(لا يفوت على قارئ وثيقة "المشروع الوطني" التي احتفى بها البرهان تشوشها لنقلها من نص قديم نفض أهلها عنها الغبار لتعالج وضعاً ليس مستجداً فحسب بل منذراً بذهاب ريح البلد)
ملخص
لم تترك الصفوة السودانية جنباً من خطاب الفريق الركن عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة، في الـ17 من فبراير (شباط) الجاري، "يرقد عليه" كما نقول عمن تكاثر عليه الطعان.

لكنهم أضربوا عن الفقرة التي تخصهم من دون غيرهم إضراباً.
كان البرهان طلب في معرض حديثه أن يخصب الناس بالنقاش بصور ذكرها وثيقة عن خريطة طريق للسودان خلال الحرب وما بعدها. وزاد بطلبه أن نحسن للسياسة بـ"مراكز بحوث ومراكز دراسات أيضاً"، مشيراً إلى أننا ضعيفون في مجال البحوث والدراسات. فعلمنا، في قوله، "من رأسنا لا من كراسنا" ونتكففه من غيرنا. فالمطلوب عمل مراكز دراسات. وكنا بدأنا بعملها وفشلنا وتكررت المحاولة وتكرر الفشل. فالسودان غني بتراثه وتاريخه وتجاربه وخبراته. وأضاف عن الحاجة إلى أبحاث اقتصادية واجتماعية بناءة نمزج فيها ما بين واقعنا وواقع غيرنا.
استدبرت الصفوة هذه الدعوة إلى البحث التي هي من صميم وصفها الوظيفي. فقام الأداء في الدولة على "ممارسة السياسة" لا "إنتاج السياسة" في قول الإعلامي فوزي بشري. وتمثلت ممارسة السياسة في عادة المبادرات التي تتبرع بها جماعة من الصفوة للدولة في بحث الجماعة نفسها عن مكان في دولاب حكومتها. في حين أن إنتاج السياسة، في تعريف فوزي، نشاط متصل بعالم الأفكار والرؤى والتصورات المتجاوزة لركام الأفكار التي صنعت سودان ما قبل الحرب. وكان المثقف غادر معمله في إنتاج الأفكار منذ عقود حين تعاقد طوعاً مع البندقية المعارضة أو الحاكمة في هجرات بدأت للحركة الشعبية لتحرير السودان (1983). ولا تزال الهجرة قائمة كما تراها في مؤتمر الحكومة تحت التكوين في مناطق سيطرة قوات "الدعم السريع". وهي هجرة تخلص المثقف بها من وكد إنتاج المعرفة إلى الخدمة المعرفية لمسلح.
فلا يملك قارئ وثيقة "المشروع الوطني" التي نوه بها البرهان في كلمته إلا التساؤل إن لم تكُن هي من عهد ما قبل الحرب نفض أهلها عنها الغبار. فلا ذكر فيها للحرب الناشبة ليومنا التي ننتظر منها رسم خريطة الطريق لنا بعدها إلا في صفحة 3 (وقف الحرب) ثم صفحة 4 (البدء بالإعمار) وصفحة 7 (ملاحقة من أشعلوا الحرب) وصفحة 8 (إعادة الإعمار) على الأفراد بينما جاء ذكر الحروب المناطقية التي سبقت في مقدمة الوثيقة.
قالت الوثيقة في مقدمتها إن غياب المشروع الوطني ساق إلى "سلسلة من الحروب الأهلية في أطراف البلاد". فلم يتفق للوثيقة، وهي تذكر الحروب التي سبقت من دون ذكر حربنا القائمة، أن هذه الحرب جبت ما قبلها لا بإلغائها، بل لأنها هي جماعها. فيعشعش في الوثيقة لا يزال هاجس قضايا كانت مقدمة في صراعات ما بعد الثورة وقبل الحرب. فتجد فيها ذاكرة حروب دارفور متقدة حية في مثل قولها "تعزيز فرص السلم الاجتماعي في دارفور والمناطق المتأثرة بالنزاعات والحرب" و"توطيد أركان العدالة والسلام والمصالحة لفترة ما بعد النزاعات المسلحة" ورد "الاعتبار الأدبي والمعنوي للضحايا من قبل الدولة" وتنفيذ اتفاق جوبا ومعالجة قضية شرق السودان عبر المنبر التفاوضي الذي قرر قيامه اتفاق جوبا. وتلك معالم خريطة طريق عفا عليها الدهر وصرنا في حال آخر. ومع ذلك لم تمسح الحرب في يومنا هذه المسائل من الخريطة، ولكن بوبتها في أزمة وطنية أعرض لا تنتقص منها مقدار خردلة إن لم تزِدها سطوعاً وإلحاحاً.
لا يفوت على قارئ الوثيقة تشوشها لنقلها من نص قديم نفضت عنه الغبار لتعالج وضعاً ليس مستجداً فحسب، بل منذراً بذهاب ريح البلد. فقالت بفترة انتقالية قسمتها إلى فترتين، الفترة التأسيسية الانتقالية والفترة الانتقالية. فتقوم الفترة التأسيسية فينا لعام بعد الحرب ثم تعقبها الانتقالية لمدة من الزمن تتقرر في "الحوار السوداني-السوداني" الذي سيعقد في الفترة التأسيسية.
وهنا يبدأ التشوش لأن الوثيقة ألقت على عاتق الفترة العاقبة للتأسيسية، أي الانتقالية، مهمة عقد المؤتمر الدستوري وصياغة الدستور الدائم للبلاد، ولكنك لو عدت لمهمات الحوار السوداني-السوداني في الفترة التأسيسية الانتقالية لوجدتها هي نفسها ما ينتظر المؤتمر الدستوري تداوله متى انعقد. فمهام مؤتمر الحوار السوداني-السوداني مناقشة طبيعة الدولة وشكل ونظام الحكم والهوية وقضايا الحكم والإدارة وقوام الدولة في الاقتصاد والاستثمار ومبادئ تقاسم الثروة والسياسة الخارجية وكرامة وحقوق الإنسان وغيرها. فماذا ترك الحوار السوداني-السوداني في الفترة التأسيسية من مسائل ليتداول فيها المؤتمر الدستوري المكلف بصياغة دستور البلاد في الفترة الانتقالية؟
من جهة أخرى لم تترك الوثيقة لا شاردة ولا واردة من المبادئ السياسية العامة الغراء لم تذكره. فجاء فيها مثلاً وجوب قيام نظام ديمقراطي يعبر عن إرادة الشعب ويضمن المشاركة السياسية العادلة لجميع المكونات، وهذا التعبير والمشاركة ما وفقت فيه كل الانتخابات البرلمانية منذ عام 1954 إلا اضطراراً في بعض حالات جنوب السودان لظرف اضطراب حبل الأمن فيه خلال انتخابات عام 1965 وعام 1986.
وبالطبع لن تجد من يختلف مع هذه المبادئ إلا أن ما استحق الوقوف عنده حقاً فهو لماذا كان دوام هذا النظام البرلماني فينا محالاً. وهو الإشكال الذي لم يغِب عن الوثيقة نفسها بإشارتها إلى "الدورة الشريرة التي تمثلت في قيام حكومات ائتلافية تعجز عن حسم القضايا الخلافية" فتؤدي إلى انقلابات عسكرية تنتهي بثورة أو انتفاضة شعبية. وصارت هذه "الدورة الشريرة" فينا كدورات الطبيعة لا من ديناميكيات السياسة فنقول بها كأنها مما يستعصي على التشخيص والعلاج معاً. فتقرير مبدأ إحلال الديمقراطية فينا من دارج ممارسة السياسة أما إنتاجها ففي تحليل هذه "الدورة الشريرة".
وسنعرض في الجزء الثاني من المقال لبيان المؤتمر الوطني الذي صدر في أعقاب كلمة البرهان في 17 فبراير الماضي ولمشروع الحكومة الأخرى في مناطق سيطرة الدعم السريع كحالتين دالتين على عقم الصفوة المدنية عن انتاج السياسة كما عرفناها هنا.

ibrahima@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحوار السودانی السودانی فی الفترة

إقرأ أيضاً:

البرهان يعين "الحاج" رئيسًا جديدًا للحكومة في السودان

أصدر قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان قرارًا الأربعاء بتعيين دفع الله الحاج رئيسًا جديدًا للحكومة في السودان الذي تعصف به الحرب منذ أكثر من عامين.

ويخلف الحاج، الذي عمل في السلك الدبلوماسي السوداني طويلًا خلال حكم الرئيس الأسبق عمر البشير، عثمان حسين عثمان الذي ترك وحكومته الخرطوم إلى بورتسودان مع اندلاع الحرب.

أخبار متعلقة المشاركون بمؤتمر لندن يتعهدون بجمع 800 مليون يورو مساعدات للسودانالسودان.. 20 قتيلًا في قصف لقوات الدعم السريع على مخيم "أبو شوك"بسبب الحكومة الموازية.. الأمم المتحدة تحذر من خطر تفكك السودانالجيش يسيطر على العاصمة

ومنذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 تتخذ الحكومة السودانية مدينة بورت سودان المطلة على البحر الأحمر شرقًا مقرًا لها، بعدما سيطرت قوات الدعم السريع المتحاربة مع الجيش على العاصمة في بداية الحرب.

وبعد عملية عسكرية واسعة في وسط السودان، أعلن الجيش سيطرته على العاصمة بعد إحراز تقدم في مدن رئيسية أخرى.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } البرهان يعين رئيسًا جديدًا للحكومة في السودان - اليوم

وشغل الحاج سابقًا منصب سفير السودان في المملكة العربية السعودية، التي كانت أولى محطات البرهان الخارجية عقب إعلانه "تحرير" الخرطوم من الدعم السريع الشهر الماضي.

وزير خارجية جديد

كذلك، عين البرهان الأربعاء السفير عمر صديق وزيرًا للخارجية.

وكان صديق عضوًا في وفد الحكومة السودانية لمفاوضات جدة بين الجيش والدعم السريع عام 2023، وأعربت الأخيرة حينها عن رفضها لوجوده.

وخلال حكم البشير عمل صديق مندوبا للسودان لدى الأمم التحدة.

مقالات مشابهة

  • ثنائي الابادة
  • والي شمال دارفور وقائد الفرقة السادسة يهنئان البرهان بالإنتصارات التي حققتها القوات المسلحة على المليشيا بالفاشر
  • البرهان يعين "الحاج" رئيسًا جديدًا للحكومة في السودان
  • معاوية البرير: هذه فرص تعافي الاقتصاد السوداني في حال توقفت الحرب
  • المجد فقط لشهداء ديسمبر في الأعالي يا برهان
  • “غروندبرغ” يدعو لتحقيق شفاف في الغارة التي استهدفت مركز احتجاز بصعدة
  • زيارة البرهان إلى مصر: محاولة لالتقاط أنفاس السياسة وسط ركام الحرب
  • البرهان في القاهرة… دلالة الزيارة ومآلاتها والرسائل التي تعكسها
  • بكري: زيارة البرهان مهمة في ظل انتصارات الجيش السوداني.. ومصر لا تتعامل مع الميليشيات
  • الخارجية: الحرب التي تخوضها ميليشيا الجنجويد بالوكالة عن راعيتها الإقليمية موجهة ضد الشعب السوداني ودولته الوطنية