“آرام: رحلة البحث عن السلام في مرايا الذات المتشظية”
تاريخ النشر: 23rd, February 2025 GMT
#سواليف
“آرام: رحلة البحث عن السلام في مرايا الذات المتشظية”
د. #مي_بكليزي
فاطمة الهلالات، القادمة من الجنوب، حيث عبق التاريخ وأصالة الماضي، اختارت اسم ” #آرام ” من وحي بيئتها #البتراء؛ الآراميون بناة التاريخ والحضارة.
مقالات ذات صلةنقف طويلًا عند هذه العتبة المفتوحة على التأويل، فـ”آرام” رمزٌ، رغم وجودها الحقيقي في الرواية.
آرام هي من يبحث عنها يوسف، وأنا، وأنت، وكل من يقرأ هذه #الرواية التي تبحث عن السلام النفسي المفقود والراحة الحقيقية.
يوسف، ذلك الصبي الذي مات عنه أبوه، فلامته أمه على فقده، إذ كانت تراه وجه نحس، كما أخبرته في طفولته الصغيرة. حمل كلماتها في قلبه، لتصبح ندبة لا تندمل، وانكشف الغطاء عن عضة الزمن التي سترافقه طوال حياته. كل كلمة، كل سلوك، كان امتدادًا لذلك الجرح المبكر.
لم يستطع يوسف العيش في سلام مع نفسه، فقد كان يوسف الصغير يقطع طريق يوسف الكبير في كل محطة من حياته. لم ينسَ لحظةً واحدة أنه نذير شؤم على عائلته، وأن وجهه كان مصدر نحس على أمه وإخوته. كلما حاول أن يمضي قدمًا، أطلّ عليه ذلك الطفل الجريح في داخله، مذكرًا إياه بماضٍ لم يترك له فرصة للشفاء.
القرية التي لفظته زورًا وبهتانًا، والأقارب الذين ما كانوا يومًا أقارب، حاصروه بالريبة والشك والحقد والحسد. لكنه لم يكن بحاجة إلى نظراتهم ليشعر بالعداء، فالحرب كانت قد اشتعلت داخله قبل أن تعلنها الدنيا عليه.
سمر، التي حاولت جهدها التعامل مع يوسف المعقد نفسيًا، بذلت أقصى ما تستطيع من صبر وتجاهل. لكنها، في النهاية، أدركت أن الطلاق هو الحل الأمثل. لم يكن يوسف رجلًا يسهل العيش معه، إذ كانت عقد طفولته حاضرة في كل شيء، تفتك بسكينها في تفاصيل حياته، في أحلامه، وحتى في حُبّه.
لم يكن اسمه يوسف وحده ما أحاله إلى قصة النبي يوسف، بل أحلامه الكثيرة التي تشبه رؤى الأنبياء، لكنها لم تكن رؤًى تتحقق، بل كوابيس تحطّمه. كان عالقًا بين الحلم والواقع، بين الحقيقة والوهم، خلافًا لسيدنا يوسف، الذي جعل الله رؤاه حقًا.
هذه الرواية نفسية بامتياز، تتماوج بين الأحلام والواقع، وكأن السرد نفسه حلمٌ لا ينتهي، يراود فتى ضائعًا بين ماضٍ مظلم وحاضرٍ لا يجد فيه سلامه. فشل أكثر مما نجح، وخاب أكثر مما ظفر. ورغم تعرّفه على نساء كثيرات، من الجميلات إلى القبيحات، ومن الرفيعات خلقًا ومكانة إلى العكس، كان داخله صوتٌ يردعه عن الارتباط، يذكره دومًا بعدم الاستحقاق، وبأن الفرصة قد فاتته بعد تجربته الفاشلة مع سمر.
ولأن يوسف يعيش قلقًا متأرجحًا بين ماضٍ مكسور وواقع لا يملك فيه سلامه النفسي، جاء عنوان الرواية “آرام”، ليكون رمزًا لرحلته في البحث عن السكون والاستقرار. هذه الكلمة، التي تحمل في طياتها الحنين لما هو قديم وأصيل، تعني في اللغة الهدوء والسلام، وهو الشيء المفقود الذي يبحث عنه يوسف بلا جدوى.
بعد كل هذا الصراع، لجأ يوسف إلى التخلي عن ماضيه والتجلي في مكان آخر ومع أناس آخرين، علّه ينجو بنفسه قليلًا. نفسه التي تزاحمه على الفرح، فلا يجد إلا مكانه حزنًا قابضًا على قلبه، كما تقبض اليد على جمرة من نار.
فيسافر في رحلة بالحافلة، خارج إطار المرحلة الأولى من حياته، فيغتنم نعمة السفر والترحال لينسلخ عن ثوب حزنه الذي رافقه. ليُخيّل إليه أنه انتُزع من جلده ساعة رحيله، إلا أن رحلة الأحلام التي تطارده تزيد في غيّها، وتقمع أي فرصة للفرح أو السِّلم تجنح إليها نفسه.
فتتوالى عليه الأحلام تباعًا: في الحافلة، عند الاستراحة، عند محاولة الحديث مع الآخرين. إنسان ممزق حد التشظي، يحيط به الهم إحاطة السوار بالمعصم، لا انفكاك له، وأنّى له الانفكاك؟
فالمكان الروائي المتخيل، حتمًا، في هذه الرواية، تتظافر جهوده وتكوينه النفسي ليبرز علاقة يوسف بالمكان وتجرده النفسي، ليحيل إلى المكان عنوةً.
حتى التركيب الزمني، الذي لم يبدُ رتيبًا في هذه الرواية، استطاع أن يتأرجح بيوسف بين ماضٍ مثقل حتى الثمالة وواقع يهوي به حد التيه والغثيان النفسي. فلا رتابة ولا تسلسل للزمن، فهو متأرجح بندوليًا بين ماضٍ وواقع، ناهيك عن مستقبل لا يكاد يفصح له بطاقة من نور.
الراوي العليم سرد الرواية متحملًا عبء التفاصيل التي أغرقنا بها تارةً، والراوي المشارك على لسان يوسف، إذ سُردت بعض الأحداث بصيغة الأنا، معبرًا عن مكنونات نفسه الدقيقة، وعن وجهة نظره الخاصة تجاه الأحداث والشخوص.
“آرام” ليست مجرد حكاية، بل رحلة داخل نفس إنسانٍ منهكٍ يبحث عن السلام في عالمٍ لم يمنحه سوى الحرب.
ونهاية الرواية جاءت منسجمة مع الأحداث المتوالية فيها، إذ تركت الكاتبة نهايتها مفتوحة على التأويل. والسؤال: لماذا تحول يوسف وآرام في النهاية إلى تمثالين؟ وهل كانا ضحية مبادئهما وأفكارهما؟ أم كانا رمزين للحب المستحيل الذي لا يُدرك؟
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: سواليف آرام البتراء الرواية عن السلام بین ماض
إقرأ أيضاً:
التراث الشعري في مرايا المبدعين الشباب
فاطمة عطفة
يحتل التراث الشعري العربي مكانة أصيلة في وجدان مجتمعنا وذاكرتنا الجمعية، لما له من أثر في بناء مخزوننا اللغوي وموروثنا الثقافي والأدبي، وهو لا ينفصل عن مساقاتنا المعرفية التي تصب كروافد في نهر الحضارة الإنسانية الكبرى، كونه يسهم، تأليفاً ونشراً وترجمة في ازدهار نهضتها واستدامتها. ويظل التراث الشعري العربي حاضراً حضوراً مؤثراً في الذاكرة عبر مئات الأسماء والأعمال التي تعكس ثراءه وتأثيره على الأجيال الشعرية المتتالية، كما يستمر الجدل المتواصل ما بين أهمية التراث الشعري والارتباط به وبين الاستفادة منه مع تجاوزه إلى الحداثة، ومع تعدد الأساليب الفنية والسردية والشعرية الحديثة، يحضر سؤال حول تعاطي الجيل الجديد من المبدعين الشباب مع هذا التراث الشعري الزاخر بعطاءات شعرية خالدة.
يقول الشاعر علوش السويط، معد برنامج مختبر الشعر ومقدمه: منذ أن كُتب البيت الأول في القصيدة العربية، وللشعر نقّاد ومتذوقون ومحبون ومبغضون، وكلهم على اختلاف مشاربهم يجتمعون على حاجة ملحّة في فهم معنى القصيدة، والذي بدوره أبرز لنا محمد بن سلام الجمحي المتوفى سنة 232 هـ، فيما ينظر له كأول دراسة للتراث الشعري في كتابه «طبقات الشعراء». ثم تبعه ابن قتيبة والآمدي وغيرهما. وبفضل هؤلاء ومن سبقهم ولحقهم، تطوّر قرض العرب للشعر، وكوّن جيل الشباب من أبي تمام وتلاه البحتري مذهباً تميّز في شعر العمود العربي، وأطلق لغة شاعرية جديدة وصوراً بيانية ساحرة لم يعهدها أحد من الأدباء في ذلك الزمن. ثم جاء من بعدهما المتنبي ليمازج بينهما حتى يبلغ شعره مرحلة من الجلوّ لم يسبقها مثيل.
ويتابع الشاعر السويط: لمّا كان الشعر ديوان العرب، انتبه رواد الدراسات الاجتماعية والإنسانية إلى دوره المحوري في قراءة حال من سبقنا، وانكبوا على دراسته لاستخراج الفنون المتنوعة حتى يتحدى جيل الشباب رعيل السابقين، ويرقى في «الكلمة» العربية كما هو الحال في شعر العباسيين الذي نافسه شعر الأندلسيين برقته وانسيابه وسهولته فأنشده القاصي والداني.
ويرى الشاعر علوش السويط أن قصور ذائقة شعراء الشباب في عصرنا يعزى في المقام الأول إلى التساهل في تعلم ضوابط اللغة العربية وقواعدها، والركون إلى ما يتداوله العامّة، والأجدر أن يبذل الشاعر الشاب مزيداً من الوقت في مطالعة شعر العرب، ولا يكتفي بالشعر أو الرواية المترجمة، وأن يطلع على فنون عربية أشمل، مثل المقامات والخطب، وأن ينشر عبر حسابه في وسائل التواصل الاجتماعي ما يكون قدوة يحتذى بها، لا نقلاً أعمى لما يجهله. وإذا ما سعينا نحن الشعراء الشباب إلى تطوير مدرسة شعرية جديدة في عصرنا على غرار شعر المهجر أو التفعيلة، فلا بد لنا من استلهام المفردة من عصرنا، ومن ثم تطويعها ضمن جماليات اللغة العربية، دون النسخ من القديم أو التساهل في الجديد. وهذا ما يصنع الشاعر المجيد، كما ذكر الشاعر معروف الرصافي في قوله:
وأجود الشعر ما يكسوه قائله
بِوَشْي ذا العصر لا الخالي من العُصُر
لا يَحسُن الشعر إلا وهو مبتكَر
وأيّ حسن لشعر غير مبتكر
ويختم الشاعر علوش السويط قائلاً: لا ريب أن ضعف موهبة بعض الشعراء الشباب في عصرنا شبيهة بتلك التي أعقبت حكم المماليك في مصر، وتصدى لهذه الفجوة محمود سامي البارودي بمدرسة إحياء التراث، وهو أمر ربما يتكرر في عصرنا هذا باهتمام بالغ من المؤسسات الثقافية وجامعاتها العلمية في دراسة التراث الشعري وتقديم الشعراء الشباب لحمل بردة الشعر.
مكانة أصيلة
من جانبه، يؤكد الشاعر سامح كعوش على كون التراث الشعري العربي يحتل مكانة أصيلة في وجدان مجتمعنا وذاكرتنا الجمعية، موضحاً أن ما نشهده اليوم من تراجع في جودة المحتوى الإبداعي والأدبي، إنما هو عائد في أحد أبرز أسبابه، إلى ضآلة معارف بعض الشعراء الشباب والكتّاب الناشئين، وخاصة في مجال الشعر الموروث قديمه وحديثه، بدءاً من المعلقات في العصر الجاهلي، وصولاً إلى روائع ما جادت به قرائح شعراء المهجر والأندلس قبلها.
ويضيف كعوش: يعلل ذلك الضعف إلى أن بعض الشعراء الشباب لا يجدون الوقت الكافي لديهم لاستعادة واستيعاب وهضم الموروث الثقافي عامة، والشعري خاصة، كما أنهم لا ينشغلون بدراسات مستفيضة لجماليات هذا الموروث ومحاولة محاكاتها ومجاراتها والكتابة على نسقها. وهنا نحن لا نشير إلى ضعف موهبة، فحتى الموهبة الضعيفة تنمّى بالتدريب والصقل والممارسة، بل هو قصور ثقافي لدى البعض وعدم معرفة بأنماط التأثير الإبداعي والفني الخلاق، والمجانب لسلبيات التواصل الاجتماعي والمحاذر لمخاطر التسرّع والتسطيح فيها.
وفي هذا السياق، تقول الفنانة التشكيلية والشاعرة موزة عيد مبارك المنصوري: الشعر ليس مجرد كلمات تقال، بل هو امتداد للروح والهوية. حين يعود الشاعر الشاب إلى تراثنا الشعري، فإنه لا يقرأ فقط، بل يعيش تلك التجارب، يشعر بنبض الكلمات، ويفهم كيف كانت اللغة مرآةً للإنسان في كل زمان. دراسة الشعر الجاهلي أو الأندلسي أو المهجري تمنح الشاعر أدوات تعبيرية أعمق، وتفتح له أبواب الخيال والتجديد، دون أن يفقد أصالته. فكل بيت قديم يحمل في طياته قصة، وكل قصيدة هي تجربة إنسانية يمكن أن يجد فيها الشاعر صوته الخاص. لماذا يهمل بعض الشعراء بعض المدارس الشعرية؟ قد يكون السبب في هذا الإهمال هو تسارع إيقاع الحياة، حيث أصبحت القراءة العميقة أقل حضوراً، وحلت محلها النصوص السريعة التي تناسب عصر التواصل الاجتماعي. كما أن بعض الشعراء يجدون صعوبة في فهم السياقات التاريخية للشعر الأندلسي أو المهجري، فيرونه بعيداً عن واقعهم. لكن الحقيقة أن هذه القصائد لم تكن مجرد وصف لزمانها، بل كانت انعكاساً لمشاعر إنسانية خالدة: الحنين، الحب، الغربة، والأمل. ربما لا يكون الأمر ضعف موهبة بقدر ما هو حاجة إلى إعادة التواصل مع هذا التراث، ليس كعبء ثقافي، بل كنافذة تطلّ منها أرواحنا على تجارب من سبقونا، فنضيف إليها أصواتنا وقصصنا الجديدة.
قاعدة صلبة
تقول الشاعرة مريم الزرعوني: التعرف إلى التراث الشعري العربي يشكل قاعدة صلبة ترفع بنية الشعر وتدعم صوت الشاعر، فالأهمية تتأتى من عوامل عدة، أولها تكوين الملكة الشعرية الأصيلة، وتمنحه القدرة على التعبير الدقيق والجميل؛ لأن شعر الأسلاف كنز يزخر بالتجارب والأفكار والصور الشعرية التي لا غنى للشاعر الشاب عنها في رحلته لتطوير أدواته الإبداعية، وليست التجارب إلا معين يمده بخبرات جاهزة، مما يختصر عليه الكثير من الجهد، ويسهم في في تشكيل ذائقته، وتمكينه من التمييز بين الغث والسمين في الأدب.
وتضيف الشاعرة الزرعوني أن التراث يساعد الشاعر على اكتشاف صوته الخاص، وتحديد الأساليب والاتجاهات التي تعبر عنه أصدق تعبير. وفي المقابل، يثار بين الفينة والأخرى تساؤل عن سبب ما يراه البعض ضعفاً عند بعض الشباب في الشعر العربي المعاصر، مقارنة بشعر المهجر أو الأندلس، ويرى هؤلاء أن الشعر المعاصر يفتقر إلى الأصالة، ويسير في ركب التقليد والمحاكاة، بينما يرى آخرون أن الشعر المعاصر قطع صلته بالتراث، ولم يستفد من كنوزه الثمينة، ويتهم البعض اللغة الشعرية المعاصرة بالضعف والعجز عن التعبير عن الأفكار والمشاعر بصدق وجمال. ومع ذلك، لا يمكننا أن ننكر وجود أصوات شعرية معاصرة واعدة تبشر بمستقبل مشرق للشعر العربي، وتجمع بين أصالة الماضي وإبداع الحاضر.