الخاصة آنذاك إنه تمكن من الفرار من آسريه داخل نفق في غزة قبل أن تنقذه قوات الجيش، فيما قالت تقارير إن آسريه تركوه يذهب كونه من فلسطيني 48.
في مقابل ذلك، أعلن الاحتلال، استعادة العديد من جثامين الأسرى من غزة عبر العمل العسكري.
وكانت أشهر عمليات الاستعادة في 31 آب/أغسطس 2024، عند قال الجيش إنه عثر على جثث 6 أسرى آخرين داخل نفق في منطقة حي السلطان برفح.
وأقر تحقيق للجيش الإسرائيلي بأن هؤلاء الأسرى لقوا حتفهم في الـ29 من الشهر ذاته خلال اجتياحه المنطقة، وأن هذا الاجتياح كان له "تأثير ظرفي" أدى إلى مقتل هؤلاء الأسرى.
وهو التحقيق، الذي اعتبرته هيئة أهالي الأسرى الإسرائيليين "دليلا جديدا" على أن الضغط العسكري يتسبب في وفاة ذويهم، ودفعتهم إلى تصعيد ضغوطهم على حكومة نتنياهو لوقف تلاعبها بمفاوضات التوصل إلى اتفاق غزة بغرض المساهمة في إطلاق سراح بقية الأسرى أحياء.
فيما أكدت حركة حماس في أكثر من بيان، حرصها على الحفاظ على حياة الأسرى، لافتة إلى أن العشرات منهم قتلوا جراء القصف الجوي.
وحذرت من أن حكومة نتنياهو تتعمد التخلص من الأسرى حتى لا يشكلوا عليها ضغطا كورقة تفاوض.
وبخلاف العمل العسكري، استعاد الاحتلال عبر صفقات التبادل حتى الآن 104 أسرى إسرائيليين أحياء و4 جثامين عبر المفاوضات، عشرات منهم أجانب غير مزدوجي الجنسية.
فقد سلمت الفصائل الاحتلال 81 أسيرا ومن مزدوجي الجنسية أحياء، إضافة إلى 23 من العمال الأجانب، خلال هدنة إنسانية مؤقتة استمرت 7 أيام، وانتهت مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2023.
مقابل ذلك أفرج الاحتلال عن 240 أسيرا فلسطينيا، بينهم 107 أطفال، حيث لم تتم إدانة ثلاثة أرباعهم بارتكاب أي جريمة.
وخلال صفقة التبادل الحالية التي سلمت الفصائل الفلسطينية على دفعات 25 أسيرا ومن مزدوجي الجنسية أحياء و4 جثث، إضافة إلى 5 عمال أجانب خارج الصفقة.
ومقابل هؤلاء أفرجت إسرائيل عن 1135 أسيرا فلسطينيا، بينما تعطل حتى الساعة الإفراج عن 620 أسيرا كان مقررا الإفراج عنهم اليوم.
يكشف ذلك أن كل ما تمكنت تل أبيب من إطلاق سراحهم عبر العمل العسكري هم 5 أسرى إسرائيليين أحياء على أكثر تقدير، وعبر التفاوض 104.
فيما أطلقت الفصائل الفلسطينية سراح 28 من الأجانب خارج الصفقة.
وعبر التفاوض، استعادت إسرائيل جثامين 4 عبر التفاوض، وعددا آخر عبر العمل العسكري، في ظل تأكيد من حماس أن الجيش هو من قتلتهم عبر قصفه المكثف على غزة خلال حرب الإبادة.
يأتي ذلك بينما يواصل نتنياهو المماطلة في بدء مفاوضات المرحلة الثانية من الاتفاق، التي كان من المفترض أن تنطلق في 3 شباط/ فبراير الجاري.