غزة– "هذه الآبار كانت ملاذنا للصمود في غزة"، يشير أحمد المغربي بذلك لآبار محلية يلجأ الغزيون في مدينة غزة وشمال قطاع غزة لحفرها واستصلاح القائم منها، لمجابهة أزمة المياه الحادة الناجمة عن الاستهداف الإسرائيلي المركز لآبار وشبكات المياه.

يسكن المغربي في مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، حيث كان من أول مناطق المدينة التي توغل بها جيش الاحتلال بريا، وعاث فيه فسادا وتدميرا، حيث اختار المغربي وأسرته (6 أفراد) البقاء والصمود في مدينة غزة، ولم ينزحوا جنوبا.

ويقول للجزيرة نت: "كان لا بد من التفكير في مصادر بديلة للمياه بعد تدمير الآبار البلدية وشبكات المياه، وكانت الآبار المحلية ملاذنا وعاملا مهما دعمت صمودنا في غزة".

فلسطينيون في حي النصر شمال مدينة غزة يحفرون بئرا محلية تعاونية (الجزيرة) آبار محلية تعاونية

وكما غالبية من مكثوا في مدينة غزة وشمال القطاع، اضطر المغربي للتنقل بأسرته مرارا في نزوح داخلي كلما اشتد الخطر، وفي نهاية المطاف عاد لمخيم الشاطئ، حيث كانت تقطنه آنذاك قلة من السكان، إثر النزوح الكبير نحو جنوب القطاع.

وقبل عودة النازحين من جنوب القطاع نحو مدينة غزة وشمال القطاع، إثر اتفاق وقف إطلاق النار في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، كان المغربي وسكان المخيم قد نجحوا في حفر وتشغيل ما يتراوح بين 20 إلى 30 بئرا محلية.

ويقول إن البئر الواحدة تكلف نحو 5 آلاف دولار للوصول إلى المياه، التي يتراوح عمقها ما بين 25 إلى 35 مترا في المخيم، وتزداد هذه التكلفة كلما زاد العمق في شرق المدينة كحي الشجاعية، في حين كانت تكلفة حفر مثل هذه البئر قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 تتراوح ما بين ألفين إلى 3 آلاف دولار.

إعلان

وتعود هذه الزيادة الكبيرة في كلفة حفر البئر الواحدة في الوقت الراهن لعدم توفر الآليات والمواد اللازمة، جراء القيود الإسرائيلية المفروضة على دخول الاحتياجات والأولويات اللازمة، والتي تخرق البروتوكول الإنساني ضمن اتفاق وقف إطلاق النار.

يكابد الغزيون من أجل حمل المياه لمنازلهم بواسطة عبوات وغالونات بلاستيكية (الجزيرة)

ولا تقتصر تكاليف البئر على الحفر، حيث هناك حاجة أيضا لمصروفات تشغيلية، وفي فصل الشتاء لا تعمل منظومة الطاقة الشمسية بكفاءة عالية، ويضطر المستفيدون من البئر لشراء الوقود من السوق السوداء بأسعار مرتفعة، لتشغيل المولدات لاستخراج المياه، حيث لا يزال الاحتلال يعرقل دخول الوقود عبر المعابر.

وتغطي البئر الواحدة، بحسب المغربي، الحد الأدنى من المياه لنحو ألف نسمة، وقد زادت الحاجة لمثل هذه الآبار وقت نزوح سكان جباليا ومناطق شمال القطاع على وقع العملية البرية الإسرائيلية التي استمرت لنحو 100 يوم، وانتهت قبيل اتفاق وقف إطلاق النار.

ولجأ النازحون من شمال القطاع لمناطق غرب مدينة غزة، بما فيها مخيم الشاطئ، ولمجابهة الحاجة الكبيرة من المياه للنازحين والسكان "نجحنا خلال الشهور الستة الماضية في حفر عدد كبير من هذه الآبار المحلية" بحسب المغربي.

ويقول كانت مهمة حفر هذه الآبار محفوفة بمخاطر جمة، جراء الاستهداف الإسرائيلي الممنهج لكل جهد إنساني من شأنه تعزيز صمود الناس، حيث يحتاج الحفر إلى الانتقال بمعدات من مكان إلى آخر، لتغطية أكبر مساحة ممكنة.

احتياجات مضاعفة

ومع العودة الكبيرة للنازحين من جنوب القطاع لشماله، تضاعفت الحاجة إلى المياه، حيث تشير التقديرات المحلية إلى أن عدد المقيمين حاليا في النصف الشمالي من القطاع ارتفع مع هذه العودة إلى مليون و400 ألف نسمة.

ويقول يسري الغول، وهو كاتب وروائي لم يغادر شمال القطاع، إن الآبار المحلية "التعاونية" باتت اليوم المصدر الرئيس للتزود بالمياه بالنسبة للغالبية في مدينة غزة وشمال القطاع، "ولولاها لما بقي أحد هنا".

إعلان

ولشدة أزمة المياه في الشهور الأولى للحرب، يروي الغول للجزيرة نت تجربة مريرة مرت بها جدته زمقنة الغول، والتي تجاوزت المئة من العمر، وحوصرت مع آخرين في مقر تابع للأمم المتحدة غرب مدينة غزة لنحو 3 أسابيع، ولم يكن لديهم أي مصدر لمياه الشرب سوى نقاط تتساقط من أجهزة التكييف تروي حلوقهم الجافة.

كان هذا حال الصامدين في مدينة غزة والشمال، ويقول الغول "لا يزال واقع المياه مؤلما، ونصطف يوميا بالطوابير من أجل التزويد بالقليل منها للشرب والنظافة".

ولمواجهة هذه الأزمة كانت فكرة اللجوء للآبار المحلية، سواء بحفر جديدة أو باستصلاح أخرى قديمة تعرضت لتدمير، أو هجرها أصحابها ونزحوا نحو الجنوب، وحاليا يعتمد الغول الذي يقيم مع أسرته في منطقة "أرض الغول" شمال غربي مدينة غزة، على بئر محلية يملكها أحد أقاربه، ويتشارك السكان في كلفة الوقود اللازم لتشغيل البئر واستخراج المياه.

ووفقا له تدفع كل أسرة نحو 10 شواكل (أقل من 3 دولارات) في التعبئة الواحدة كل 3 أيام، وتحصل على 120 لترا فقط، لا تكفي استخدامات الأسرة، وتضطر إلى تقنين استهلاكها لأقصى درجة حتى موعد التعبئة الثانية.

وفي حين اضطر السكان إلى تحمل كلفة حفر هذه الآبار وحدهم، فإن هيئات خيرية داعمة باتت تدعم مشاريع الآبار المحلية سواء بتكاليف الحفر فقط أو بتشغيلها أيضا، وبحسب الغول والمغربي فإن غزيين ميسوري الحال يساهمون كذلك في تكاليف الحفر الباهظة، ويتشارك السكان غالبا في كلفة التشغيل واستخراج المياه.

النبيه: الاحتلال دمر 75% من آبار المياه ويمنع مواد الصيانة والوقود رغم اتفاق وقف إطلاق النار (الجزيرة) أزمة حادة

يقول المتحدث باسم بلدية غزة، كبرى بلديات القطاع، عاصم النبيه للجزيرة نت، إنه "مع حالة الطوارئ الناجمة عن الحرب، والأزمة الحادة في المياه، انتشرت الآبار المحلية، وتعود تبعيتها لمنازل سكنية أو جمعيات أو مساجد أو هيئات محلية مثل لجان الأحياء، ويلجأ السكان حاليا لهذه الآبار سواء بحفر جديد أو بصيانة القديمة واستصلاحها، للتغلب على الأزمة".

إعلان

وتضاعف حفر هذه الآبار بعد العودة الكبيرة للنازحين من جنوب القطاع، في الوقت الذي تعاني فيه بلدية غزة من عدم قدرتها على إيصال المياه لنحو نصف المدينة، التي يقطنها حاليا قرابة نصف مليون نسمة، وذلك جراء تدمير الاحتلال 75% من الآبار البلدية، وأكثر من 100 ألف متر طولي من شبكات المياه.

وبحسب النبيه فإن نسبة ما بين 40 إلى 45% فقط من مساحة مدينة غزة تصلها مياه بكميات محدودة وغير كافية لحاجة السكان، الذين يواجهون أيضا معضلة في عدم توفر خزانات مياه منزلية دمرها الاحتلال، علاوة على عدم توفر مصادر طاقة قادرة على رفع هذه المياه للمنازل، فيلجؤون لطرق بدائية شاقة بحمل غالونات المياه بأيديهم ورفعها لمنازلهم، خاصة أولئك الذين يقطنون في بنايات متعددة الطبقات.

وما يزيد من حدة الأزمة تنصل الاحتلال من التزاماته بموجب البروتوكول الإنساني، ويقول النبيه إن البلدية قدمت لهيئات دولية قوائم فنية تفصيلية باحتياجاتها من أجل الصيانة، وبكميات الوقود اللازمة، لكن الوعود التي تلقتها لم تترجم على أرض الواقع حتى بعد اتفاق وقف إطلاق النار.

وتعرضت بلدية غزة لخسائر فادحة جراء الاستهداف الإسرائيلي الذي نال من 133 آلية ثقيلة ومتوسطة، تمثل 85% من مقدراتها، وهي -وفقا للنبيه- كانت تصلح للعمل بالأوقات الطبيعية وليست مؤهلة للعمل في أوقات الطوارئ الكبرى والتداعيات الناجمة عن حرب مدمرة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات اتفاق وقف إطلاق النار مدینة غزة وشمال فی مدینة غزة جنوب القطاع شمال القطاع هذه الآبار

إقرأ أيضاً:

خطة ترامب لتهجير سكان قطاع غزة.. أصل الفكرة.. آفاقها.. وتداعياتها

 

تسببت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول سعيه لتهجير أكثر من مليونَي فلسطيني من قطاع غزة تهجيرًا دائمًا إلى مصر والأردن، واستيلاء الولايات المتحدة الأمريكية على القطاع “عبر ملكية طويلة الأجل” لتطويره عقاريًا وتحويله إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”[1]، في انتقادات وإدانات فلسطينية وعربية ودولية واسعة، كما لقيت رفضًا قاطعًا من مصر والأردن، وكان ترامب قد التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض في 4 فبراير 2025م، في أول لقاء له مع زعيم دولة أجنبية منذ توليه منصبه في 20 يناير 2025م، حيث أدلى بتصريحاته حول تهجير سكان القطاع وسط ترحيب من نتنياهو.

تطور المقترح
على الرغم من أن الرغبة الإسرائيلية في تفريغ قطاع غزة من سكانه وتهجيرهم منه تعود إلى عقود طويلة، وأخذت منحى أكثر جدّية منذ بداية الحرب على غزة في 7 أكتوبر 2023م، مع حديث مسؤولين إسرائيليين عن نياتهم القيام بتطهير عرقي في القطاع، فإن واشنطن، تحت إدارة الرئيس السابق جو بايدن، كان تعارض رسميًا دعوات التهجير القسري، ويمكن تلمّس بواكير ظهور فكرة “تطهير” القطاع من سكانه في الدائرة المحيطة بترامب، في تصريحات أدلى بها صهره ومسؤول السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط خلال إدارته الأولى (2017–2021م)، جاريد كوشنر، في 15 فبراير 2024م، خلال حوار أُجري معه في جامعة هارفارد، حينما قال “يمكن أن تكون الواجهة البحرية في غزة ذات قيمة كبيرة”، ولم يتردد في الدعوة صراحة إلى إخراج فلسطينيي القطاع إلى صحراء النقب ومصر، ثمّ “تنظيفه”، وعلى الرغم من أنه زعم أن إسرائيل لم تتحدث صراحة عن “أنها لا تريد أن يعود الناس إلى هناك [القطاع] بعد ذلك”، فإنه استدرك بالقول “لست متأكدًا من أن هناك الكثير من غزة بقي قائمًا في هذه المرحلة”، لكن الأخطر في تصريحات كوشنر، الذي يملك تأثيرًا كبيرًا في ترامب، كان في ادّعائه أن غزة لم تكن مأهولة بالسكان تاريخيًا، حيث أنها “كانت نتيجة حرب […] كانت هناك قبائل في أماكن مختلفة ثم أصبحت غزة شيئًا”.
وفي أكتوبر 2024م، أي عندما كان ترامب مرشحًا للرئاسة، قال في مقابلة إذاعية إن قطاع غزة يمكن أن يكون “واحدًا من أفضل الأماكن في العالم، لكنّ الفلسطينيين فشلوا في ’استغلال‘ موقعه الساحلي على البحر الأبيض المتوسط”. وأضاف أن غزة “قد تكون أفضل من موناكو” لأنها تتمتع “بأفضل موقع” في الشرق الأوسط وعاد إلى طرح الفكرة مجددًا بعد وقت قصير من تنصيبه رئيسًا، إذ وصف القطاع بأنه “ذو موقع رائع على البحر ويتمتع بطقس جميل […] ويمكن القيام ببعض الأشياء الجميلة فيه”، وأضاف أنه “قد” يكون على استعداد للمساعدة في إعادة الإعمار فيه ، غير أن أول إشارة واضحة منه لدعمه عملية تهجير الفلسطينيين منه كانت في 25 يناير عندما قال إنه تحدّث مع العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني عن إمكانية نقل أكثر من “مليون ونصف فلسطيني”، إما على نحو مؤقت أو طويل الأمد، إلى الأردن ومصر إلى حين “تنظيف هذا المكان بالكامل”، وفعل الأمر نفسه في اتصال مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، ومع رفضهما طلبه رفضًا قاطعًا، فإنه بقي يصرّ على أنهما سيقبلان في النهاية.
واللافت هنا أن كلًّا من ترامب، وصهره كوشنر، ومبعوثه إلى الشرق الأوسط ستيفن ويتكوف، وجميعهم يعملون في مجال التطوير العقاري والأعمال، ينظرون إلى قطاع غزة على أنه “صفقة عقارية” يريدون الاستثمار فيها، ليس لمجموعة محددة من الناس (أي أهله من الفلسطينيين)، ولكن لزبائن آخرين؛ ذلك أن سكانه لن يعودوا إليه أبدًا، بل سيجري توطينهم خارجه.
خطة أم مجرد أفكار؟
يبدو أن ترامب فاجأ بتصريحاته بشأن رغبته في الاستحواذ على غزة وتطويرها، كبار المسؤولين في إدارته[5]، خصوصًا تصريحاته التي أدلى بها في المؤتمر الصحافي مع نتنياهو والتي مفادها أن إدارته “ستفعل ما هو ضروري” للسيطرة على قطاع غزة وتطويره[6]، إذ أن عددًا محدودًا من مساعديه، أبرزهم مستشار الأمن القومي مايك والتز وويتكوف، كانوا على علم بما يخطط لطرحه في لقائه مع نتنياهو[7]، وتتباين الروايات هنا بشأن ما إذا كان الجانب الإسرائيلي أحيط علمًا مسبقًا بفكرة استحواذ واشنطن على القطاع أم لا، إذ يقول أحد المصادر إن والتز وويتكوف ناقشا الفكرة مع نتنياهو قبل يوم من اجتماعه مع ترامب، في حين تؤكد مصادر أخرى أن نتنياهو سمع بها أول مرة من ترامب قبل وقت قصير من إعلانها أمام الصحافيين.
وعلى الرغم من أن ترامب كان خلال المؤتمر الصحافي مع نتنياهو يقرأ من ورقة حول مقترحه، ما يعني أنه إعلان رسمي مدروس وليس موقفًا انفعاليًا، فإن مسؤولين في البيت الأبيض صرّحوا أن هذا المقترح لم يناقش في دوائر الإدارة المعنية بشؤون الشرق الأوسط، كما لم تجرِ مناقشة جدواه وواقعيته.
وتشير تقارير إعلامية إلى أن وزارتَي الخارجية والدفاع لم تحاطا علمًا مسبقًا لتقديم تصورات وتشكيل لجان عمل حول الفكرة، ولم تقدّم وزارة الدفاع أيّ تقديرات لأعداد القوات الأمريكية المطلوبة للسيطرة على القطاع، ولا كيفية ذلك أو تكلفته وبناءً على ما سبق، يبدو أن الفكرة تطورت نتيجة مناقشات بين ترامب وعدد قليل من مستشاريه، على عكس المتعارف عليه في تطوير السياسات الكبرى في الولايات المتحدة، ومن ثمّ، يمكن وصفها بأنها أقرب إلى أفكار من كونها خطة متكاملة جرت بلورتها على نحو مدروس، ويؤكد ذلك حالة الفوضى التي سادت إدارة ترامب بعد تصريحاته خلال لقائه نتنياهو، إذ سعى المسؤولون الأمريكيون للتخفيف من حدتها، خصوصًا أنها تمثّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، ولا تستند إلى أرضية قانونية أمريكية واضحة تخوّل ترامب فعل ذلك، فقد أعلنت الناطقة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفات، في 5 فبراير، أن ترامب لم يلتزم بإرسال قوات أمريكية إلى قطاع غزة، في حين قال وزير الدفاع بيت هيغسيث، إن الحكومة الأمريكية “بعيدة جدًا” عن التدخل في القطاع، وذلك على الرغم من أن ترامب كان أكّد أن إدارته “ستفعل ما هو ضروري” لتحقيق ذلك، وأكدت ليفات أن خروج الفلسطينيين من غزة سيكون “مؤقتًا”، على الرغم من أن ترامب قال بوضوح إنه سيكون على نحو دائم، وشددت على أن الولايات المتحدة لن تقدّم أيّ أموال لإعادة الإعمار، أما وزير الخارجية ماركو روبيو، الذي تشير مصادر إلى أنه لم يُشارك في تفاصيل المقترح مسبقًا، ومع ذلك عبّر عن دعمه له، فحاول أن يخفّف من جماح تصريحات ترامب بالقول إنها ليست “خطوة عدائية”، بل خطة “سخية جدًا” من جانب الولايات المتحدة للمساعدة في إعادة إعمار غزة، وأضاف “الكثير من الأجزاء في غزة، حتى لو عاد الناس إليها، فلن يكون لديهم مكان للعيش بأمان، لأن هناك ذخائر غير منفجرة وحطامًا وأنقاضًا”.
لكن ترامب عاد، في 6 فبراير، في مؤشر آخر على غياب رؤية واضحة حول هذه المسألة في إدارته، ليؤكد أن إسرائيل ستسلّم قطاع غزة للولايات المتحدة “عند انتهاء القتال […] وإعادة توطين الفلسطينيين في مجتمعات أكثر أمنًا وأجمل، من دون أن يوضّح مقصده من ذلك، وما إذا كان يعني السماح لإسرائيل باستئناف العدوان على القطاع وتهجير سكانه بالقوة العسكرية، أم عبر منع المساعدات الإنسانية ومواد الإعمار من دخوله، ولا تتوافق تلميحات ترامب هنا مع تفاخره بأنه هو من تمكّن من تحقيق وقف إطلاق النار في قطاع غزة قبل يوم واحد من تسلّمه الرئاسة، ولم يمضِ يوم واحد على تصريحه الأخير، حتى عاد ليؤكد أن “الولايات المتحدة ستنظر إلى الأمر [السيطرة على غزة] باعتباره صفقة عقارية […] لكن لا داع للتسرع في فعل أي شيء”، ومع توالي الانتقادات الموجهة إليه بأنه يبدو في طرحه نحو غزة أنه مطور عقاري أكثر من كونه رئيسًا للولايات المتحدة حاول مستشاره للأمن القومي والتز تبرير الأمر بالقول إنه “لا أحد لديه حل واقعي [لقطاع غزة]، وإن الرئيس يطرح بعض الأفكار الجديدة الجريئة جدًا على الطاولة […] أعتقد أن هذا سيجعل المنطقة بأكملها تأتي بحلولها الخاصة إذا لم تعجبها حلول السيد ترامب.
ولم تأت هذه الانتقادات من أطراف عربية ودولية فحسب، ولا من الحزب الديمقراطي وحده، بل حتى من الجمهوريين أنفسهم الذين رأوا فيها نكوصًا من ترامب عن شعاره الذي يهتدي به في سياسته الخارجية “أمريكا أولًا”، ويشير هؤلاء إلى أن طموحاته في السيطرة على واحدة من أسوأ مناطق الكوارث في العالم تتناقض مع انتقاداته لأسلافه في التورط في حروب لا نهاية لها، أو انتقاده لمحاولة جورج بوش الابن إعادة بناء العراق بعد احتلاله عام 2003م، وأشار نقّاده من الجمهوريين إلى أن نيته السيطرة على قطاع غزة وإعادة إعماره، التي ستكلف عشرات المليارات من الدولارات، تتناقض مع سعيه لإغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID بذريعة أنها تنفق مليارات الدولارات على المساعدات الخارجية سنويًا هباءً.
تداعيات المقترح
سيكون لإصرار ترامب على مخطط تهجير سكان قطاع غزة تداعيات كبيرة، خصوصًا أنه يتحدّث أيضًا عن أن إدارته ستبتّ في إمكانية الاعتراف بضمّ إسرائيل أجزاءً واسعة من الضفة الغربية ، وتخشى بعض الأوساط في واشنطن من أن مجرد طرحه المقترح قد يؤدي إلى زيادة العنف في المنطقة وتخريب اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل المحتجزين بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، ولا سيما أن نتنياهو يحاول التنصل بكل طريقة ممكنة من تنفيذ المرحلتين الثانية والثالثة في الاتفاق الذي توسطت فيه قطر ومصر والولايات المتحدة، وفعلًا، فقد صدرت جملة من التصريحات عن وزراء يمينيين إسرائيليين يؤيّدون فكرة ترامب بتطهير قطاع غزة عرقيًا، ومن ذلك الأمر الذي أصدره وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس، في 6 فبراير، للجيش بإعداد خطة للسماح بالخروج الطوعي للسكان من قطاع غزة
ومع أن نتنياهو وصف اقتراح ترامب بـ “الفكرة الرائعة التي يجب فحصها ومتابعتها وتنفيذها […] لأنها ستخلق مستقبلًا مختلفًا للجميع، وتعيد تشكيل الشرق الأوسط وتجلب السلام” فإنه من غير الواضح إذا ما كانت إسرائيل ترغب فعلًا في تسليم الولايات المتحدة ملكية غزة والتنازل عما تعدّه حقًا لها، وعلى الأرجح أن إسرائيل ترغب في توظيف قدرة ترامب على الضغط على الدول العربية لقبول فكرة تهجير سكان قطاع غزة والمساهمة في إعادة إعماره بدعم دولي، ثمّ تمكينها من السيطرة عليه ضمن ترتيبات مع واشنطن، وربما بضمانات لشركات ترامب وشركائه، ولا شك في أن نتنياهو غادر لقاءه مع ترامب سعيدًا، على الأقل لناحية تضييع الأخير فرصة الضغط عليه للالتزام باتفاق وقف إطلاق النار الذي يزعم الفضل فيه لنفسه.
ويحذّر البعض في واشنطن من أن إصرار ترامب على هذا المقترح قد يعيق مساعيه الأخرى لتوسيع دائرة الاتفاقيات الإبراهيمية، خصوصًا بعد إعلان السعودية موقفًا رافضًا لأيّ مساع لتهجير الفلسطينيين من القطاع، وتأكيدها أنها لن تطبّع مع إسرائيل من دون ضمانات لقيام دولة فلسطينية، وهو ما يرفضه نتنياهو تمامًا، ويقول هؤلاء إن فكرة استيلاء الولايات المتحدة على غزة تقلب الموقف الأمريكي الرسمي، الذي يتبنّى منذ عقود طويلة، حل الدولتين رأسًا على عقب، كما أن من شأنه أن يدفع الولايات المتحدة إلى قلب الصراع “الفلسطيني – الإسرائيلي” بطريقة حاول الرؤساء السابقون منذ عهد هاري ترومان تجنّبها، كما أن الضغوط التي يمارسها ترامب على الأردن ومصر قد تؤدي إلى قلاقل في البلدين الحليفين لأمريكا.
خاتمة
يرى بعض مستشاري ترامب أن مقترحه بسيطرة الولايات المتحدة على قطاع غزة “خيالي”، وأنه سيتلاشى بمرور الوقت بعد أن يتضح له أنه غير قابل للتطبيق[22]، لكن هذا سيعتمد بالدرجة الأولى على مستوى المقاومة التي سيواجهها المقترح فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا، فآراء ترامب وسياساته ليست قدرًا إذا كان ثمّة موقف فلسطيني وعربي رسمي لا يكتفي بالرفض فحسب، بل يقدّم خطة عملية لتثبيت الشعب الفلسطيني في أرضه في قطاع غزة، تضمن إعادة إعماره ودعم صمودهم على أرضهم، إن الرد على مشروع ترامب الاستفزازي الخطير يبدأ بكسر الحصار على قطاع غزة من الجانب العربي، من بوابة مصر، وتقديم العون والإغاثة والسكن المؤقت لسكانه من دون التنسيق أو انتظار الإذن ممن يمارس الإبادة ويخطط لتهجيرهم، أما الخطوة الثانية فهي الضغط على الفلسطينيين لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وإنشاء هيئة تابعة للسلطة الفلسطينية لإدارة غزة، وتشكيل هيئة عربية أو عربية – إسلامية تضع خطط الإعمار، وتخصص لها الميزانيات اللازمة لتنفيذها، وتحثّ الفلسطينيين في الوقت ذاته على رفع دعاوى تعويض ضد إسرائيل وتدعمهم في هذا المسعى، ومثل هذه الخطة، فحسب، تهمّش مسعى ترامب ونتنياهو، وتضع حدًّا لعبثهما بمصائر الشعوب في هذه المنطقة.

*المصدر / المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

مقالات مشابهة

  • الليلة.. قطع المياه 7 ساعات عن مدينة المحمودية في البحيرة لأعمال صيانة
  • قطع المياه عن مدينة بنها بالقليوبية.. اعرف السبب
  • قطع المياه عن مدينة بنها بسبب عطل مفاجئ
  • انخفاض منسوب المياه في سدود كوردستان وتحذيرات من أزمة وشيكة
  • خطة ترامب لتهجير سكان قطاع غزة.. أصل الفكرة.. آفاقها.. وتداعياتها
  • شهيدان في قصف خيمة في مدينة حمد شمال غرب محافظة خان يونس
  • سكان مدينة عراقية منزعجون من صوت الأذان والقرآن عبر مكبرات الصوت (فيديو)
  • شهيدان في قصف خيمة في مدينة حمد شمال غرب خان يونس
  • جيش الاحتلال يطالب سكان غزة بإخلاء جزء من مدينة رفح جنوب القطاع
  • جولة للمكلف بتسيير أعمال الإدارة المحلية في محافظة ريف دمشق على مجلس مدينة دوما