مصطفى الشيمي يكتب: مهندس حُر
تاريخ النشر: 24th, February 2025 GMT
كانت سيارتي معطلة ذلك الصباح، فقررتُ أن أستقل المواصلات العامة للوصول إلى عملي. لم أكن معتادًا على هذا، لكنه بدا كخيار اضطراري. عند أول محطة، وجدت سائقًا بسيطًا، يقود سيارة قديمة بعض الشيء، وعرض أن يقلّني مباشرة إلى المعادي. كان هذا أفضل من التنقل عبر أربع مواصلات مختلفة، فركبت معه شاكرًا.
مع انطلاقنا، بدأ بتحميل ركاب آخرين متجهين إلى التجمع.
بعد أن أنزل الركاب في وجهتهم، دعاني للجلوس بجانبه. كان رجلاً في منتصف العمر، قسمات وجهه تحكي قصصًا لم يروها بعد، وعيناه تحملان شيئًا من الإرهاق الممزوج بالإصرار. بدأ يحكي عن حياته؛ لديه أربع بنات، يعمل ليلًا ونهارًا ليؤمّن لهن حياة كريمة. قالها بنبرة فخر رغم التعب الذي يتخلل صوته. لم يشتكِ بقدر ما كان يبوح، وكأنه يبحث عن مساحة في هذا العالم الصاخب ليُسمع.
في منتصف الطريق، قاطعتنا سيارة مسرعة، وصاح أحد الركاب في وجهه بعصبية: " يالله يا أسطى، سرع شوية مش فاضيين " نظر إليه عبر المرآة، ثم زاد السرعة قليلًا وقال بصوت هادئ لكن حاسم : "حقك عليّ ، آسف لو أخرتك"
ثم التفت إليّ، أخرج بطاقته ومدّها لي بصمت. نظرت إليها، كان مكتوبًا في ظهرها: "مهندس ميكانيكا". رفع عينيه نحوي وقال بصوت بالكاد سمعته: "أنا مهندس ميكانيكا حُر ، لكن الظروف أقوى من الجميع و الرزق بأيد ربنا ، وأي شغل بالحلال فيه كرامة."
كانت لحظة صمت ثقيلة. شعرتُ بالصدمة، ليس فقط لأنني لم أتوقع ذلك، بل لأنني أدركت كم كنت متسرعًا في افتراضاتي عنه. كم من الأشخاص نراهم كل يوم، فنظن أننا نعرفهم، بينما يحمل كل منهم قصة لا تشبه الأخرى؟ نظرت إليه باحترام جديد، ورأيت فيه إنسانًا يصارع الحياة بشرف.
في نهاية الرحلة، نزلت وأنا أشعر أنني تعلمت درسًا لن أنساه : لا تحكم على كتاب من غلافه، ولا على إنسان من مهنته، فخلف كل وجه قصة، وخلف كل قصة كفاح لا نراه. رأيت في عينيه حكايات لم تحكَ بعد، نظراته كانت تحمل صمتًا مثقلًا بالهموم، لكنه لم يكن مجرد استسلام، بل كان صبرًا محمّلًا بالإرادة. وبينما كنت أبتعد، رأيت انعكاس صورته على نافذة السيارة، لم يعد مجرد سائق، بل صار رمزًا لصراع الإنسان مع الحياة، و لكرامة لم تنحنِ رغم قسوة الظروف ، لعزيمة تأبى أن تنهار رغم كل شيء. شعرت لحظتها بأن العالم مليء بقصص كهذه ، قصص تمر بجوارنا كل يوم دون أن نلتفت إليها، لكنها تستحق أن تُروى.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: مهندس ميكانيكا المزيد
إقرأ أيضاً:
إبراهيم الشاذلي يكتب: رقم لم ينتبه له أحد
رقم صادم لم ينتبه له أحد.. كيف أنفقت مصر 550 مليار دولار دون أن تغرق في الديون؟
في زمنٍ تتكرر فيه أحاديث القلق من تصاعد حجم الديون، مرّ تصريح بالغ الأهمية مرور الكرام، دون أن يلتفت له كثيرون، رغم أن ما فيه من أرقام كفيل بأن يعيد ترتيب أسئلة الرأي العام ويغير زوايا النظر.
في لقاء جمع الرئيس عبد الفتاح السيسي بعدد من رجال الأعمال القطريين في الدوحة، كشف وزير الاستثمار المصري عن رقم ضخم تم إنفاقه على مشروعات البنية التحتية خلال العقد الأخير: 550 مليار دولار. نعم، أكثر من نصف تريليون دولار صُرفت خلال عشر سنوات فقط، لتشييد شبكة طرق جديدة، وتطوير الموانئ، وإنشاء مدن عمرانية متكاملة، وغيرها من مشروعات التأسيس التي لا تُبنى الدول بدونها.
ولعل اللافت هنا ليس حجم الإنفاق فقط، بل أن يتم كل ذلك بينما يبقى الدين الخارجي لمصر في حدود 155 مليار دولار. أي أن الدولة المصرية أنجزت بنية تحتية عملاقة دون أن تصل ديونها حتى إلى ثلث ما تم استثماره.
دعنا نفكك الرقم قليلًا:
550 مليار دولار في عشر سنوات تعني 55 مليار سنويًا.
أي نحو 4.6 مليار شهريًا.
بما يعادل أكثر من 150 مليون دولار يوميًا.
كل هذه الأرقام تصرف يومًا بعد يوم، في بلد يعاني من شُح الموارد الطبيعية، ولا يملك فوائض نفطية أو احتياطيات ضخمة من النقد الأجنبي. ومع ذلك، لم تنهك هذه المشروعات جسد الدولة، بل بنت لها عصبًا اقتصاديًا قادرًا على استيعاب الاستثمارات الصناعية والزراعية والسياحية، وتهيئة مناخ جاذب لرؤوس الأموال.
في ظل تلك المعطيات، يبدو أن السؤال الذي يُطرح كثيرًا "لماذا تراكمت الديون؟" بحاجة إلى إعادة نظر. فالسؤال الأصدق الآن هو: "كيف استطاعت مصر إنجاز كل هذا بحجم ديون خارجي لا يتجاوز 155 مليار دولار؟"
حين تنظر إلى المشهد بهذه الزاوية، تدرك أن ما تحقق لم يكن مجرد اقتراض، بل استثمار طويل الأمد في قدرة الدولة على النمو والتوسع، في اقتصاد يُبنى على أرض صلبة، لا على أوراق مؤقتة.