حين ينصرف العقل العربي لجعل كل فاعلية فيه ما هي إلا شكل من تجلٍ سياسي خشن أو مصنوع، فإنه يغلق بوابات الوعي على معنى واحد، وهو الظن بإطلاق أن السياسة هي من تشكل الظاهرة، أي أن الوعي السياسي هو المسؤول على تركيب الجمعي في المجتمع، وهنا الأذى كله، الأذى من تحقيب المعقد في البسيط، وهو القول بألا جدوى من تحليل مظاهر سلوكنا أو ردَّات فعلنا أو حتى كمون تصورنا حول الذات والعالم، والحقيقة أنه لا فائدة من أية مقاربة تريد تدبير أحوالها المعرفية بجعل السياسة أساس البنية وليست جزءًا منها، وفي ظننا أن جملة مشكلاتنا في الواقع العربي مردها هذا الوعي المقلوب، الوعي الشقي الذي يحمل صليبه ويعلن توبته من أي جهد عقلاني لتفسير الواقع لا الاعتراف به كتراكم ظاهراتي يحتاج التفكيك لأجل فهم طبائعه وتحديد مساراته.

ومن مظاهر أزمة العقل العربي أنه غارق في التأملات المُجَرْمة حتى قبل تشكلها، عقل يريد من العالم أن ينحاز إليه لا أن يعمل لأجل تحريك واقعه بالصورة التي يجبر بها العالم على الاعتراف بجدارته مساهماً في اللحظة الكونية الراهنة، عقل مفارقٌ لأسباب الفعل ومختبئٌ في التنكر والانتصار لكل ما هو غير عقلاني.

فمشكلاتنا ليست قدراً مكتوباً كما نظن، هي مشكلات تركبت وتعملق حضورها بسبب الغياب الحرج للعقلاني فينا، فما ظل يمارسه العقل العربي ويشيع بين أبنائه أن أزماته قادمة من الخارج، وأنه مستهدف في وجوده لا شيء إلا لكونه يشكل خطراً على العالم، والحقيقة أن مثل هذه التصورات ليست إلا استغلالاً معيباً لتراث يحكمنا دون أن نبدي أدنى قدرة على مقاومته، والتنصيص على صلاته بالراهنية التي ننتمي، إنه تراث متحكمٌ فينا بصورة قاهرة، والحل، هو العمل على تحييد العناصر المتكلسة فيه لصالح علاقة إيجابية مثمرة.. فما السبيل إلى ذلك؟!.

إن الراهن الذي يعيشه العربي ويمارس من خلاله وصفه لذاته والعالم، يعيشه في حالات من إنكار المشكلات، والعمل على رفعها إلى أعلى، فكل الذي يصيبنا ليس من صنع أيدينا، والحل في إعادة فهم مفردات التكوين والتشكل، ولنبدأ حقاً فواجبنا العمل على الخروج من الحالة التوفيقية إلى المواجهة المنتجة، وهي معركة ثقافية بامتياز، فالحل المقترح لا يريد الذهاب بالمسألة إلى حيز التأسيسات النظرية، بل هو إيمان عميق بأننا سننجو إن واجهنا أنفسنا بأكبر متاعبنا، وهي غياب التفكير الناقد والمواجهة الصريحة مع الذات، والسبب ببساطة أن رصيدنا من التحليل الثقافي متواضع في مقابل طغيان التسييس لكل شيء، إن المجتمع العربي وهو يحزم حقائب حزنه على انهزاماته، ليس بقادر على فعل شيء أكثر من الحزن المجاني، ذلك أننا لم نفهم بعد طبيعة الاجتماعي لدينا وهو ما قيَّد فاعليتنا في الالتحام بقوة من أجل قضايانا العادلة، إن غياب أثر العامل الثقافي هو المسؤول مباشرة عن تصلَّب حضورنا السياسي والاقتصادي، فالسياسة حين ترشد تبدو أكثر طواعية لتمثيل الثقافي فينا، والاقتصاد كي ينمو ويحقق لنا اكتفاءً في الغذاء، وتحسيناً في سلوك الاستهلاك فإنه لن يستطيع ذلك دون أرضية اجتماعية قادرة على تحديد الأولويات وليست محبوسة في أفق مادي يُعَّرِف قيمة الشيء بإشباعه، بل حتى قضية التفاوت بين طبقات المجتمع العربي (الحقيقة لا توجد طبقية في الاجتماع العربي) فإنها مزيفة، والسبب فيها غياب الثقافي في السياسي/الاقتصادي، ففي الاقتصادي لو فكرنا بصورة جدية لإصلاح هذا الفضاء المعقد التركيب فإننا مطالبون بالنظر إلى الطرف الآخر من المعادلة، وهو غياب التنمية الاجتماعية مع بروز مظاهر للنماء الاقتصادي المرتبط بفئات بعينها في الظاهرة وتتمنع فيها عمليات الانتقال بين أفراد المجتمع، وهنا فسياسات مثل «التشغيل» و«الضمان الاجتماعي» وإن أثمرت في لحظات الأزمة إلا أنها ستعمق من مسألة التفاوت الاقتصادي بين الفئات الاجتماعية المختلفة، ولذا فالمطلوب سياسات تجريبية تصنعها الحكومات العربية لأجل إصلاح لوائح العمل بصورة تداركية مما يسهم في توفيق العلاقة بين السوق والخريجين، ومن فوائد ذلك حتمية الإصلاح المؤسسي وإقامته على ديناميكية تراعي في المقام الأول استيعاب منظم للطاقات ومن ثم توزيعها على دوائر الفعل الاقتصادي التنموي في أي قطر عربي.

هذا اقتصادياً، أما اجتماعياً فإن المهمة الرئيس هي وكما نكتب دائماً يكمن في «السياسات الثقافية» وهي التي ستنقل القطاع الثقافي من كونه يرقص خارج الحلبة إلى فاعل رئيس في عمليات التنمية الاجتماعية، إذ تقوم هذه السياسات على ترميز الإنتاج الثقافي ما يصنع له قيمة مضاعفة في السوق، هذا عوضاً عن أنه سيركب أكثر معالم الهوية كونه يفتح الباب أمام عملية استقلال ثقافي مرتبط بالوجدان الاجتماعي المتنوع، وهذا هو الغائب عند المعنيين بإدارة الفضاء الثقافي في الوطن العربي، وبصورة أكثر وضوحاً تقوم السياسات الثقافية بدور مزدوج، فمن ناحية ستسهم هذه السياسات في تطوير الصناعات الثقافية وتحريرها، وهذا ما يمنح الفاعل الاجتماعي القدرة على تحقيق أكبر قدر من التمثيل له في تلافيف الظاهرة الجمعية، ومن ناحية أخرى لكي نستطيع فتح الطريق أمام الصناعات الثقافية فإننا نحتاج حتماً إلى دراسات ثقافية توفر الإطار النظري والمدخل لبناء اقتصاد سياسي للصناعات الثقافية يجعلها رافداً تنموياً مهماً.

إن غرض هذا المقال لفت الانتباه إلى ضرورة الفصل بين المعرفي والسياسي في المجتمع العربي، وأن ينصرف اهتمام الفاعلين الاجتماعيين بتطوير آليات الإصلاح الشعبي وأن يأخذوا مجتمعاتهم إلى ناحية الفعل المنتج وتخفيف تسييس كل شيء. والمهام الملقاة على عاتق المثقفين الوظيفيين أن يعرفوا كيفية استثمار أدواتهم لأجل بناء واقع أكثر ثراء بدلاً عن إضعاف فاعليتهم بأعذار ضيق المجال السياسي، فالسياسة في أقصى تجلياتها لا تعدو أن تكون فعل لمراقبة سريان القوانين في السياق والاطمئنان إلى استقرار البنية الشاملة في المجتمع حفظاً لأمنه وصوناً لسلامه الثقافي..

غسان علي عثمان كاتب سوداني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العقل العربی

إقرأ أيضاً:

نقيب «مستخلصي الاسكندرية»: الجمارك الخضراء خطوة نحو اقتصاد أكثر استدامة

أكد محمد العرجاوي، نقيب مستخلصي جمارك الإسكندرية، على الارتباط الوثيق بين منظومة العمل الجمركي التنفيذي والمجتمع التجاري، باعتبارهم شركاء في النجاح والتنمية، ولا يمكن الفصل بين المنظومتين. بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر المجتمع التجاري والمستخلصون والمستثمرون والمستوردون والمصدرون قاطرة الاقتصاد الوطني.

أوضح العرجاوي، أن تلك القاطرة تحتاج إلى تضافر جهود الجهات المعنية بالدولة المصرية لتقديم التيسيرات والتسهيلات والحوافز التي تساهم في وصول تلك القاطرة إلى بر الأمان والاستقرار، حتى تستطيع أن تقوم بدورها في عمليات التنمية المستدامة لمصرنا الحبيبة ولشعب مصر العظيم.

جاء ذلك خلال فعاليات ملتقى الجمارك الخضراء 2025، الذي نظمته كلية الأعمال بجامعة الإسكندرية بمشاركة المجتمع التجاري والمستخلصين والمستثمرين والمستوردين والمصدرين في الإسكندرية وقيادات المجتمع التجاري.

ونبه العرجاوي إلى علاقة المجتمع التجاري بالجمارك الخضراء، باعتبارها منظومة عالمية مرتبطة بمنظومة الجمارك العالمية وبالبيئة الدولية المرتبطة بالتجارة بين دول العالم.

شارك في الملتقى عدد من القيادات الجمركية على رأسهم الدكتور مجدي الشهاوي، رئيس الإدارة المركزية لجمارك الدخيلة، والدكتورة أمل الجابري، مدير عام مبادرات التطوير والإصلاح، والأستاذة نسرين خليل، القائم بأعمال مدير عام التنفيذ بالمعهد الجمركي، والأستاذة آيتن صباح عبد الله، مدير إدارة الجمارك الخضراء.

وتضمن الملتقى جلستين تناولتا محاور استراتيجية تدعم التحول البيئي في العمل الجمركي، حيث قدم الدكتور سعيد عبد العزيز والدكتورة هبة الطويل عرضاً حول “الجمارك الخضراء في نطاق الاقتصاد الأخضر”. كما ناقش الدكتور عبد الحكيم العلوي، عضو المجلس الاستشاري للاتحاد، مفهوم الجمارك الخضراء من منظور منظمة الجمارك العالمية والاتفاقات البيئية الدولية المرتبطة بالتجارة.

في الجلسة الثانية، استعرضت آيتن صباح عبد الله، مدير إدارة الجمارك الخضراء، تجربة مصلحة الجمارك المصرية في تطبيق مفاهيم الجمارك البيئية، بينما ناقشت الدكتورة أمل الجابري، مدير عام مبادرات التطوير والإصلاح الجمركي، مساهمة الجمارك المصرية في تحقيق الاستدامة.

واختُتم الملتقى بجلسة لعرض التوصيات، وتكريم عدد من المشاركين والجهات الداعمة.

الجدير بالذكر أن هذا الملتقى يعد منصة هامة لتبادل المعرفة والخبرات، وتعزيز التكامل بين القطاعات الأكاديمية والتنفيذية والتجارية، لتحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال تطوير الممارسات الجمركية البيئية.

مقالات مشابهة

  • "الألكسو" تمنح حاكم الشارقة وسام الاستحقاق الثقافي العربي في نسخته الأولى
  • نقيب «مستخلصي الاسكندرية»: الجمارك الخضراء خطوة نحو اقتصاد أكثر استدامة
  • «الألكسو» تمنح حاكم الشارقة وسام الاستحقاق الثقافي العربي في نسخته الأولى
  • «الألكسو» تمنح حاكم الشارقة «وسام الاستحقاق الثقافي العربي»
  • الإمارات.. دور فاعل لدعم آليات الحل السياسي في السودان
  • صحيفة أمريكية: الانهيار الاقتصادي يغذي التوترات في لبنان
  • تقرير للمجلس الاقتصادي ينتقد تقييد المسطرة الجنائية لدور المجتمع المدني في التبليغ عن قضايا المال العام
  • أمين صناعة ”المصريين: زيارة الرئيس السيسي إلى الكويت تجسيد لحكمة القيادة وبوابة للتكامل العربي الاقتصادي
  • مجلس محافظة الزرقاء ومديرية الثقافة يناقشان الخطة الثقافية لهذا العام .
  • اليمن يشارك في الإجتماع التنسيقي للحوار السياسي الاستراتيجي العربي_ الصيني