د. نزار قبيلات*
من منّا لا يُمضي يومَه دون أن يستخدم فيه التواصل الرقمي، سواء عبر الواتساب، أم من خلال الوسائط الأخرى المختلفة، الصوتية منها أو المرئية أو المكتوبة، فقد غدا التّواصل عن بُعد أكثر شيوعاً، بل رئيسياً بين النّاس، وكلنا نعلم تماماً مدى الاختصار الذي يقدمه هذا التواصل في الوقت والتكلفة والجهد، ولعل نذكر هنا بأن الأشكال اللغوية المستخدمة في هذا التواصل قد أثارت قبلاً حفيظة اللّغويين وعُصبة المحافظين على اللّغة العربية، خاصة بعد أن ظهرت لغة «الإيموجي» في التواصل، وشاع أسلوب كتابة الحروف صوتياً ورمزياً، كما رافق كل هذا تساهلٌ كبير ليس فقط في قواعد اللغة العربية، بل وفي كتابة كلمات ناقصة الحروف أو كلمات مُندغمة بكلمات من لغات أخرى.
هذا التواصل غير الحيوي بطبيعته كان قد فَقدَ أهم ثلاثة عوامل سياقية في التّواصل، ألا وهي: الصوت وطبقاته، والجسد بحركاته وإيماءاته المتعددة، سواء في العيون، أم في باقي أعضاء الجسد التي تقدم إشارات غير لفظية يفرضها المقام أو مكان واقعة التواصل ذاته، وللمقام هنا فرضياته وشروطه التي لا يُستهان بها عند حدوث التواصل، فقد اطّلعت على عددٍ من القصص القصيرة التي تعاين في حبكتها القصصية إشكال الرّد والاستجابة بين شخصيتين تتواصلان مع بعضهما عبر الواتساب والماسنجر وسواهما...، وقد لاحظت أن الحبكة القصصية تحتدم وتشتد في حالات، منها التأخر في الرّد أو الرد بكلمات صريحة وشحيحة، أو بكلمات تلميحية فتحيل إلى مدلولات كثيرة في ذهن الطرف الثاني، فهل حلّت عملية الرد والاستجابة وعلامة قراءة الرّد الزرقاء نفسها محل لغة الجسد؟!
لقد نشرت الكاتبة «إيريكا دوان» في عام 2023 كتاباً حمل عنوان: لغة الجسد الرقمية لبناء الثقة والتواصل الفعال، بغض النظر عن المسافات. والكتاب يحاول ردم الهُوّة بين طبيعة شكلي التواصل: الرقمي والوجاهي، مبيناً أن للرقمنة اعتباراتٍ فوق لغوية يمكنها أن تحل محل لغة الجسد الطبيعية، ولعل أبرز تحديات التواصل الرقمي هو التفسير غير اللّغوي للمحتوى المنقول أو المسموع الذي قد ينقل للطرف الآخر مشاعر عدة، منها التجاهل أو القبول أو الرفض، بغض النظر عن الرّسالة نفسها، فمسافة التوتر الناشئة قبيل أو بعد الإرسال تحمل مدلولات بحجم وبأهمية الرسالة المنقولة ذاتها، هنا أشعر أننا بحاجة اليوم إلى علم اجتماع رقمي وإلى متخصصين فيه لتفسير وتحليل تلك العملية التواصلية بلغتها الجسدية الفاعلة.
*أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: نزار قبيلات لغة الجسد الثقافة لغة الجسد
إقرأ أيضاً:
«رقمنة الإبداع» تناقش التحولات الرقمية في صناعة النشر
أبوظبي (وام)
أكدت الجلسة الافتتاحية لمؤتمر «رقمنة الإبداع بداية عصر جديد»، الذي عقد ضمن فعاليات معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الـ 34، على ضرورة الانتقال من الاستهلاك الرقمي إلى الإنتاج المعرفي، مع تبنّي الذكاء الاصطناعي أداة لدعم النشر وحماية حقوق المؤلفين. وناقش المتحدثون أهمية بناء منصات رقمية متطورة، ودعوا إلى تجاوز المخاوف التقليدية من الرقمنة، معتبرين أن الصناعات الإبداعية أصبحت ركيزة أساسية لاقتصاد المستقبل. واتفقت المداخلات على أن تجربة دولة الإمارات تمثل نموذجاً إقليمياً رائداً في حماية الملكية الفكرية، وتعزيز البيئة الرقمية الداعمة للإبداع.ورحب الدكتور علي بن تميم، رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، بالمشاركين والحضور، وأعرب عن أمله في أن يكون المؤتمر جامعاً للجهود، مطلقاً للمبادرات لأجل خدمة الإبداع العربي.
وشارك في الجلسة كلٌ من الدكتور عبدالرحمن المعيني، الوكيل المساعد لقطاع الملكية الفكرية في وزارة الاقتصاد، وجفانتسا جوبافا، رئيسة الاتحاد الدولي للناشرين، ومحمد رشاد، رئيس اتحاد الناشرين العرب، وديميتر غانتشيف، نائب المدير ومدير أول قطاع حقوق المؤلف والصناعات الإبداعية في المنظمة العالمية للملكية الفكرية، وأدارت الجلسة أميرة علي بوكدرة، رئيس مجلس إدارة جمعية الناشرين الإماراتيين.
ضرورة حضارية
قال الدكتور علي بن تميم، رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، في كلمته خلال افتتاح الجلسة، إن الرقمنة لم تعد خياراً، بل أصبحت ضرورة حضارية، وإن مهمة المركز تكريس الجهود لدعم التحول الرقمي، ليس عبر الاستهلاك فقط، بل من خلال الإنتاج وإطلاق المبادرات المبتكرة. وأضاف أن المركز أطلق منصة خاصة خلال معرض أبوظبي الدولي للكتاب لدعم الإبداع بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي، وأنه يعمل بشكل مستمر على تطوير مشروعات تدعم اللغة العربية والإبداع في البيئة الرقمية الجديدة، لافتاً إلى أن المشهد الرقمي في حاجة إلى جهود جماعية، ليس فقط على مستوى المؤسسات، بل على مستوى الأفراد أيضاً، مؤكداً دور المبدعين والناشرين في العالم العربي بأن يكونوا جزءاً من هذا التحول، لا أن يقفوا مترددين أمامه.
وأكد أن التكنولوجيا تقدم فرصاً عظيمة، وأن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يصبح شريكاً في حماية الإبداع ونشره وتوسيعه إلى آفاق جديدة، معتبراً أن التحدي الأكبر ليس فقط في الأدوات، بل في إعادة تشكيل ذهنيتنا تجاه الثقافة، والإنتاج الثقافي، مؤكداً الحاجة إلى وعي جديد يؤمن بأن المستقبل لمن يملك أدوات العصر الرقمي، مع الحفاظ على جوهر الإبداع العربي الأصيل.
الثورة الرقمية
من جهته، تحدّث عبدالرحمن المعيني، الوكيل المساعد لقطاع الملكية الفكرية في وزارة الاقتصاد، عن أهمية الملكية الفكرية في تعزيز الاقتصاد الرقمي، وقال: إن حماية الإبداع كانت ولا تزال في صلب اهتمامات دولة الإمارات، إذ كان التوثيق يعتمد على الإجراءات التقليدية الورقية، حيث يتم إيداع نسخ الأعمال الإبداعية في مستودعات رسمية، تُستخدم لاحقاً لحسم أي نزاعات.وأشار إلى أنه أصبح لزاماً والعالم يعيش في قلب الثورة الرقمية، توفير حلول رقمية تليق بسرعتها ودقتها، مشيراً إلى أن معرض أبوظبي الدولي للكتاب شهد إطلاق منصة إلكترونية ذكية تتيح لصاحب أي مصنف إبداعي توثيقه والحصول على شهادة موثقة خلال أقل من ثلاث ساعات. وأكد أن الصناعات الإبداعية أصبحت ركيزة أساسية في اقتصاد المعرفة، وأنه يجب تمكين المبدعين وتحفيز الاقتصاد الإبداعي.
تحولات هائلة
قالت جفانتسا جوبافا، رئيسة الاتحاد الدولي للناشرين، إن عالم النشر يشهد تحولات هائلة في ظل التقدم الرقمي، وإن الذكاء الاصطناعي يقدّم فرصة لا تقدر بثمن للناشرين، إذ يمكن توظيفه في التسويق الذكي، وتحسين استراتيجيات التوزيع، ودراسة أنماط القراء. وأشارت إلى أن الذكاء الاصطناعي بات شريكاً استراتيجياً يمكنه أن يمنح الناشرين أدوات قوية للوصول إلى أسواق جديدة وتنويع مصادر الدخل.وعن مستقبل النشر الرقمي في الدول العربية، قال محمد رشاد، رئيس اتحاد الناشرين العرب: إن الوضع في عالم النشر العربي يتطلب شجاعة وجرأة، إذ لا يمكن الحديث عن تطور في صناعة النشر من دون الحديث عن الابتكار الرقمي.
وأكد ديميتر غانتشيف، نائب المدير ومدير أول قطاع حقوق المؤلف والصناعات الإبداعية في المنظمة العالمية للملكية الفكرية، أن الاقتصادات الخلاقة أصبحت جزءاً من نسيج حياتنا اليومية، وأن الإبداع لم يعد خياراً إضافياً، بل ضرورة اقتصادية وثقافية.