ورد في الميثاق الذي وقعته القوى المشاركة في دعم قوات الدعم السريع أمس، 22 فبراير 2025، التزامها بإنشاء نظام مصرفي قائم على النظام التقليدي في النقطة 28 من الديباجة ، وهو ما يذكّر بتجربة اتفاق السلام الشامل لعام 2005. ففي البند (14) من بروتوكول قسمة الثروة - نيفاشا، تم النص على تطبيق نظام مصرفي مزدوج، بحيث يكون إسلاميًا في الشمال وتقليديًا في الجنوب.

ومع انفصال الجنوب، تم تجميد هذا البند المتعلق بقسمة الثروة والسلطة.
خلال الفترة الانتقالية، أُجيز قانون النظام المصرفي المزدوج مرة أخرى في عهد رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك نهاية 2020. ومع ذلك، واجه تطبيقه تحديات عديدة، أبرزها عدم جاهزية المصارف المحلية ومتطلبات العمل بالنظام الجديد، وقد طلب وقتها من القطاع المصرفي تقديم رؤيته أيضًا، إضافة إلى انقطاع التواصل مع المؤسسات المالية الدولية. وكان أحد أهم العقبات هو عدم استكمال قانون بنك السودان، الذي كان سيضمن استقلالية البنك المركزي، مما أدى إلى تجميد المشروع.

من الناحية الفنية، فإن عملية التحول إلى نظام مصرفي تقليدي تعد معقدة للغاية وتحتاج إلى فترة زمنية طويلة لتقييمها وتنفيذها بصورة سليمة. خلال الفترة الانتقالية، واجهتنا صعوبات حقيقية، حيث إن هذه الخطوة تأتي لاحقًا بعد عملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي والتوجه إلى رسملة المصارف، كما أن عدم اكتمال مشروع إصلاح القطاع المصرفي والمالي زاد من تعقيد التنفيذ وأدى إلى تحديات فنية وتنظيمية كبيرة. التعقيد في إنشاء نظام مصرفي تقليدي لا يقتصر فقط على التحول من النظام الإسلامي إلى التقليدي، بل يمتد ليشمل مدى الحاجة إلى هذا النظام، وجدوى تطبيقه، ومدى جاهزية البنية التحتية المصرفية لاستيعابه، بالإضافة إلى الفئات المستهدفة التي سيتعامل معها هذا النظام الجديد.
في ظل الظروف الحالية للاقتصاد السوداني (حالة الحرب) ، التي تتسم بعدم وضوح الرؤية وعدم الاستقرار، بما في ذلك تقلبات أسعار الصرف والارتفاع المستمر في الأسعار، يصبح تطبيق النظام المصرفي التقليدي غير عملي، فضلًا عن كونه غير ملائم كآلية لإدارة السياسة النقدية , فالنظام التقليدي يعتمد على مرتكزات أساسية، مثل استقرار أسعار الصرف ومستويات تضخم منخفضة أو معقولة، وهي مقومات غائبة في الاقتصاد السوداني الحالي في حالة الحرب، ناهيك عن وضعية الانفصال الاداري. في المقابل، يتمتع النظام الإسلامي بمرونة أكبر في ظل هذه التحديات، نظرًا لاعتماده على أدوات مالية تتناسب مع اقتصاد غير مستقر، كما هو الحال في مناطق دارفور التي تعاني من مشاكل في الإمداد والزراعة والواردات، مما يجعل الحاجة إلى أدوات مالية مرنة أكثر أهمية لمواجهة هذه التحديات الهيكلية.
ولتوضيح ذلك كمثال صغير ايضاً ، يعتمد البنك المركزي في النظام التقليدي على أدوات السياسة النقدية، مثل إصدار سندات الخزانة التقليدية كوسيلة للتحكم في الكتلة النقدية. ولكن، مع التضخم المرتفع الذي يشهده السودان، تصبح هذه السندات غير مجدية للمستثمرين، إذ لا يمكنهم تحقيق عوائد حقيقية في ظل ارتفاع أسعار السلع والخدمات بمعدلات تفوق العائدات المتوقعة. فعلى سبيل المثال، إذا كان معدل التضخم يفوق مائة بالمائة، فإن إصدار سندات حكومية بأسعار فائدة تقليدية سيكون عديم الجدوى، حيث لن يكون هناك دافع اقتصادي للاستثمار فيها، مما يعطل فعالية السياسة النقدية التقليدية تمامًا.
كمثال بسيط بدون استفاضة، ومن الناحية المصرفية المهنية، فإن أحد الإشكالات الأساسية التي يواجهها النظام التقليدي تكمن في التمويل، حيث يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع المخاطر وضعف الضمانات. معظم المزارعين لا يملكون عقارات أو ودائع لتأمين القروض، مما يجعل الحصول على التمويل أكثر صعوبة، إلى جانب طول دورة الإنتاج وارتفاع أسعار الفوائد، مما قد يعيق عملية التنمية الزراعية. في حالة مثل دارفور، لا يمكن الاعتماد على هذا النموذج بسبب البنية الهيكلية للقطاعات الاقتصادية هناك، وطبيعة التمويلات الممنوحة. على العكس، تحتاج دارفور إلى حلول أكثر مرونة مثل التمويل الإسلامي المرن، الضمانات الحكومية، التأمين الزراعي، تطوير التكنولوجيا المالية، وإنشاء وكالات ضمان تعالج قضايا التعثر في سداد التمويل، إلى جانب تطبيق الصيغ التمويلية المناسبة لطبيعة الأنشطة الاقتصادية المتاحة.
أما اليوم، وبعد توقيع الميثاق السياسي في نيروبي، تبرز إشارات أولية حول توجه القوى السياسية الداعمة للدعم السريع نحو استكمال مشروع النظام المصرفي التقليدي. غير أن هذا المشروع يبدو ذا أهداف سياسية أكثر منه اقتصادية. فالقائمون على صياغة هذه الرؤية يتجاوزون المحيط المباشر لحميدتي، إذ إن هناك جهات أكبر من الدائرة المحيطة به هي التي أعطت الضوء الأخضر لإنشاء هذا النظام ووضعت له الأطر التنظيرية. فكيف يمكن إنشاء نظام تقليدي دون ترك الأمر للمصارف نفسها، وهي الجهات الفاعلة في قضايا اجتذاب الودائع وتحديد طرق التمويل؟ الحكومة هي الحديثة، بينما النظام المصرفي هو الأقدم، وليد دراسات ورؤى خاصة بوضع دارفور فيما يتعلق بالتنمية.
ومن اللافت أن هذه الرؤية قد صُمّمت بعد ضمانات لبعض البنوك الأجنبية، خصوصًا الإفريقية القريبة، والتي يُسمح لها بفتح نوافذ مصرفية محدودة في المدن الكبرى التي يسيطر عليها الدعم السريع، بدلاً من فروع تعمل بكامل طاقتها التشغيلية. كما من المتوقع أن يتم الإبقاء على عمليات المعاملات المصرفية عبر الإنترنت لضمان استمرار النشاط المالي في ظل الأوضاع الراهنة.
لا أظن أن فكرة الحرب نفسها يمكن عبرها إنشاء بنك مركزي يدير نظامًا تقليديًا في مناطق الدعم السريع يعمل في بناء ورقابة وتنمية نظام مصرفي، ولا أعتقد أن الدعم السريع لديه الثقة الكافية ليقوم بإيداع أمواله في بنك هذه الحكومة، سواء كان ذلك كجيش تابع لهذه المؤسسات أو حتى كشركات قطاع خاص تودع أموالها في النظام المصرفي هناك. بل ستكون عملية اجتذاب ودائع أهالي المناطق محفوفة بالمخاطر وعدم الثقة، مما يجعل المصارف عرضة لانعدام الاستقرار المالي. في المقابل، سيحتفظ الدعم السريع والحركات المسلحة بأموالهم خارج النظام المصرفي المحلي لإدارة عمليات المشتريات والمضاربة في الأسواق، مما يجعل البنك المركزي المقترح مجرد (كيان إجرائي) يصدر المناشير وينظم اقتصادًا عشوائيًا في ظل حدود مفتوحة تحفز عمليات التهريب، حيث تكثر تجارة السوق الموازية وعمليات النهب، مما يعكس طبيعة الفوضى التي تحكم هذا المشروع منذ بدايته.
ورغم كل هذه التحركات، فإن العامل الحاسم لأي تحول اقتصادي أو مصرفي حقيقي يظل الاستقرار السياسي. فلا يمكن بناء مشاريع اقتصادية واجتماعية أو إحداث نقلة نوعية في النظام المصرفي دون وضع حد نهائي للحرب وتحقيق استقرار سياسي دائم. لا يمكن بناء مشروع سياسي في ظل الحرب، الأمر مشابه للاستماع إلى سجين يتحدث عن أحلامه بالحرية وهو في سجن أبدي.

احمد بن عمر

dr_benomer@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: النظام التقلیدی النظام المصرفی الدعم السریع نظام مصرفی مما یجعل لا یمکن نظام ا

إقرأ أيضاً:

وكيل «تعليم الجيزة» يطلق جلسات الحوار المجتمعي لنظام البكالوريا

أطلق سعيد عطية، وكيل أول وزارة التربية والتعليم بمحافظة الجيزة، أولى جلسات الحوار المجتمعي الموسع حول "نظام البكالوريا المصرية" بحضور مجموعة من القيادات التعليمية، والخبراء الأكاديميين، وأعضاء مجلس النواب، ومديري الإدارات التعليمية، وطلاب المرحلة الإعدادية، وأولياء الأمور، بالإضافة إلى المهتمين بالشأن التعليمي.

بدأت الجلسة الأولى بعرض فيديو تسجيلي يتضمن استطلاع رأي الطلاب وأولياء الأمور حول مقترح البكالوريا، حيث أظهرت الغالبية العظمى من الآراء (أكثر من 95%) تأييدًا لهذا النظام.

حضر الجلسة أيضًا كل من ريحاب عريق، وكيل المديرية، والدكتورة إيمان هريدي، عميد كلية الدراسات العليا للتربية بجامعة القاهرة، والدكتور طارق سمير، عميد كلية التربية النوعية بجامعة القاهرة، إلى جانب عدد من أعضاء لجنة التعليم بمجلس النواب، ومن بينهم النائب حسام المندوه الحسيني، والنائب محمد رشاد البرتقالي، والنائب طارق الطويل، والنائبة صبورة السيد، بالإضافة إلى ممثلين من إدارات التعليم وأولياء الأمور والطلاب.

محمد عطية: "البكالوريا المصرية خطوة نحو التعليم الحديث"

في كلمته، أكد سعيد عطية أن التعليم في مصر يشهد مرحلة فارقة بين ماضٍ يعتمد على التلقين، ومستقبلٍ يُركز على الإبداع والابتكار. وقال: "نظام الثانوية العامة التقليدي كان يعتمد على اختبار واحد لتحديد مصير الطالب، مما يحد من فرص تطوير المهارات. اليوم مع "البكالوريا المصرية"، نُعيد صياغة التعليم ليصبح أكثر عدالةً وإنصافًا."

وأشار إلى أن النظام الجديد يوفر للطلاب فرصًا متكررة لتحسين أدائهم الأكاديمي ويمنحهم الحرية في اختيار المسارات التعليمية التي تتناسب مع طموحاتهم المستقبلية. وأضاف: "البكالوريا المصرية ليست مجرد تغيير في طريقة الامتحانات، بل هي إعادة هيكلة شاملة للنظام التعليمي الذي يُدمج بين العلوم والمهارات العملية."

إجماع على ضرورة تطوير التعليم

أشاد المشاركون بالحوار المجتمعي بضرورة تطوير التعليم المصري، مؤكدين أن "البكالوريا المصرية" هي خطوة ضرورية نحو بناء نظام تعليمي حديث يتماشى مع تطورات العصر ويضمن فرصًا متساوية لجميع الطلاب.

واستعرضت الجلسة التحديات المحتملة في تطبيق النظام الجديد، حيث طرح أولياء الأمور والطلاب العديد من الأسئلة حول كيفية التقييم، وتحسين الدرجات، واختيار المسارات الأكاديمية المختلفة.

أكدت القيادات التعليمية أن الوزارة تبذل قصارى جهدها لتوفير جميع السبل اللازمة لضمان نجاح هذا التحول الجذري في النظام التعليمي. وأشارت ريحاب عريق إلى أن "نظام التعليم الجديد يركز على تطوير قدرات الطلاب بدلًا من حصرهم في أنماط تعليمية محدودة."

التأكيد على تحسين مهارات الطلاب وتوسيع الفرص الأكاديمية والمهنية

وأوضحت الدكتورة إيمان هريدي أن "التعليم لا يُقاس بعدد الدرجات، بل بمدى قدرة الطالب على التفكير وحل المشكلات"، وأشادت بخطوة "البكالوريا المصرية" في تحقيق هذا الهدف. بينما أكد الدكتور طارق سمير أن النظام الجديد يعزز مهارات الطلاب في البحث والتحليل.

من جانبهم، أكد أعضاء مجلس النواب المشاركون في الجلسة على أهمية "البكالوريا المصرية" في خلق نظام تعليمي أكثر شمولًا واستدامة، مشيرين إلى أن هذا النظام يُتيح للطلاب فرصًا أكبر للتحكم في مستقبلم الدراسي.

في ختام الجلسة، اختتم سعيد عطية كلمته قائلًا: "اليوم، نرسم ملامح جديدة لمستقبل التعليم المصري، ونؤسس لنظامٍ يتماشى مع تطورات العصر. "البكالوريا المصرية" ليست مجرد إصلاح تعليمي، بل هي رؤية لضمان العدالة في التقييم وتوفير فرص عادلة لكل طالب في اختيار مساره الأكاديمي."

مقالات مشابهة

  • ميثاق حكومة السلام- تحوّل سياسي وإعادة تشكيل المشهد السوداني
  • لماذا لا تكون دبي الاسم الأول عالمياً في الصحة؟
  • خبير اقتصادي: دول آسيا تتمتع بعلاقات متوازنة مع القوى الاقتصادية الكبرى
  • نُذُر حرب متعددة الأطراف في اليمن بأفق سياسي محفوف بالمخاطر
  • نظام لرصد حالات الولادة والوفاة والتبليغ خلال 24 ساعة
  • اتهامات للدعم السريع بارتكاب أعمال عنف وقتل في القطينة بالسودان
  • وكيل «تعليم الجيزة» يطلق جلسات الحوار المجتمعي لنظام البكالوريا
  • القوى السياسية والمدنية السودانية خلال اجتماع أديس أبابا: ندين الجرائم التي ارتكبتها ميلشيا الدعم السريع
  • في تحول خاطف.. كيف اختفت رموز نظام الأسد من أسواق دمشق وحلّت محلها ألوان الثورة؟