رجل المال والأعمال علي محمد الحسن “أبرسِّي”
تاريخ النشر: 25th, February 2025 GMT
﴿مَنْ كَانَتْ مَنِيَّتُهُ بِأَرْضٍ *** فَلَيْسَ يَمُوتُ فِي أَرْضٍ سِوَاهَا﴾
أحمد إبراهيم أبوشوك
غيَّب الموت رجل المال والأعمال علي محمد الحسن عبد السلام (أبرسِّي) بالعاصمة القطرية الدوحة في يوم الأحد الموافق 23 فبراير 2025، وشيع جمعٌ غفيرٌ من أبناء الجالية السودانية جثمان الفقيد في اليوم الثاني لتاريخ وفاته إلى مثواه الأخير بمقبرة مسيمير بالدوحة عقب صلاة العصر.
في هذا الزمن البخس انتقل الحاج علي محمد الحسن أبرسِّي إلى الدار الآخرة، وترك انتقاله حزنًا عميقًا في نفوس العارفين لأفضاله؛ لأنه كان يمثل رمزاً من رموز الرأسمالية الوطنية المستنيرة، والجيل الثاني من أبناء الكوارتة، الذين لمعت أسماؤهم في مجال العمل التجاري. فقد أسس الحاج أبرسِّي العديد من الشركات التجارية الناجحة، مثل شركة أبرسِّي للنقل، وشركة أبرسِّي للغاز، فضلاً عن رئاسته لغرف النقل التجارية، ونيابته لرئاسة اتِّحاد أصحاب العمل السوداني، وعضويته في مجلس إدارة البنك الإسلامي. ويضاف إلى رصيده التجاري، ممارسته للعمل السياسي، حيث سطع نجمه عندما كان رئيسًا لبلدية أم درمان، وأصدر قراراً شهيراً في مطلع الثمانينيات يقضي بإغلاق البارات (حانات بيع الخمور)، ومنع بيع الخمور بمدينة أم درمان، الأمر الذي أغضب الرئيس نميري، ودفعه إلى إلغاء القرار، السابق لقرار الرئيس نفسه. وبعد فترة مايو (1969-1985) أصبح عضواً في المكتب السياسي للحزب الاتِّحادي الديمقراطي، ومن المقربين للسيد محمد عثمان الميرغني (مرشد الطريقة الختمية ورئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي)، ولكنه اختلف مع السيَّد والاتِّحاديين ونمط إدارتهم للحزب العريق، فانضمَّ إلى حزب المؤتمر الوطني الحاكم آنذاك، وترشَّح في قائمة الحزب المغلقة لولاية الخرطوم في الانتخابات القومية لعام 2010م، وأصبح نائبًا في المجلس الوطني. وكان من النواب القلائل، الذين لم تلجمهم سطوة السلطة وامتيازاتها من تسديد سهام النقد الحادة لسياسات حكومة الإنقاذ الداخلية والخارجية داخل قبة المجلس الوطني.
علي محمد الحسن أبرسِّي الآخر؟
وُلِدَ علي محمد الحسن بمدينة النهود عام 1943، من أبٍ يرفع نسبه إلى الكوارته الحميدناب وأمي تنسب نفسها إلى الشايقية الحفيظاب، الذين يقيمون بقرية قوشابي بمحلية الدبة، بالولاية الشمالية. تنقَّل علي مع والده، الذي كان يعمل في تجارة المحاصيل بالنهود، حيث بدأ تعليمه الأولي بمدرسة شيخ التيجاني، ثم مدرسة الأبيض الأولية لمدة عامٍ واحدٍ، ومنها انتقل إلى مدرسة كورتي الأولية. وبعد أن أكمل سنوات الأولية الأربع بنجاحٍ انتقل إلى معهد نوري الديني، الذي أهلَّه للالتحاق بمعهد أم درمان العلمي. وكان والده يتطلع أن يواصل ابنه عليًا تعليمه بالأزهري الشريف، ويتخرج فيه عالماً في أحد فروع العلوم الإسلامية؛ إلا أنَّ الصبي الطموح طلَّق الدراسة بعد المعهد العلمي وانخرط في مهنة آبائه، المهنة التي عرَّفته بمدن السودان المختلفة، حيث بدأ حياته التجارية بين الدويم، والنهود، ونيالا، وزالنجي، وبورتسودان. وبعد ذلك رجع إلى أم درمان وأسس شركةً لاستيراد الشاي. لكن يبدو أن مناخ العمل التجاري بأم درمان لم يرق له، فشد رحاله عائدًا إلى نيالا، وأسس فيها متجراً لبيع الثياب النسائية، ثم انتقل منها إلى زالنجي وقضى فيها أفضل سنواته عمره، كما يقول، وأصبح من أعلام ناديها الثقافي. وفي العقد الثاني من ستينيات القرن العشرين دخل في شراكة مع رجل الأعمال السوري، الدكتور أحمد راتب الشلاح، وعملا سويًا في مجال تصدير زيت السمسم إلى السعودية ولبنان وهولندا.
وفي النصف الأول من عقد السبعينيات (1973) اختمرت في ذهنه فكرة إنشاء شركة نقل، مقرها في الخرطوم؛ لتغطي عجز السكك الحديدية الناقل الوطني آنذاك، فتقدَّم بطلب إلى الدكتور إبراهيم منعم منصور، وزير المالية الأسبق، فصادق على الطلب. وبعد ذلك حصل أبرسِّي إلى ضمانٍ ماليٍ من البنك العثماني السوداني (بنك الوحدة لاحقاً)، وضمان شخصي من عمه عمر عبد السلام، فتعاقد على استيراد ثلاثين شاحنة. هكذا بدأت شركة أبرسِّي للنقل، وأصبحت الناقل الرئيس بين بورتسودان والخرطوم لسنوات طوال.
تدل كل هذه التجارب على طموح هذا الرجل الفريد وجرأته في اجتراح الأعمال التجارية المتنوعة والاقلاع عنها دون وجلٍ من عواقب الخسارة والفشل. ومن أميز تجاربه الناجحة التي تؤكد ذلك، تجربته في إنشاء شركة أبرسِّي للغاز. وفي هذا يقول: "دخلت تجارة الغاز بموقف عجيب، كنت أقف في طلمبة مكي [بأم درمان]، وأمامي أسطوانات مربوطة بجنزير، وكانت [هناك] امرأة كبيرة تقف قدام أنبوبة غاز، أخبروها بكفاية العدد لشحنه لبورتسودان لملئها بالغاز، فوقعت [المرأة على] البلاط نتيجة المدافرة." ثم يمضي ويقول: "هذا المشهد ألَّمني كثيراً، وحينها قررت أن أدخل في المجال، وقمت برفع أسطوانة السيدة في سيارتي، [وظللت] أعبئها من بورتسودان كلما تفرغ [وأوصلها إليها] في منزلها." وبعد عام من هذا المشهد الإنساني (أي عام 1990) قدَّم الحاج أبرسِّي طلباً إلى وزارة التجارة لإنشاء شركة لاستيراد غاز الطهي وأسطواناته؛ إلا الوزارة رفضت طلبه، "بحجة أن القطاع الخاص غير مؤهلٍ،" لمثل هذا العمل. إلا أن هذا الرفض لم يثبط همته، فعرض الطلب مرة أخرى على وزير التجارة آنذاك، الدكتور علي الحاج محمد، فصادق له. بهذه الكيفية بدأت شركة أبرسِّي لاستيراد أسطوانات غاز الطهي والغاز نفسه، وكانت الشركة تمتلك في بداياتها 50 ألف أسطوانة، وتستورد بين 70 إلى 80 طن من الغاز شهريًا؛ لتغطية جزءٍ كبيرٍ من احتياجات المستهلك المحلي.
أبرسِّي وأعمال البر والإحسان
إلى جانب الجمع بين مشكلات العمل السياسي وفضائل العمل التجاري، كان علي محمد الحسن أبرسِّي رجلاً جَوَّاداً في أعمال الخير؛ ولذلك رثاه البروفيسور المعتصم أحمد الحاج، مدير جامعة الأهلية السابق، بقوله: كان "رجل كرم وشجاعة، يقول رأيه مؤيدًا أو معارضًا، فيكون له وقعه، شارك في تأسيس جامعة أم درمان الأهلية"، وكان "عضوًا في مجلس أمنائها لدورات عديدة، وأسهم في تأسيس مباني الجامعة بتشييد قاعة محاضرات كبرى ومتعددة الأغراض"، وبذلك خلَّد اسمه، الذي أصبح متداولًا على ألسن الطلبة والطالبات في ذهابهم إلى، أو إيابهم من قاعة علي أبرسِّي للمحاضرات.
وكان لأرض آبائه نصيب من أعماله الخيرية؛ وأصدق شاهد على ذلك الخطابات المتبادلة بينه وبين العمدة أحمد عمر كمبال، الذي كان يخاطبه "ابننا البار السيد علي محمد الحسن"، ويقول له في أحد خطاباته: "لم نجد فرصة عند حضوركم هنا بكُورتي للتشاور معكم في موضوع المستشفى، وأنتم خير من نثق فيه لخدمة الوطن"؛ ولا عجب في أن هذا الإطراء فيه تثمين صادق لبصمات الفقيد الخيرية التي تركها على جدران كل المؤسسات التعليمية والصحية التي أُنشئت في كورتي بالعون الذاتي. فوشائج القربى التي ربطته بكورتي وعلاقات المودة والعمل الخيري التي وثقت صلاته بالعمدة أحمد عمر كمبال، تعكس طرفاً آخر من مواهب الفقيد الشعرية غير المعلومة، والتي برزت بعض ملامحها في المرثية التي ألقاها في حفل تأبين العمدة أحمد عمر كمبال (1998)، والتي نذكر منها الأبيات الآتية:
يا عُمدة الخــير مـَــنْ لكُورتي بعدكم اليأس دب بها واعـــتامها الشـظــــف
فانطـفأت أنـوار كُورتي بعـد بهجتها واسـتوحـش الـناس فيها بعد ما اتلـفوا
هذي مـنازلهم تحكي مآثرهم لولا الضرورة عــنها الــناس ما انصـرفـوا
كـنت المبارك والمـيمـون سـيرته لـولا قــضـاؤك بيـن النـاس لانحـرفـوا
يا عُمدة الخــير يا مــن تُرجـى عـدالته يا درةً لا يواري ضــوءها الصــدف
عَوْداً عَلَى بَدْءٍ
بعد هذا العطاء المتعدد المشارب، انتقل الحاج علي أبرسِّي إلى الدار الآخرة في العاصمة القطرية الدوحة، ولسان حاله يقول: "مشيناها خُطىً كُتِبَت علَينا *** ومَن كُتِبَت علَيهِ خُطىً مشاها *** وَمَنْ كَانَتْ مَنِيَّتُهُ بِأَرْضٍ *** فَلَيْسَ يَمُوتُ فِي أَرْضٍ سِوَاهَا." ألا رحم الله الفقيد علي محمد الحسن عبد السلام (أبرسِّي) بقدر ما قدَّم لوطنه وأهله، وبقدر ما أعطى، فقد كان شجاعاً في تحديد مواقفه السياسية وإن لامه اللائمون، ومغامرًا في اختيار مبادراته التجارية دون أن يرهق ذهنه بحسابات الربح والخسارة، ومنفقاً في أعمال الخير وقضاء حوائج الناس من غير منٍ ولا أذى. نسأل الله يسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ويجعل البركة في ذريته، ويلهم أهلنا الكوارته ومعارفه الصبر والسلوى، ويحسن الله عزاءهم وعزاءنا في هذا المصاب الجلل. ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾.
ahmedabushouk62@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: علی محمد الحسن أم درمان
إقرأ أيضاً:
رئيس الإمارات يصل إيطاليا في “زيارة دولة”
إيطاليا – وصل الرئيس الإماراتي، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، امس الأحد، إلى العاصمة الإيطالية روما، في “زيارة دولة”.
وذكرت وكالة الأنباء الإماراتية (وام) أن ابن زايد “وصل إلى العاصمة روما في زيارة دولة إلى الجمهورية الإيطالية تبدأ الاثنين”.
واحتفاء وترحيبا بزيارته، رافق طائرة الرئيس الإماراتي لدى دخولها الأجواء الإيطالية سرب من الطائرات العسكرية، وفق المصدر ذاته.
ويضم الوفد المرافق له كلا من نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية، عبد الله بن زايد آل نهيان، ونائب رئيس ديوان الرئاسة للشؤون الخاصة، حمدان بن محمد بن زايد آل نهيان، ومستشار رئيس الدولة، محمد بن حمد بن طحنون آل نهيان، وعددا من الوزراء والمسؤولين.
ولم تذكر الوكالة الإماراتية أي تفاصيل بشأن أجندة الزيارة أو مدتها.
الأناضول