خرج عشرات المحتجين من المنتمين لنقابات عمالية ونقابات أخرى في عدن، مساء أمس الإثنين، في مظاهرة غاضبة، استمرارًا في التنديد بتردي الأوضاع المعيشية، وعجز الحكومة عن السيطرة على قيمة العملة الوطنية، وإعادة قيمة المرتبات لما كانت عليه قبل عام 2015، ما نجم عنه أوضاع اقتصادية غاية في السوء، يعيشها معظم المواطنين، وفي مقدمتهم موظفو المؤسسات الحكومية.

 

في الأثناء، اجتمع رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي (الانفصالي)، عيدروس الزُبيدي، بقيادات عدد من النقابات العمالية الانفصالية في عدن، في ثاني اجتماع له في يومين متتالين عقب عودته من غيابه الطويل خارج البلاد، في محاولة منه للتخفيف من حدة الغضب الشعبي ضد المجلس من الفئات الفقيرة في مناطق سيطرته، جراء تخليه عن مسؤولياته في مواجهة ما سبق وتبناه في خطابات عديدة منذ تأسيسه عام 2017، معلنًا انحيازه للناس، لكنه عندما صارت له كتلة كبيرة في مجلس القيادة الرئاسي، بالإضافة إلى سبع حقائب في الحكومة، وسيطرته على السلطة المحلية في أربع محافظات، وفي مقدمتها عدن، لم يعمل شيئًا باتجاه التخفيف من معاناة الحياة المعيشية، بينما صارت قياداته في خانة الثراء.

 

في كلمته، خلال اجتماعه بقيادات النقابات العمالية الانفصالية، أكد الزُبيدي في واحدة من أكبر التناقضات، التي تعتري خطابه، تبنيه مطالب العمال والدفاع عنها لدى مجلس القيادة والحكومة، وهو بهذا بقدر ما يؤكد تناقضه يؤكد في الوقت ذاته إصراره على تجاهل الوضع المعيشي المتردي، وعدم الإعلان عن مبادرات لتجاوز تردي الخدمات واهتراء المرتبات.

 

ورفع المتظاهرون الغاضبون في عدن، الذين تجمعوا في ساحة خور مكسر، لافتات تؤكد مطالبهم في إعادة هيكلة المرتبات الحكومية، والعودة بها إلى ما كانت عليه قيمتها عام 2015، وإيقاف التدهور المتواتر في الأوضاع المعيشة، من خلال السيطرة على قيمة العملة وإيقاف عجلة غلاء الأسعار، ومعالجة وضع الخدمات العامة.

 

وطالبوا الحكومة بالوفاء بواجباتها تجاه المحكومين، من خلال توفير احتياجات المواطنين الأساسية وحماية حقوقهم، وعمل كل ما من شأنه معالجة وتوفير متطلبات الحياة المعيشية الضرورية.

 

وذكرت تقارير إعلامية محلية وتدوينات ومقاطع فيديو متداولة في منصات التواصل الاجتماعي أن المحتجين اعتبروا أن الاستمرار في تجاهل المطالب الشعبية المتعلقة بالأوضاع الاقتصادية يعكس مدى تجاهل الحكومة والمجلس الرئاسي والمجلس الانتقالي الجنوبي لمعاناة الناس، مطالبين بتحسين الخدمات العامة، وتلبية الاحتياجات الأساسية من خلال الإعلان عن مبادرات واضحة ومعالجات عملية.

 

وتشهد عدن وعدد من مدن المحافظات الواقعة في مناطق نفوذ الحكومة منذ شهر تقريبًا احتجاجات متواترة، رفضًا لاستمرار الأوضاع المعيشية المتردية، وتدهور الخدمات، وانهيار العملة، وهو ما عكس مزيدًا متواليًا من دورات تأزيم الحياة اليومية لغالبية المواطنين، محملين مجلس القيادة والحكومة والمجلس الانتقالي الجنوبي والتحالف السعودي الإماراتي مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع والعجر عن إيجاد معالجات لتجاوزها.

 

في الموازاة، جاء خطاب رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، عيدروس الزُبيدي، في اجتماعه بقيادات النقابات الانفصالية في عدن، ليؤكد مدى إصرار هذا المكون على المضي في طريقين متوازيين، مع السلطة فعلًا، ومع المحكومين صوتًا، وهو تناقض يؤكد أن مشروعه ما زال دون النضج السياسي، الذي يدفعه لتبني موقف يحترم فيه مناصريه.

 

وهو ذات المنطق الذي تحدث من خلاله الزُبيدي، في خطابه، الأحد، أمام قيادات المجلس، عقب عودته من خارج البلاد بعد غياب طويل.

 

بدت كلمة الزّبيدي مرتبكة كثيرًا، وتنطوي على تراجع في حدة الطرح عما كان عليه قبل عامين كمثال، كما يؤكد مدى ضعف وهشاشة ما يمكن اعتباره مشروعه، إذ لم يستطع أن يحتوي أبرز المكونات الجنوبية تحت رايته، ومثل هذا نتيجة طبيعية لعدم امتلاكه مشروعًا وطنيًا وناضجًا ورؤية يقنع من خلالها مكونات جنوب البلاد بعدالة مطلبه ووطنية حجته ومشروعه، وقبل ذلك وبعده لم يستطع تجاوز عباءة الممول الخارجي.

 

عاد الزبيدي إلى عدن مؤخرًا، ليعقد اجتماعًا بقيادات المجلس، في فترة غاية في التعقيد، فقد فيها المجلس نسبة من قاعدته الشعبية، في ظل استمرار تردي الأوضاع المعيشية، جراء استمرار انهيار العملة، في الوقت الذي يسيطر المجلس عسكريًا وأمنيًا على عدد من المحافظات الجنوبية، وفي مقدمتها محافظة عدن التي تشهد ترديًا واضحًا في الخدمات، وفي مقدمتها الكهرباء، التي شهدت معها المحافظة انطفاءً كليًا لأول مرة، ومن ثم عودتها بواقع ساعتين تشغيل وعشر ساعات انطفاء، بينما إدارة محافظة عدن ووزارة الكهرباء يترأسهما ويديرهما وزيران محسوبان على «الانتقالي».

 

وفي المقابل، تزداد قيادات الانتقالي تمسكًا بمناصبها الحكومية دون اتخاذ موقف يتماهون فيه مع معاناة الناس في مناطقهم، بمعنى لم يلمس الناس أي خطوات عملية للمجلس في سبيل التخفيف من معاناتهم، لا سيما في ظل ما ينتشر من أخبار الفساد المستشري في مؤسسات الحكومة، بما فيها المؤسسات التي يديرها الانتقالي، كما أن مطالبة المحتجين برحيل التحالف هو رفضهم لكل مشاريع التحالف، وفي مقدمتها المجلس الانتقالي.

 

بدا الزبيدي في كلمته، الأحد، مرتبكًا وبخاصة في حديثه عن ملف الانفصال، ليتصدر في كلمته، كالعادة، الحديث عنه، معتبرًا أن «الانتقالي بات رقمًا صعبًا في الساحة، واستطاع أن يرسخ وجوده على المستويات الداخلية والخارجية».

 

وبهذا يحاول تبرير غياب موقفه من الأزمة المعيشية التي يعيشها المواطنون، والتخفيف من حدة الانتقادات التي تصوب نحوه من مناصريه، والذين يسألون: ماذا حقق للناس في هذا الوقت العصيب؟

 

وهروبًا من هذا السؤال يعود الزُبيدي للحديث عن الانفصال، مؤكدًا أن انفصال الجنوب «أصبح أمرًا واقعًا لا يمكن تجاهله»، متحدثًا، في ذات الوقت، أنه صار للانتقالي «جيش منظم لديه قدرات وإمكانات دفاعية، فضلًا عن وجود تمثيل دبلوماسي للمجلس في مختلف دول العالم مما يعزز من موقفه في أي حوارات أو مفاوضات مستقبلية».

 

الحديث عن تكريس قضية الانفصال ووجود جيش منظم وتمثيل دبلوماسي، يمثل محاولة منه الزُبيدي لامتصاص الغضب الشعبي المتنامي ضده، وهو على هذا المنوال يتعامل مع قضية الانفصال باعتبارها عنوان مشروعه.

 

يتحدث الانتقالي، في الغالب، عن أن حل كافة قضايا جنوب اليمن يتمثل في انفصاله عن الشمال، متجاهلًا حقيقة واضحة، وهو أنه أكبر مكون يمني يمتلك تمثيلاً في مجلس القيادة الرئاسي، من خلال ثلاثة أعضاء من أصل ثمانية، مما يجعله قادرًا على اتخاذ أي قرار لمعالجة الوضع الاقتصادي المتردي في المحافظات الواقعة في مناطق نفوذ الحكومة، ثانيًا لديه سبع حقائب وزارية، بما فيها وزارات خدمية، وفي مقدمتها وزارة الكهرباء ووزارة الدولة محافظة عدن، بينما واقع الكهرباء والخدمات في عدن كمثال صعب للغاية.

 

وفي محاولة أخرى للهرب من تحمل المسؤولية نجده في الملف الاقتصادي قدم طرحًا يعلن فيه انحيازه للناس ومطالبهم، بينما هو على رأس قمة السلطة، قائلًا: «إن المشكلات الاقتصادية تمثل تحديًا كبيرًا للمجلس الانتقالي باعتباره جزءًا من المنظومة الحاكمة»، مؤكدًا «وقوفه إلى جانب أبناء الشعب في المطالبة بحقوقهم المشروعة، ويتبناها ويُعبّر عنها، ويبذل جهوده، من خلال ممثليه في مجلس القيادة والحكومة، لاتخاذ خطوات عاجلة للتخفيف من معاناة المواطنين».

 

وعلى الرغم من أن الزُبيدي تحدث في كلمته في اجتماع الأحد، عن جيش منظم وتمثيل دبلوماسي في الخارج، وغيرها من المقومات التي يعتبرها تؤسس لدولته الانفصالية، نجده يتحدث هذه المرة، في تطور لافت، عن أن مسألة الانفصال تحتاج إلى وقت ووقف قد يكون طويلاً «دون عنف ودون سلاح»، قائلًا في قضية الحوار الوطني «إن مسألة الحوار لم تنتهِ ولن تنتهي»، مشيرًا إلى أن هناك «بعض التحديات والمشكلات قد تطرأ، لكن من الضروري التعامل معها دون عنف ودون سلاح»، كما جدد الزُبيدي التأكيد في ختام كلمته «التزام المجلس الانتقالي الجنوبي بمسار النضال السياسي، حتى تحقيق تطلعات شعب الجنوب في استعادة وبناء دولته الفدرالية المستقلة على كامل ترابه الوطني وحدوده المعترف بها حتى 21 مايو/ أيار 1990».

 

يصدر هذا عن المجلس الذي سبق له وأعلن الإدارة الذاتية للجنوب، كصوت دعائي، دون أي رؤية أو قدرات، كما ظل يتبنى التهديد والوعيد ممسكًا بورقة الانفصال التي تراجع خطابه بشأنها، من خلال حديثه عن حوار طويل، مما يؤكد استيعاب الانتقالي لمتغيرات تشهدها الساحة في المحافظات الجنوبية والشرقية، في غمرة التنافس السعودي الإماراتي على الاستحواذ على الساحة السياسية هناك من خلال استمرار تفريخ المكونات، والتي استطاعت أن تخلق واقعًا أكثر تعقيدًا أمعنت في إضعاف الدولة، وأصبح معها الوضع مرشحًا للخروج عن السيطرة في أي لحظة.

  

المصدر: مأرب برس

كلمات دلالية: المجلس الانتقالی الجنوبی مجلس القیادة وفی مقدمتها الز بیدی فی کلمته من خلال فی عدن

إقرأ أيضاً:

في أثر فرانسيس دينق: سؤال الهوية بين النهر والمجلس

توطئة: حين يتحوّل الإرث إلى مقام للتأمل

ثمة سِيَر لا تُقرأ كما تُقرأ التواريخ، بل تُلامَس كما تُلامِس آثار الأقدام القديمة ضفاف نهر الجور، حين يُبللها صباحٌ جنوبي جديد: رطبة بالحكاية، متجذّرة في الطين، وتحمل في رائحتها سلالة الذكرى.
فرانسيس دينق ليس فقط صوتًا فكريًا نادرًا خرج من هشيم السودان، بل هو سردية مكتوبة بجمر الذاكرة وسؤال المعنى.
ابن الزعيم دينق مجوك، أحد أعمدة قبيلة الدينكا، تلك القبيلة التي لا تُقاس بحجمها ولا بثقلها الرمزي فحسب، بل بقدرتها العجيبة على حمل الوطن في تفاصيل الحياة اليومية، في الحكاية، في الغناء، في علاقة الإنسان بالنهر والسماء، وفي مقاومة محو الجوهر الوجودي للذات.

فرانسيس، في كتابه عن والده
The Man Called Deng Majok،
لا يكتب فقط عن الأب، بل عن البذرة التي خرج منها سؤال الهوية، سؤال العدالة، وسؤال الدولة.
كان يعرف منذ البدايات أن الشجرة التي لا تتأمل جذورها، تُقلعها أول ريح.

ولأن التكوين لا يتم في أرض واحدة، كان لا بد لفرانسيس أن يعبر نهر المعنى: من أبيي إلى الخرطوم، ومن جامعة الخرطوم إلى كولومبيا في نيويورك، حيث التقى بالعالم لا بوصفه عالِمًا فقط، بل بوصفه شاهِدًا.
في جامعة كولومبيا، كما في الأمم المتحدة، حمل معه ليس فقط أوراق القانون، بل الندبة السودانية التي لا تكف عن النزيف: الهوية كعبء، التنوع كمصدر قلق لا كقيمة، والانتماء كعملية قيد التشكل، كما لو أن كل محاولة للفهم ليست إلا أطروحة لم تكتمل بعد.

في نيويورك، حيث التقى بالعالم، لم يكن دينق مجرد مهاجر يحمل أوراق اعتماد أممية، بل رجلٌ يضع على طاولة الأمم معضلة اسمها السودان.
لم تُغرِه العواصم بالانفصال عن جذوره، بل عمّقت فيه شعور الغريب الذي يتعلم كيف يُعبّر عن محليته بلغة كونية.

في كولومبيا، حيث تتداخل الأنثروبولوجيا مع القانون والفكر السياسي، تبلورت عند البروفيسور فرانسيس دينق تلك الصيغة النادرة: أن تكون مفكرًا أفريقيًا دون أن تُصبح ضحية للابتزاز الثقافي، وأن تصوغ خطابًا أمميًا دون أن تذوب في الرواية البيضاء.

ذلك الإرث القبائلي، المتشعب والعميق، ظلّ حاضرًا في وجدان فرانسيس لا كماضٍ يُروى، بل كصيغة دائمة لتأويل الحاضر.
فيها يتعلم الطفل أن يُصغي لحزن البقرة كما يُصغي لحكمة العجوز، ويعرف الرجل موقع الشمس من ظلّ الأغصان كما يعرف حدود سلطته من صمت السماء.

كان يمكن لفرانسيس دينق أن يكون مجرد رجل قانون آخر، يقف على أعتاب المؤسسات الدولية بوصفه ممثلًا لملف، لا حاملًا لذاكرة.
لكنه، ومنذ البدايات، اختار أن يقف في مواجهة هشاشة التاريخ، لا أن يكتفي بتفسيره.
في سيرته، كما في مرافعاته الأممية، نلمس ذلك التوتر النبيل بين أن تكون منتميًا لجذرٍ قديم، وأن تُعيد صوغه بلغة لم تُصنع لأجله. بين أن تحمل قبيلتك في دمك كإيقاع داخلي، وأن تشرحها للعالم كأنك تترجم حلمًا شفهيًا بلغة لا تعرف الطمي.

الدينكا بالنسبة له لم تكن تصنيفًا إثنيًا ولا إشارة في بطاقات التعريف، بل سردية حيّة، مصنوعة من الطين والدم والماء.

في "رجل يدعى دينق مجوك" لا نعثر على سيرة زعيم فحسب، بل على ما يشبه مخطوطة مغموسة في الحليب المُقدّس ورماد المواقد القديمة؛ عن رجلٍ لم يكن يرى الزعامة سلطة، بل طقسًا من طقوس الحماية، وشكلًا نادرًا من أشكال الأخلاق.
كتب فرانسيس عن والده كما يُكتب عن بلدٍ صغيرٍ يسكنه بكامله، لا كمرافعة في تمجيد خاص، بل كشهادة على إمكان الحكم دون نفي، وعلى معنى أن تُقاس الزعامة لا بمساحة السيطرة، بل بقدرة الصبر على الاستمرار.

لقد فهم فرانسيس، منذ نعومة التجربة، أن الهوية ليست بطاقة تُبرزها عند الحدود، بل مرآة تُكسر عند كل سؤال صعب.
كان يكتب عن النزوح الداخلي لا بوصفه ملفًا إغاثيًا، بل كجرح حضاري: ماذا يعني أن يُقتلع الإنسان من أرضه لا بسبب كوارث الطبيعة بل بسبب عجز الدولة عن أن تكون حضنًا لا سيفًا؟ وماذا يعني أن نطلب من الناس “أن يعودوا إلى ديارهم” حين تكون الديار أول من خانهم؟

لكن الحكاية لم تكن فقط عن الزعامة والهوية، بل عن التمزق الداخلي، عن الغريب الذي كتب عن وطنٍ ظل يخذله دون أن يسقط من قلبه.

لم يكن الشتات عند فرانسيس دينق حادثة عبورٍ خارج الوطن، بل تشكّلًا داخليًا في وجه وطنٍ ظلّ ينفي نفسه. فالسودان الذي عرفه لم يكن خريطة جغرافية بل خريطة قلق، خريطة تتغيّر ملامحها كلما حاول أحدهم أن يعترف بالجميع دون أن يُقصي أحدًا. ومن هذا القلق وُلد صوته: صوتٌ يُسائل لا ليُدين، ويُفكّك لا ليُخرّب، وينتمي دون أن يتورّط في التقديس.

كان يعلم أن في داخل كل “متحدث أممي” ظلّ إنسان يبحث عن وطن، لذلك لم تكن مهمته الأممية تقنية، بل وجودية. كان يُدرك أن النزوح ليس فقط حركة قسرية من مكان إلى آخر، بل أيضًا انزلاقٌ من تعريفٍ إلى آخر، من نظرة ذاتية إلى نظرة فوقية، من لغة البيت إلى خطاب الأمم. وهنا، بالضبط، انحنى ليكتب، لا بالحنين فقط، بل بالمسؤولية: أن تُعيد تشكيل الذات في مواجهة خطاب لا يعترف بذاتك إلا بوصفك قضية إنسانية مؤقتة.

في نيويورك، لم يكن يعيش اغترابًا، بل يكتبه. لم يكن جزءًا من النخبة الدولية التي تتحدث باسم الضحايا، بل كان – ولا يزال – من القلائل الذين يجرؤون على القول: أنا أحد هؤلاء، لا من باب التمثيل، بل من باب الجرح. كانت كلماته، حتى في أكثر لحظات البروتوكول برودة، تحمل أثر تراب أبيي، وصوت دينق مجوك، وشجن الأغنية التي لم تكتمل في صدر الراعي حين جاءت الحرب.

ولعلّ أعظم ما فعله فرانسيس أنه لم يدّع النقاء، بل قبل بالتعقيد. لم يُقدّم قبيلته كـ”نموذج للسلام” ولا نفسه كـ”جسر بين الهويات”، بل قدّم الكلّ كما هو: هشّ، قابل للانقسام، ومع ذلك جدير بالمحاولة.
تلك هي الكرامة كما عرفها: أن تسكن المعنى دون أن تفرضه، وأن تمشي في العالم وأنت تحمل وطنك في صوتك لا في أوراقك.

تلك العلاقة المرهفة بين الوطن والصوت، كانت عند فرانسيس دينق نثرًا آخر للمقاومة.

لم يكن على فرانسيس أن يخترع قضية، بل أن يستمع لصوتها وهي تنشج في داخل اللغة.
منذ البداية، لم يُغره المجد الأكاديمي ولا بهرجة المؤتمرات، بل كان مأخوذًا بذلك السؤال القديم: من نكون حين نُجبر على أن نكون شيئًا واحدًا؟ كان يدرك أن خطورة الهوية لا تكمن في غموضها، بل في اختزالها. فالهويات، كما كتب لاحقًا، لا تتشكل عبر الانتماء فحسب، بل عبر الألم، وعبر مقاومة تلك اليد التي تريد أن تُلصق بك اسمًا واحدًا إلى الأبد.

ولهذا، كان يكتب كمن يُعيد تشكيل شتاته في جملة. كل كتاب له كان محاولة لفك طلاسم الانقسام السوداني، لا بوصفه سياسيًا أو دينيًا فقط، بل بوصفه انقسامًا بين صورتين للذات: الذات كما تريد أن تُرى، والذات كما تُكره أن تكون. وبين هاتين الصورتين، تتشكّل المنطقة الرمادية التي يسكنها المنفيون في الداخل والخارج، أولئك الذين لا يتكلّمون لغتهم الأم إلا بخجل، ولا يثقون بلغة الآخر إلا بحذر.

ولم تكن كتاباته عن الدينكا نوعًا من الفلكلور، بل تمسكًا عنيدًا بذلك الجزء من الذات الذي لم تمسّه بعد آلة الصهر الثقافي. كان يرى أن في رواية القبيلة مقاومة صامتة للزمن الذي يريدنا بلا ذاكرة. ولعل ذلك ما جعل من كتاباته عن مجتمعه ليست مجرد شهادات إثنوغرافية، بل مرايا ملغزة، تعكس فيها الدينكا ككينونة، لا كهوية عرقية فقط، بل كبنية معرفية: في طريقة السرد، في إيقاع الاسم، في قيمة الحليب والرمز والمجتمع.

في كل سطر، كان يُشبه من يبحث عن اسم قديم في حُطام رسالة، عن نغمة لم تُسجّل لكنها ما زالت تعيش في ذاكرة الجدّات. وربما لهذا لم يكن يكتب ليُقنع، بل ليُذكّر. فالكتابة عنده ليست إثباتًا، بل استدعاء. ليست صراعًا على التعريف، بل دعوة للتأمل في هشاشة هذا التعريف

ولأن الذات لا تُبنى في الفراغ، كان لا بد من العودة إلى البيت الأول، حيث لا تبدأ الحكاية من فكرة، بل من كثافة النسل، وتفرّع الاسم.

في البدء، لم يكن البيت بيتًا واحدًا، بل أرخبيل من البيوت. كان فرانسيس واحدًا من مئات الأبناء الذين حملوا اسم دينق مجوك، ذلك الزعيم الذي لم يكن يكتفي بأن يُدير القبيلة، بل أراد أن يُقيمها في الجسد والذكرى. تزوّج دينق مجوك من أكثر من مئتي امرأة، وأنجب ما يزيد على أربعمائة طفل وطفلة، لا كرمًا نرجسيًا، بل كأنّما يريد للقبيلة أن تتضاعف لتواجه وحدتها بالعُرف، وهشاشتها بالعدد، وشتاتها بالاسم.

في هذا الفضاء العائلي الذي لا تحدّه جدران، تعلّم فرانسيس منذ طفولته أن لا أحد يُقيم لنفسه سردية خاصة، بل كل قصة جزء من نسيج أكبر. كان صوته يتكوّن داخل جوقة واسعة، فيها الكبير والصغير، وفيها النائم بجانب البقرة كما النائم بجانب القصيدة. لم يكن يشعر بالوحدة، لأن المفرد في عرف الدينكا لا يُعوّل عليه. فالفرد ابن الجماعة، والجماعة ذاكرة تمشي على قدمين.

قبيلة الدينكا لم تكن بالنسبة له مجرد انتماء وراثي، بل طريقة في النظر، في الإحساس بالزمن، في تقدير الأشياء، في الصمت كما في الطقوس. فيها، الكلمة لا تُقال عبثًا، والاسم لا يُطلق إلا ليكون توقيعًا على علاقة. وحين غادر الوطن، لم يكن يفرّ من شيء، بل كان يحمل كل هذا الإرث في حقيبة صغيرة، يعرف أن العالم الذي سيواجهه لا يعترف بالقبائل إلا بوصفها عائقًا، وأن عليه أن يعلّم العالم كيف تُصبح القبيلة رؤية لا وصمة.

من هناك، من تلك الحقول التي تُربّي الأغاني كما تُربّي الماعز، عبر فرانسيس إلى الخرطوم، ومنها إلى نيويورك، وهناك كانت كولومبيا. لم تكن الجامعة مجرّد محطة نُحصل فيها على المعرفة، بل كانت بالنسبة له موقعًا لإعادة صياغة الذات: كيف تظلّ وفيًّا لذلك الطفل الذي يتبع ظلّ والده الزعيم، وأنت في قاعة يُناقش فيها العالم معنى “الهوية التفاوضية”، و”تفكيك الخطاب”، و”التاريخ الشفاهي”؟
في كولومبيا، لم تُفكك القبيلة فيه، بل تعمّقت، اكتسبت لغة جديدة. هناك، أدرك أن النَسَب يمكن أن يتحوّل إلى أداة نظر، وأن الزعامة التي نشأ في ظلّها ليست نهاية، بل بداية لسؤال أطول: ماذا يعني أن تكون ابنًا لزعيم، في بلدٍ يكفر بزعمائه كل صباح.

لم يكن فرانسيس دينق مشروع دولة، بل مشروع ذاكرة. لا يبحث عن دورٍ يلعبه، بل عن أثرٍ يُترك بهدوء، كما تُترك خطوات الأب في تراب القرية حين يعود ليلًا من مجلس الحكم. لم يسعَ إلى الشهرة، بل إلى أن يُحافظ على حكاية كانت مهددة بالذوبان. ولأنه لم يكن مشغولًا بصناعة صورة، ظلّ وجهه يشبه صوته: ناعمًا، حازمًا، لا يُحب الضجيج، ولا يخشى العُمق.

وحين نقرأه اليوم، لا نقرأ مفكرًا من جنوب السودان فقط، بل مرآة قلقة لسودانٍ بكامله، لم يتعلّم بعد كيف يحضن تنوّعه دون خوف، ولا كيف يُصغي إلى صوته الداخلي دون أن يرتبك. فرانسيس لم يُطالب بشيء، بل طرح أسئلته في صمتٍ عالٍ، كما يفعل الحكماء حين لا يملكون سوى لغتهم.

لقد كتب كي يُبقي الباب مفتوحًا بين القبيلة والعالم، بين الأب والهوية، بين الذاكرة والتأمل، وكي يُخبرنا، نحن الذين نُكابر كل يوم بأننا وحدويون أو علمانيون أو ثوريون، أن كل تلك التسميات لا تصمد أمام مشهدٍ واحد: طفلٌ يستمع لصوت والده الزعيم، لا ليتعلم السياسة، بل ليتعلم الصبر.

ربما، في النهاية، لم يكن يريد أن يكون شيئًا آخر سوى هذا: ابن رجلٍ يُدعى دينق مجوك، وساردٌ بارع، لم يتخلّ عن قبيلته وهو يدخل الأمم المتحدة، ولم يتخلّ عن أمته وهو يكتب بالإنجليزية عن الألم.
فرانسيس دينق، بما حمل وما ترك، لم يكن ظاهرة فكرية، بل حارسًا صامتًا لذاكرة ظلّ الناس يفرّون منها، فيما هو ظلّ يعود إليها كلما كتب.

لأن الذاكرة، حين تخذلنا الخرائط، لا تحتاج إلى مؤسسات، بل إلى رجلٍ يعرف أن يكتبها كما تُحكى: ببطء، وبصوتٍ لا يُجيد الاستعراض، لكنه لا يُخطئ الطريق.

zoolsaay@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • في أثر فرانسيس دينق: سؤال الهوية بين النهر والمجلس
  • السعودية تقلب الطاولة على الإمارات في حضرموت.. من أطاح بخطط الانتقالي؟
  • عاجل - الحكومة توافق على 13 قرار خلال اجتماعه الأسبوعى.. تعرف عليهم
  • قوى تحالف المقاومة الفلسطينية ترفض خطاب عباس واعتداءه اللفظي عليها
  • المركزي الفلسطيني يجتمع برام الله.. وعباس يشتم المقاومة ويطلب تسليم الأسرى الإسرائيليين
  • غزة تحت الحصار والقصف : معاناة إنسانية تتجدد بين الأنقاض
  • نائب إطاري:جداول الموازنة ما زالت لدى الحكومة
  • تراجع مستمر في قيمة الريال اليمني وسط انتقادات لسياسات الحكومة
  • مظاهرات في غينيا لدعم الجنرال دومبويا
  • مشيدة بالبابا فرنسيس.. مشيرة خطاب: حرب غزة أحدثت ردة في حقوق الإنسان