القلاع والحصون.. نحو استثمار يحفظ الهوية
تاريخ النشر: 24th, February 2025 GMT
د. سالم بن عبدالله العامري
لطالما كنتُ مفتونًا بعظمة القلاع والحصون وشغوفا بالبحث عن المعاني العميقة لهذه المعالم التاريخية التي قد تبدو للبعض مجرد مبانٍ حجرية شامخة، لكنها في الحقيقة هي أكثر من ذلك؛ بل هي شواهد حية على عصور من الصراع والمجد وفصول من التاريخ تحكي قصص البطولات والتحديات التي مرت بها الشعوب عبر الأزمان، وعندما سنحت لي الفرصة للقيام بجولة لاكتشاف بعضٍ من هذه المعالم، شعرت وكأنني أسافر عبر الزمن، أتنقل بين جدرانٍ حملت أسرار العصور الماضية، وأبراجٍ شهدت ملاحم لا تزال أصداؤها تتردد حتى اليوم.
في جولة فريدة بين القلاع والحصون العُمانية، وجدت نفسي أمام شواهد تحكي قصص المجد والدفاع، وأيضًا أمام مشاريع استثمارية حديثة تعيد لهذه الصروح دورها ورونقها، لكن بأسلوب يتماشى مع متطلبات العصر.. من قلعة نزوى وحارة العقر، إلى قلعة مطرح والميراني، اكتشفت كيف تحولت هذه القلاع إلى وجهات سياحية تجذب الزوار من جميع أنحاء العالم؟ كيف تساهم هذه الاستثمارات في إبراز التراث العُماني؟ وما أثرها على السياحة والاقتصاد؟ وكيف يمكن لهذه الاستثمارات أن توازن بين الحفاظ على التراث وتحقيق الفوائد؟ أسئلة سأحاول استكشافها في هذا المقال.
لقد تنامى الاهتمام بموضوع القلاع والحصون في العصر الحديث، وقد أثمر هذا الاهتمام في استغلال القلاع والحصون سياحيا وتنشيطها للحركة السياحية، فأصبحت إحدى المقاصد التي جذبت السائحين خصوصا الوافدين، فقد أشارت دراسة محلية ركزت على تقييم أثر تطوير القلاع والحصون على السياحة الوافدة إلى سلطنة عُمان نتيجة أعمال التوظيف السياحي التي قامت بتنفيذها وزارة التراث والسياحة للقلاع والحصون والتي أنيطت لها مؤخرًا مسؤولية توظيفها سياحيا وتحويلها إلى مقاصد سياحية، حيث خرجت الدراسة بعدة نتائج أبرزها الدور الإيجابي للتوظيف السياحي للقلاع والحصون في جذب السياحة الوافدة، حيث انعكس هذا الدور في رفع أعداد السائحين الوافدين إلى القلاع والحصون التي تم توظيفها سياحيا، أما القلاع والحصون التي لم يتم توظيفها سياحيا بعد فكانت أعداد السائحين الوافدين إليها أقل مقارنة بالقلاع والحصون التي تم توظيفها سياحيًا.
إنَّ تحويل هذه الشواهد التاريخية والأثرية إلى مزارات ثقافية ووجهات سياحية يتعرف من خلالها الزائر على مكنونات التاريخ العُماني وما تتميز به هذه الآثار التاريخية من طابع معماري بديع إضافة إلى التعريف بالمناطق المحيطة بها وما تكتنزه من معالم تاريخية فريدة كالأفلاج، والأبراج، والأسوار، والحارات، والحرف التقليدية وتحويل بعض هذه المكنونات التراثية إلى فرص استثمارية كمعارض ثقافية أو تجارية، أو نُزل تراثية، أو مقاهي صغيرة تقوم بتوفير بعض الخدمات الضرورية في مختلف المرافق لتلبية متطلبات واحتياجات الزوار، تُعد خطوة ناجحة لتعزيز الاستثمارات السياحية والتراثية، ومواكبة تنامي الحركة السياحية في البلاد، والاستفادة من المقومات السياحية التي تزخر بها سلطنة عُمان.
هذه المشاريع الاستثمارية التي من خلالها سعت وزارة التراث والسياحة إلى استثمار القلاع والحصون لتدعيم النشاط الثقافي وإثراء الحراك السياحي نحو هذه القلاع والحصون والمواقع الأثرية المختلفة تُعد بلا شك تجربة استثمارية فريدة تضيف رونقا تاريخيا وثقافيا وفنيا على هذه المواقع وتضفي عليها لمسات عصرية تجمع بتناغم بين عبق التراث وروح العصر مع الأخذ بكافة متطلبات الأمن والسلامة في كل موقع دون المساس بهويته وقيمته التاريخية، وقد أثمر هذا الاهتمام باستثمار القلاع والحصون، رفعَ الوعي المجتمعي بالأهمية الحضارية والاقتصادية لتلك القلاع والحصون، واستفاد المجتمع المحلي من الإيرادات التي ترتبت عن الاستثمار في هذه المواقع التراثية والحفاظ عليها. ومن هذا المنطلق، فإن القلاع والحصون بإمكانها أن تلعب دورا أساسيا كأحد عناصر الجذب السياحي على أن تتوفر بكل موقع عناصر جذب والتي تجعل من الموقع مكانا جاذبا للسائحين تتوافر فيه كافة المرافق الخدمية التي تلبي متطلبات الزائر، شريطة الحفاظ كما أسلفنا سابقًا على أصالة الموقع.
لقد أصبح من الأهمية بمكان أن تزداد أهمية الاستثمار في مثل هذه المواقع وعلى الشركات الصغيرة والمتوسطة الاستفادة من الفرص المتاحة اليوم، لأن كثير من هذه الفرص قد لا تتاح في المستقبل، خاصة وأن سلطنة عُمان مقبلة على نمو سياحي كبير خلال العقود المقبلة والذي يتوقع أن تكون السلطنة على خارطة مصاف الدول المنافسة عالميا كوجهة سياحية واعدة كونها بلد بكر وثري بمقوماته السياحية والثقافية والتاريخية، قائم على التنويع الاقتصادي المبني على المعرفة والتقنية والإبداع.
ختامًا.. نأمل أن تستمر مثل هذه النجاحات نحو فتح المزيد من الفرص الاستثمارية لإدارة وتوظيف العديد من المعالم التاريخية واسنادها لشركات ومؤسسات محلية من أجل مواكبة تنامي الحركة السياحية في البلاد توظيفًا للتراث الثقافي وتعزيزًا لمساهمته في النمو الاقتصادي. لم يكن هذا مجرد اهتمام عابر؛ بل رحلة من التساؤلات التي قادتني إلى البحث، والاكتشاف، ثم الرغبة في مشاركة ما توصلت إليه.
دُمتم بود.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
بازار ليما يعكس روح الحرفة وأصالتها ويدعم التنمية السياحية
شهد "بازار ليما" في نسخته الأولى، ضمن فعاليات وبرامج "الشتاء مسندم"، إقبالًا واسعًا من الزوار، حيث جمع بين الثقافة والتراث والفنون التي تميز المنطقة، وتضمن الحدث مجموعة متنوعة من الفعاليات، شملت عروض الفنون الشعبية الحية، والمسابقات الثقافية، والأنشطة الترفيهية والرياضية، بهدف تعزيز التبادل الثقافي ودعم الحرفيين ورواد الأعمال المحليين وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة، مما يسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.
وضم البازار جدولًا حافلًا بالأنشطة التي تلائم مختلف الأعمار والفئات، متيحًا تجارب تفاعلية حية، من بينها برامج الطهي التي تسلط الضوء على المطبخ المحلي، وحلقات عمل في الصناعات الحرفية التقليدية التي تشتهر بها محافظة مسندم، مثل صناعة عصا الجرز، والسعفيات، والمجامر، كما تميزت الفعالية بمسابقات حماسية، مثل فن اليولة واللعب بالسيف، وهي من الفنون الشعبية التي لا تزال تحظى بمكانة بارزة في المناسبات والاحتفالات، حيث أتيح للزوار فرصة استكشاف العادات والتقاليد القديمة في رحلة تاريخية تحاكي الزمن الماضي.
وتأتي هذه الفعاليات ضمن الجهود المستمرة لتعزيز مكانة محافظة مسندم كوجهة سياحية متميزة، وإيجاد فرص للتواصل الثقافي بين الزوار من مختلف أنحاء العالم.
وقال سعادة الشيخ عبدالعزيز بن أحمد الهوم المياس، والي دبا: إن ما شاهدناه من عروض متنوعة وبرامج تراثية ثقافية ومشاركات من مختلف فئات المجتمع دليل على نجاح مثل هذه البرامج والأنشطة في جمع الناس ونشر الثقافة وتأصيل الموروث الحضاري. كما أن "بازار ليما"، وما تضمنه من أركان، يتيح الفرصة للزائر والسائح للتعرف على أهم مفردات الثقافة والعادات والتقاليد التي تتميز بها النيابة، وهذا ما عودنا عليه برنامج "الشتاء مسندم"، الذي يعد من البرامج الترويجية الرائجة للسياحة في المحافظة، والذي يتنقل بفعالياته وبرامجه الجاذبة في مختلف ولايات المحافظة ليكون أكثر شمولًا وتنوعًا.
من جانبه، أكد نائب والي خصب بنيابة ليما أن "بازار ليما" شكّل فرصة لتنمية المشاريع المنزلية التي تميز المنطقة، حيث ضم مجموعة متنوعة من الصناعات الحرفية، والمأكولات المحلية والعالمية، والهدايا، والعطور، واللوحات الفنية وغيرها، كما يُعد البازار واجهة سياحية تعكس تفرد النيابة، مسلطًا الضوء على مقوماتها الاقتصادية والسياحية الواعدة، ومسهمًا في إبراز موروثها التقليدي من الفنون الشعبية والصناعات الحرفية.
احتفاء بالتراث
وأوضح عبدالله بن أحمد الشحي، رئيس المكتب المساعد ورئيس لجنة التنسيق والمتابعة لموسم "الشتاء مسندم"، أن "بازار ليما" يهدف إلى الترويج للثقافة والتراث المحلي الفريد في المحافظة عمومًا، ونيابة ليما خصوصًا، نظرًا لما تحمله من تاريخ عريق، كما يسعى إلى تسليط الضوء على مفردات التراث والهوية الثقافية من خلال عروض حية للحرف اليدوية والفنون التقليدية، إلى جانب تنشيط الحركة السياحية والاقتصادية ودعم رواد الأعمال من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
وأكد أن البازار لم يكن مجرد فعالية ترويجية، بل كان منصة لإشراك المجتمع المحلي وأبناء النيابة، عبر دعم المنظمين والمشاركين من الباحثين عن عمل والأسر المنتجة، مضيفًا إن الجهود المبذولة هدفت إلى تقديم تجربة حية ومثرية تلبي تطلعات المواطنين والمقيمين والزوار، للاستمتاع بالأجواء الشتوية والفعاليات المتنوعة.
كما أكد الدكتور يوسف بن عبدالله الشحي أن استضافة إحدى محطات "الشتاء مسندم" في النيابة أدخلت البهجة على الجميع، صغارًا وكبارًا، ورسمت الابتسامة على الوجوه، خاصة لدى الأطفال، كما شكلت الفعالية متنفسًا رائعًا وسط الطبيعة الخلابة، حيث الجبال الشامخة والبحر الممتد، فتحولت النيابة إلى ساحة اجتماعية نابضة بالحياة وسوق مزدهر، مما أتاح للأسر فرصة لعرض منتجاتها وتعليم الأبناء مبادئ البيع والشراء وأهمية التجارة، كما استقطب "بازار ليما" اهتمامًا واسعًا بفضل التغطية الإعلامية عبر الوسائل المرئية والمسموعة ومنصات التواصل الاجتماعي، مسلطًا الضوء على جمال النيابة وتفرد بيئتها الطبيعية.
من جهته، أشاد محمد بن علي العقبي، عضو المجلس البلدي بولاية دبا، بتألق نيابة ليما، الجوهرة الساحلية لمحافظة مسندم، خلال افتتاح "بازار ليما"، الذي جاء في أجواء احتفالية زاخرة بالإبداع والتراث، وأكد أن الحدث لم يكن مجرد سوق تقليدي، بل مهرجان ثقافي يعكس روح الأصالة العُمانية، متناغمًا مع تطلعات "رؤية عُمان 2040"، التي تهدف إلى تعزيز الهوية الوطنية، ودعم الصناعات الحرفية، وتمكين المجتمعات المحلية من خلال التنمية المستدامة.
وأضاف: إن نجاح البازار يؤكد المكانة المتنامية لمحافظة مسندم على خارطة السياحة والثقافة العُمانية، حيث يجسد هذا الحدث لقاء الماضي بالحاضر في صورة تنموية مشرقة، لافتًا إلى أن الفعالية توفر فرصًا لأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لعرض منتجاتهم وخدماتهم، مما يسهم في زيادة دخلهم وتوسيع أعمالهم، إضافة إلى إيجاد فرص عمل مؤقتة ودائمة للشباب في قطاعات السياحة والضيافة والتجارة.
تجربة استثنائية
من جانبها، قالت فاطمة بنت سالم بن علي الشحية: إن "بازار ليما" كان تجربة استثنائية تعكس روح الحرفة وأصالتها، ولمسته عن قرب بصفتي حرفية ومنظمة لمجموعة من الحرفيين، ورأيت الجهود تتحول إلى لوحات فنية تنبض بالتراث، حيث تحمل كل قطعة قصة تُروى عبر أنامل مبدعة، ولم يكن الحدث مجرد عرض للفخاريات والسعفيات والمجامر، بل كان لقاءً يجمع الحرفيين بالجمهور، حيث تفاعل الزوار مع الأعمال بإعجاب، وبحثوا عن التفاصيل التي تمنح كل منتج هويته الخاصة، وأكثر ما أسعدني هو رؤية الشغف في عيون الحرفيين والعمل المتقن الذي يعكس إيمانهم بالحرفة كرسالة قبل أن تكون مهنة، ومثل هذه الفعاليات ليست مجرد مناسبات عابرة، بل حاجة ملحة للحفاظ على التراث ودعم الحرفيين ليواصلوا الإبداع ويمنحوا الحرفة حضورًا يليق بها في المستقبل.
وقالت سهيلة القيشية: شاركتُ في "بازار ليما" كصاحبة مشروع "الفخامة للكيك والحلويات"، وكانت التجربة أكثر من رائعة، حيث كان الحدث منظمًا بشكل جيد، واستقطب عددًا كبيرًا من الزوار الذين أبدوا اهتمامًا كبيرًا، وما أعجبني حقًا هو الأجواء والتفاعل المباشر مع رواد البازار، حيث تمكنتُ من تقديم منتجاتي والتعريف بها بشكل أفضل، وتلقيت الكثير من التعليقات الإيجابية، وبكل تأكيد، سأحرص على المشاركة في المهرجانات القادمة، وأوصي أي صاحب مشروع بالحضور والمشاركة، فهي تجربة تضيف الكثير لأي مشروع.
وأكد عدد من أبناء نيابة ليما أن فعاليات وبرامج "الشتاء مسندم"، وخاصة في نيابة ليما، تمثل حدثًا مهمًا يسهم في تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز مكانة المنطقة كوجهة سياحية مميزة، وأشاروا إلى أن هذه الفعاليات تحمل العديد من الفوائد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث تسهم في تنشيط السياحة والاقتصاد المحلي من خلال استقطاب أعداد كبيرة من الزوار من داخل سلطنة عمان وخارجها، مما يعزز الحركة السياحية في المنطقة.