رمضان بين عريش القيظ وشاطئ الإسكندرية
تاريخ النشر: 24th, February 2025 GMT
د. إبراهيم بن سالم السيابي
أتذكرُ بداية عهدي بصوم شهر رمضان في أيام الصيف الحارة، وكان أهالي الحارة في فصل الصيف ينتقلون من الحارة إلى ما يُسمى "موسم عرشان القيظ" في الطويان؛ أي مزارع النخيل، من أجل الهروب من درجة الحرارة العالية إلى جو النخيل البارد؛ حيث كانت الكهرباء غائبة عن بيوت الحارة في ذلك الوقت.
حارتنا "المراغ" جاثمة بجانب البحر مع شاطئها الجميل الذي يسدي بجواره الصيادون قواربهم ومعداتهم التي يحتاجونها للصيد، فنحن حارة يمتهن أهلها مهنة الصيد منذ القدم، كانت عرشان القيظ تستظل بهامات النخيل على جانبي الطريق وترى أهل الحارة يفضون إلى الحارة وقت الليل ويعودون إلى عرشانهم وقت الصباح الباكر، فهناك عدد من الأعمال لا بد من القيام بها في الصباح مثل ما يسمى الرقاط، وهو تجميع ما يسقط من النخيل من تمور بعد أن يمر بعدة مراحل تبدأ بالخلال، البسر، الرطب، وينتهي بالتمر، وهذا العمل المضني يقوم به في الغالب الصبية، حيث يمرون على كل نخلة ويجمعون ما يتساقط منها ويضعونه في وعاء يسمى الزبيل وبعد انتهائهم من الجمع فإنهم يفرشونه بطريقة معينة فيما يسمى المسطاح؛ حيث يترك ليجف وبعدها يمر بمرحلة أخرى من الفرز لاختيار ما يصلح للأكل أو ما يسمى الكناز بينما يذهب الباقي علفًا للحيوانات.
وبالعودة إلى أيام رمضان في ذلك الزمان، كانت تحمل عبقًا خاصًا لا يمكن أن يُنسى، إذ كانت تمتلئ بالكثير من الطقوس الجميلة التي تضفي على الشهر الفضيل طابعًا مميزًا، فإنك تسمع وقت العصر صوت القارئ الراحل محمود خليل الحصري يصدح عبر أثير المذياع المعلق في الغالب في معظم العرشان؛ لكي يسمع من في المكان ومن حولهم صوت القرآن، بينما ربات البيوت يقمن بإعداد الفطور ورائحة الطعام الزكية تُنعش الأنوف.
كان الصوم في جو الصيف الحار يصعب على من هم صغار السن ولكن كان الأهل يشجعونهم، ويشدون من أزرهم وتراهم يتسابقون عند الفطور على شرب الماء البارد من حافظات الماء المملؤة بالثلج الذي يتم شراؤه من السوق من السيارات الخاصة ببيع الثلج، حيث لا توجد في ذلك الوقت أي مبردات للماء إلا في قليل من البيوت والتي تعمل بالوقود في ظل غياب الكهرباء الحكومية.
الإفطار رغم تواضعه في ذلك الحين ولكن ترى أصناف الطعام تتشابه في معظم البيوت؛ حيث كانوا يتقاسمونه فيما بينهم ويضربون أروع المثل في التكافل والتعاضد.
أصوات القراء تصدح بالتراويح وتختم بدعاء صلاة التراويح التقليدي، وكان الليل مظلمًا؛ حيث يشهد غياب الكهرباء الحكومية في ذلك الوقت، ولكن كانت مسلسلات رمضان تشاهد عبر التلفاز الأبيض والأسود والتي تعمل ببطارية السيارات والتي تُشحن فقط في المحلات في سوق ولاية بركاء القديم.
الليالي كانت مليئة بالفرح والأمل، وكان الجميع يشعرون بروحانية خاصة تنبع من التزامهم بالتقوى والعبادة، كانت تلك الأيام بسيطة، ولكنها مليئة بالدفء العائلي والتواصل الاجتماعي، مما جعل رمضان في الماضي يعكس معنى حقيقيا للجماعة والمشاركة.
مرت السنون وتدخلت الطبيعة وتغيراتها القاسية، فسقطت هامات النخيل الواحدة تلو الأخرى ولم يعد سعفها يغطي تلك المساحات الشاسعة الخضراء الممتدة من الحارة إلى ما يعرف بالطويان، ورحل عن عالمنا وغاب عن موائدنا الكثير من الأحبة لتبقى ذكرياتهم في القلوب ومحبتهم لا تنسى.
أما عن ليالي رمضان في مدينة الإسكندرية بمصر، وذكريات الدراسة الجامعية، ففي تلك الليالي، يعم السكون أرجاء الإسكندرية وتنعكس أضواء الفوانيس على الجدران، وتتزين الشوارع والأزقة بالأضواء وتُملأ بأجواء روحانية عميقة، ورائحة الطعام الرمضاني العابق في الهواء، ومنتجات واحتياجات رمضان تعم أسواق المدينة، وخاصة القديمة منها، بينما الليل في تلك المدينة كان بمثابة لحظة تأمل وطمأنينة، ويلتقط صوت القراء في الجوامع لصلاة التراويح أصداءه بين الأزقة الضيقة، بينما محطة الرمل تعج بالمارة حتى منتصف الليل يضيء القمر البحر بأشعته الفضية.
أما عن ليالي أحياء القاهرة القديمة، مثل الحسين والسيدة زينب، فيكتسي الليل بطابع خاص وسحر خاص، تتناثر الفوانيس على مداخل البيوت القديمة، وتنبعث منها أضواء ملونة تضيء الشوارع الضيقة؛ فالأسواق تكون مكتظة بالناس، ولكن دون ضجيج؛ فقط أصوات الخطوات المتسارعة لتكتمل عند جامع الحسين الذي يمتلئ إلى اخره بالمصلين والزائرين، وتملأ الأفق في هذه الأحياء القديمة برائحة "القطايف" و"الكنافة" تطوف في الأجواء، فتلك اللمسة الروحية التي تضفيها الأماكن العتيقة تجعل كل زاوية تعكس سحر رمضان بكل تفاصيله في هذه الأحياء الخالدة.
ختامًا.. يأتي رمضان هذا العام بعد انتصار أهل غزة وصمودهم الباسل ضد المعتدين، ليُضيء الشهر الفضيل بفرحة وأمل جديد وغزة لهذه الأمة التي لو تمسكت بحبل الله فإنها لن تغلب.
"اللهم بلغنا رمضان لا فاقدين ولا مفقودين، ونحن في أتم الصحة وراحة البال، واجعله خاتمة لخطايانا وأعنا على ذكرك وحسن عبادتك".
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ليس المهم كيف تنشر.. ولكن كيف تكتب؟!
د. أحمد بن علي العمري
لقد أصبحت الكتابة مُيسَّرة ومتاحة للجميع وكذلك تسهلت عمليات النشر؛ فالكل يكتب والكل ينشر، والآخرون يصورون فيديوهات ويحكون سيناريوهات، وهناك من يكتب المقال وهناك من يكتب حتى الكتاب ومن يُبدي رأيه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هذا إضافة لمن يحاضر ويقيم المؤتمرات والندوات عبر العالم سواء كان ذلك حضوريًا أو عبر الاتصال الإلكتروني، ويكاد أن يتساوى المُلقون والمُتلقِّين؛ فالجميع يشارك كلا حسب مستواه ومقدرته وإمكانياته المتعلم وغير المتعلم والكبير والصغير والذكر والأنثى.
وقد بلغ السيل الزبى عند بعض الكتاب دون التحقق من المفيد والغث والسمين والهزيل والجيد والضعيف، وكل له متابعيه ومحبيه ومعجبيه وحتى المدافعين عنه.
لكن ماذا عن الفكرة والمضمون والمحتوى وهذا هو الجوهر ولب الموضوع وبيت القصيد؛ فجودة الكتابة أهم بكثير من نشرها؛ حيث إنَّ المحتوى الأساسي كالفكرة والأسلوب والعمق هو المرتكز بينما الشكل كالتوزيع والمنصات والتسويق تبقى أمورًا ثانوية.
ومن الضروري التأكيد على الأولوية؛ إذ إن الكتابة القوية هي العمود الفقري لأي عمل أدبي أو فكري وبدونها يفتقد الموضوع تأثيره بغض النظر عن قنوات النشر.
وفي هذا العصر الرقمي أو ما يسمى بعصر الذكاء الاصطناعي، يمكن لاستراتيجيات النشر توسيع وتسريع الوصول لكنها لا تعوض عن ضعف المحتوى، ومثال على ذلك منشورات التواصل الاجتماعي الفيروسية التي تفتقر إلى العمق تختفي بسرعة من كل منصة؛ سواءً كانت كتباً أو مدونات أو مقالات أو حتى تغريدات تتطلب أسلوبًا مختلفًا لكن الجوهر يجب أن يبقى أصيلا وقويًا.
في السياق العربي؛ حيث البلاغة والأدب لهما مكانة عالية، ويتضح التركيز على جودة الكتابة أكثر إلحاحًا لأن الكتابة القوية تحترم القارئ وتترك أثرا طويل الأمد.
مثال على ذلك "ألف ليلة وليلة" بقيت آثارها إلى يومنا هذا، رغم تغير طرق النشر عبر القرون. وفي عصرنا هذا كتاب ناجحون على المنصات مثل مدونة أو (Medium) يعتمدون عمق الأفكار أكثر من الترويج، وعليه فإن النتيجة الحتمية والمؤكدة تقول: المحتوى أولًا ثم النشر.
ولهذا فإنني أوصي نفسي وأوصي الجميع أن نستثمر الوقت في تطوير الحرفة الأدبية وأن نستخدم أدوات النشر كوسيلة لا كغاية؛ لأن الكتابة الحقة هي الأساس الذي تبنى عليه جميع أشكال النشر مهما تطورت المنصات.
إن التأثير الحقيقي يظل نابعًا من قدرة الكلمات على لمس العقل والقلب معًا والنشر الذكي يوسع دائرة الوصول لكنه لا يخلق المعنى من العدم. لهذا اجعل دائمًا قلمك صادقًا وسوف تجد طريقك إلى القارئ، حتى لو بدأت من زاوية صغيرة في هذا العالم المترامي الأطراف.
وفي كل الأحوال يجب المراعاة والتقيد والالتزام بالخطوط الحمر أكانت دينية أو وطنية أو اجتماعية.
ولكل ما سبق نؤكد أنه: ليس المهم كيف تنشر؛ بل المهم كيف تكتب؟
حفظ الله عُمان وسلطانها وشعبها. وكل عام والجميع بألف خيرٍ ومسرة.
رابط مختصر