سودانايل:
2025-04-25@13:46:07 GMT

هل السيادة تختزل في الخرطوم وحدها؟

تاريخ النشر: 25th, February 2025 GMT

يوقن الجميع أن الخرطوم تمثل المركز الإداري والسياسي والاقتصادي للسودان، حيث تتركز فيها المؤسسات الحكومية، الجامعات، المطار الدولي، والمقار الرئيسية للقطاعين العام والخاص. وهذا يجعلها محور الإهتمام في أي صراع على السلطة، ويُنظر إليها كمفتاح للتحكم في الدولة. فإن معركة الخرطوم الجارية حالياً ليست سوى جزء من مشهد أوسع يشمل كامل السودان.


فالتركيز لغرض السيطرة على العاصمة قد يعطي انطباعًا بأن السيادة تُحسم هناك، بينما الحقيقة أن البلاد مترامية الأطراف، وهنالك مناطق أخرى تشهد نزاعات، وتملك تأثيرًا أكثر على مستقبل الدولة واستقرارها.
فالسودان كدولة متعددة الأقاليم والثقافات تحتاج إلى رؤية شاملة تتجاوز مركزية العاصمة، خاصة أن الأطراف كانت دومًا جزءًا أساسيًا من المعادلة السياسية والتاريخية. فمعارك كلاً من دارفور، كردفان، النيل الأزرق، وشرق السودان كلها تعكس صراعات على الموارد، التمثيل السياسي، والهوية الوطنية. إذا كان الصراع في الخرطوم يُنظر إليه على أنه معركة من أجل "شرعية الحكم"، فإن بقية الوطن تخوض صراعات من أجل الاعتراف، التوزيع العادل للسلطة والثروة، والعدالة الاجتماعية. السؤال الحقيقي .. هل يمكن لأي طرف من الأطراف المتصارعة أن يفرض سيطرته على السودان دون الكسب لبقية الأقاليم؟
يصور أنصار المؤتمر الوطني المحلول أن حسم المعركة في الخرطوم هي بمثابة الإنتظار ولا يرون في بقية أقاليم السودان مكونات جميعها تشكل الوطن الواحد فهم بذلك لا يعترفون بالتعدد في السودان. هذا التصور يعكس العقلية المركزية التي لطالما حكمت السودان، حيث يتم اختزال مفهوم الدولة في العاصمة، وتُهمَّش بقية الأقاليم سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا. هذا النهج يعبر عن أزمة قديمة في السودان، حيث كانت السلطة دائمًا تُدار من المركز، بينما تُترك الأطراف لمصيرها، سواء من حيث التنمية أو التمثيل السياسي العادل.
وهي رؤية وتصور يرجع إلى ورقة قدمها الاقتصادي الاسلامي عبد الرحيم حمدي ما تُعرف بـ "ورقة حمدي" أو "مثلث حمدي" قدمها وزير المالية الأسبق في عهد نظام المؤتمر الوطني (الكيزان)، حيث طرح رؤية اقتصادية ركزت على ما أسماه "المثلث الحيوي" الذي يشمل الخرطوم، الجزيرة، النيل الأبيض، نهر النيل، والشمالية، معتبرًا أن هذا المثلث هو الأكثر قابلية للنمو الاقتصادي، وهو ما أثار جدلًا واسعًا. رغم أن الطرح جاء من منظور اقتصادي، إلا أن تبنيه ضمن سياسات الدولة ساهم في تكريس التهميش لبقية الأقاليم، مثل دارفور، كردفان، الشرق، والنيل الأزرق. فهذه الورقة قد عززت النزعة المركزية وأعطت شرعية لسياسات الإقصاء، مما أدى إلى مزيد من الصراعات بسبب شعور تلك الأقاليم بعدم الاعتراف بها كجزء أساسي من الدولة. وأدى التركيز على مثلث حمدي إلى غياب التنمية المتوازنة، مما فاقم النزاعات وأضعف الولاء القومي وساعد في ترسيخ مفهوم السودان ذو الهوية الأحادية، متجاهلًا التنوع الثقافي والاثني.كان أحد الأسباب غير المباشرة في انفصال جنوب السودان، حيث تم تعزيز السياسات التي جعلت التنمية والاستثمار موجهين نحو المركز، مما أدى إلى تعميق الإحساس بالظلم بين الأطراف الأخرى. لذا فإن من التعقل فهم وإدراك ما يحتاجه من رؤية تنموية شاملة تعترف بجميع أجزاءه وكما قال الشاعر "كل أجزاءه لنا وطن إذ نباهي به ونفتخر"، بحيث يتم توزيع الخدمات والاستثمارات بعدالة، بدلًا من التركيز على مناطق معينة. فالنهج الذي رسخته "ورقة حمدي" لم يكن مجرد تحليل اقتصادي، بل تحول إلى أداة سياسية لصناعة التفاوت التنموي والاقتصادي، وهو ما أدى إلى تفكك الدولة بدلًا من استقرارها.
لذا فإن إنكار التعددية يعني إنكار السودان الحقيقي فالسودان ليس مجرد الخرطوم، بل هو مزيج من شعوب وثقافات متعددة، تمتد من دارفور إلى الشرق، ومن النيل الأزرق إلى أقصى الشمال. لكن الرؤية الأحادية التي تبناها أنصار المؤتمر الوطني المحلول تسعى إلى فرض تصور معين للوطنية يقوم على إقصاء الآخر، وهو ما أدى تاريخيًا إلى النزاعات المستمرة والانفصالات والصراعات المسلحة. فما الذي يعنيه انتظار الحسم في الخرطوم؟ هذا المنطق يفرض بأن السيطرة على الخرطوم هي السيطرةعلى السودان بأكمله، لكنه يغفل حقيقة أن الأطراف باتت أكثر استقلالية في قراراتها وتوجهاتها، وأن أي مشروع وطني لا يشمل الجميع سيظل هشًّا ويعرضه للانهيار. السودان الآن في حاجة ماسة إلى رؤية جديدة تتجاوز عقلية الهيمنة المركزية وتعترف بالتعددية كحقيقة لا يمكن القفز فوقها أو تجاهلها. فهل يمكن للسودان أن يتجاوز هذه الأزمة إذا استمرت هذه العقلية في السيطرة أم لا؟

د. سامر عوض حسين

samir.alawad@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی الخرطوم ما أدى

إقرأ أيضاً:

رؤية نقدية لمؤتمر لندن للقضايا الإنسانية حول السودان

د. محمد عبد الحميد أستاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية

لا ينطلقُ كاتب هذا المقال من أي موقف عدائي أو حتى متوجس نحو بريطانيا صاحبة الدعوة لمؤتمر لندن حول القضايا الإنسانية في السودان الذي عُقد في منتصف أبريل 2025م ... فالكاتب عمل ومايزال منذ العام 2013م ضمن فريق المدربين المشاركين بمنظمة RedR UK البريطانية وهي منظمة تعمل في تدريب الكوادر والأطر العاملة في الحقل الإنساني. كما أن الكاتب لا يشعر بالإنتماء النفسي أو الوجداني لمنظومة الحكم القائم الآن في السودان. وإنما يسعى لتسليط الضؤ من ناحية تخصصية لأوجه القصور التي شابت المؤتمر والدعوة له.
إن أهم ما نُركزُ عليه عادةً في تدريب الكوادر والطواقم الإنسانية في حالة أي تدخل إنساني هو عملية "تحليل السياق الكلي" للواقع الذي يُراد التدخل فيه. وذلك للتعرف على أصحاب المصلحة Stakeholders بإستخدام شكل فين Venn Diagram وهي الأداة التي تُحدد القوى أو الفاعِليّات المؤثرة والمتأثرة بعملية التدخل الإنساني إن كان مشروعاً إنسانياً أو برنامجاً تنموياً أو حتى دراسة مسحية... وتضمن هذه العملية عنصرين مهمين الأول: عدم ترك أي فاعل او صاحب مصلحة خلف المتدخلين. الثاني: مد جذور الثقة بين المتدخلين إنسانياً وأصحاب المصلحة لتحقيق أكبر فائدة مرجوة من عملية التدخل الإنساني.
إضافة لعملية تحليل السياق يتم التأكيد على الصبغة الإنسانية الخالصة لعملية التدخل والتي تحتكم في مجملها على مجموعة مبادئ وقيم يجب أن تُوضع في لُب عملية التدخل وهي الإلتزام بالمعايير الأخلاقية الأساسية لعملية التدخل الإنساني بعيداً عن المواقف السياسية أو التحيزات الفكرية أو العقائدية أو الإثنية أو ما إلى ذلك... وذلك بالتمسك الصارم بجملة قيم أهمها ما ورد في المبادئ الحاكمة للحركة الدولية لجمعيات الهلال والصليب الأحمر وهي مبادئ (الإنسانية، الحياد، عدم التحيز، الخدمة التطوعية والإستقلالية) فإذا كانت الإنسانية بشكل عام مفهومة وتقضِي أو تهدف لحماية الإنسان وحفظ كرامته، فمن الضروري التوقف سريعاً عند مبدئي الحياد وعدم التحيز... وهما المبدآن اللذان يصنعا الثقة في الفاعل الإنساني ويمهدا له ضمن إشتراطات أخرى ما يُعرف في أدبيات الإتحاد الدولي للصليب والهلال الأحمر بالوصول الآمن Safe Access... إن التَقيّدَ بجملة هذه المبادئ والإجراءات تُبعِد الفاعل الإنساني من "غُواية الموقف السياسي" وتجعله محلاً للثقة وتضمن بالتالي سلاسة التدخل وأمن المتدخلين وبلوغ عملية التدخل غاياتها وهي تقديم الخدمات الإنسانية اللازمة للمستفيدين.
يمكن القول إجمالا أن بريطانيا في دعوتها للمؤتمر لم تلتزم بكونها فاعل إنساني. فقد أهملت أصحاب المصلحة في النزاع لا سيما الحكومة السودانية بإعتبار أنها صاحبة مصلحة في عملية التدخل، وقد كان يقتضي التقيّد بمبدئي الحياد وعدم التحيز. كما كان جدير بها ألاَّ تتصرف مع حكومة السودان بموقف سياسي مُسبق حتى لو كانت الأخيرة متهمة بعرقلة عمليات الإستجابة الإنسانية... وما يُثير الدهشة أن بيان المؤتمر قد أوصى بضرورة فتح الممرات الإنسانية الآمنة لعمليات الإغاثة في المعابر وهذه توصية لا يمكن تحقيقها إلا عبر التفاهم مع أصحاب المصلحة في هذه الحالة هما الحكومة وقوات الدعم السريع. وهو الأمر الذي يفقد في المحصلة النهائية بريطانيا المصداقية في التدخل الإنساني ويؤكد طغيان الموقف السياسي على الدوافع الإنسانية.
إن قصور بريطانيا في كيفية الدعوة للمؤتمر لم تقتصر فقط على الناحية الفنية وما يرتبط بها من فقدان للمصداقية، وإنما أتبعته بقصور دبلوماسي كذلك، وهو الأمر الذي ما كان ينبغي أن يفوت على دولة عُظمى كبريطانيا صاحبة الخبرة الجمّة في المجال الدبلوماسي.
مهما يكن من شئ، فالمعروف أن عقد المؤتمرات من هذه الشاكلة يُعتبر محفلاً دبلوماسياً لا سيما وأن بريطانيا قد قصدت بأن يكون متعدد المسارات Mluti track، فقد وجهت الدعوة لِطيفٍ واسعٍ من دول جوار السودان والفاعلين الإقليميين والدوليين دولاً ومنظمات وحتى دولة الإمارات المتهمة بدعم أحد طرفي الحرب. فقد كان من المفترض أن تسعى بريطانيا لتنفيذ غايات المؤتمر عبر التفاوض والتقارب المباشر مع "الأطراف المعنية الحكومة والدعم السريع" بممارسة النفوذ عليهما إما بطرح الحوافز والمغريات، أو التلويح بالعقوبات والجزاءات كل ذلك في إطار دبلوماسي هادئ ورزين يُبيّنُ للطرفين المتنازعين ويشرحُ لهما عواقب ما قد يترتب على عدم السماح بتمرير المساعدات الإنسانية من المواقع التي يسيطران عليها في الميدان.. فقد كان جدير بالمحفل الدبلوماسي أن يكفل في نهاية الأمر وسيلة ناجعة للتواصل والتفاهم ويأخذ على طرفي الحرب ميثاقا غليظاً لمراعاة جوانب المعاناة التي تحيق بالمدنيين جراء نقص الحاجات الإنسانية. وهذا ما كاد يقوله وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي عند تأكيده بأن الحالة السودانية تتطلب (دبلوماسية صبورة)، فبرغم وجاهة هذا الطرح إلا أنه قد أُفرغ من محتواه تماماً بتغييب أطراف النزاع.. فلم تعد الدبلوماسية التي أنجزها المؤتمر سوى تظاهرة علاقات عامة جُمِعت فيها تبرعات وتعهدات والتزامات تماماً كما حدث في مؤتمر باريس في مايو من العام 2024م حيث أصبح مؤتمر لندن وكأنه deja vu لمؤتمر باريس.
ربما كان هذا القصور الدبلوماسي البريطاني ومن قبله الفرنسي مؤشران على أن الدبلوماسية الأوربية ليست في أحسن حالاتها. وأن إغفالها هذا الجانب المهم بهذه الطريقة وفي هذا الظرف الحرج الذي يموج بالتغيرات السياسية على الصعيد الدولي قد يقصي بها عن كونها فاعل قوي على الساحة السياسية السودانية ليفتح الأفق للاعبين آخرين لديهم أطماعهم ومصالحهم في منطقة القرن الأفريقي، كالصين وروسيا.
إن فشل بريطانيا ومن قبلها فرنسا الذريع في أحداث اختراق في الحالة الإنسانية في السودان عبر الدبلوماسية يؤكد صدقية رؤية ومقولة السياسي والدبلوماسي والمفكر السينغافوري كشور محبوباني بأن القرن الحادي والعشرين لم يعد غربياً وإنما آسيوياً.
د. محمد عبد الحميد

wadrajab222@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • رؤية نقدية لمؤتمر لندن للقضايا الإنسانية حول السودان
  • اللواء محمد إبراهيم الدويري: سيناء رمز السيادة وعنوان الإرادة
  • صفحة من كفاح بوليس السودان
  • الأمم المتحدة: نزوح جماعي من مخيم زمزم في السودان ويجب حماية المدنيين
  • أدوية جديدة.. أسامة حمدي: مقبلون على مرحلة أسطورية في علاج السمنة والسكر
  • الإمارات.. رؤية شاملة لإنهاء الأزمة السودانية
  • السفير السعودي يصل الخرطوم ويعلن بدء العمل على تأهيل السفارة
  • التفريط في السيادة 
  • “جانغ شيان هوا”.. رئيس مجلس السيادة يلتقي السفير الصيني
  • والي الخرطوم يعلن عن رؤية جديدة لتنظيم النشاط التجاري في بالأسواق