هل يمكن أن يقول العرب لا؟!
تاريخ النشر: 22nd, February 2025 GMT
الموقف الأمريكي من مصر ليس جديدا ولا مستغربا، فلقد شهدت العلاقات بين البلدين منذ ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، في مصر أوضاعا متناقضة على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت في مقدمة الدول التي أيدت الثورة المصرية، وقد اتسمت العلاقات خلال الفترة من ١٩٥٢إلى ١٩٥٤ بقدر من التفاهم السياسي، إلا أن ما كان يصرح به جمال عبد الناصر دائما من موقفه من إسرائيل ومن حديثه الدائم عن الوحدة العربية، كل ذلك كان يثير حفيظة الأمريكان، وخصوصا بعد أن تبنت أمريكا حماية إسرائيل بعد أن قررت بريطانيا الخروج من المشهد ونجاح مصر في التوصل معها إلى مشروع سحب قواتها من منطقة قناة السويس، وعلى الرغم مما ساد العلاقات المصرية الأمريكية من وئام، إلا أن أمريكا لم تكن صادقة ولا حسنة النية في علاقاتها مع مصر، خاصة بعد أن حددت حكومة ٢٣ يوليو أهدافا للثورة كان في مقدمتها إقامة جيش وطني قوي، وتمكنت بدعم سوفييتي من الحصول على صفقة الأسلحة التشيكية، وهي اللحظة التي شعرت فيها أمريكا بالخطر على إسرائيل وعلى مصالحها في المنطقة في ظل الصراع الأمريكي السوفييتي.
بدأ العداء سافرا حينما وقفت الإدارة الأمريكية ضد مشروع بناء السد العالي، وقام الرئيس الأمريكي (أيزنهاور) بدور كبير بهدف إعاقة تمويل البنك الدولي لهذا المشروع، الذي كانت تعوّل عليه مصر في برامجها التنموية الطموحة، ورغم كل العقبات التي وضعتها أمريكا أمام الإدارة الجديدة في مصر، إلا أن الاتحاد السوفييتي قام بالدور الأهم في تمويل المشروع ماليا وفنيا، وأصبح مثالا للمشروعات التنموية الكبرى في العالم الثالث، بعدها راحت الولايات المتحدة الأمريكية تمارس دورها في قضية الصراع العربي الإسرائيلي مقدمة كل الدعم العسكري والسياسي والمالي لإسرائيل منتظرة اللحظة التي تمكنها من ضرب مصر عسكريا واقتصاديا وإنزال هزيمة ساحقة بها، غير مكتفية بالهزيمة العسكرية، بل كانت طامحة إلى شيوع مناخ عام من الغضب ضد جمال عبد الناصر، سواء في مصر أو في كل العالم العربي، ولما كانت مصر تعمل جاهدة على استكمال مشروعها التنموي الكبير، وكان البنك الدولي متطلعا إلى دعم المشروع (السد العالي) باعتباره المشروع (الأنموذج) لكل دول العالم الثالث، وقد قطعت مصر شوطا كبيرا في التفاهم مع البنك، بعد إعداد كل الدراسات الفنية والمالية وجدوى المشروع اقتصاديا، إلا أن السياسة الإمريكية كانت تخطط لإفشال المشروع، وبذلت في سبيل ذلك قدرا كبيرا حال دون قيام البنك بدوره، ولم تخف أمريكا دورها في إفشال المشروع.
القضية كانت مثار غضب لكثير من دول العالم، لذا أقدم الاتحاد السوفييتي (وقتئذ) على تبني المشروع ودعمه ماليا وفنيا، ومضى المشروع الذي حظي برأي عام مصري هائل، أكسب جمال عبد الناصر قدرا هائلا من الشعبية في داخل مصر وخارجها، وخصوصا في العالم العربي الذي حظي فيه جمال عبد الناصر بشعبية كبيرة، وهكذا انشغلت مصر ببرامجها التنموية الكبيرة في الصناعة والزراعة والتعليم، وكان السد العالي هو أهم هذه المشروعات، إلا أن أمريكا لم تكن بعيدة عن المشهد، حينما تحيّنت الفرصة في وقت لم تكن فيه مصر مستعدة للحرب، ولم يكن اقتصادها مؤهلا لذلك، وكان جيشها يخوض حربا في اليمن، لذا جاءت حرب ٥ يونيو ١٩٦٧، وكانت أمريكا بأسلحتها واقتصادها وخبرائها وراء هذه الحرب التي أصابت كل مشروعات جمال عبد الناصر في مقتل، وبدا واضحا أن الولايات المتحدة الأمريكية حلت بدلا من بريطانيا في تبني قضية إسرائيل، وظهر واضحا عداؤها لجمال عبد الناصر شخصيا، واستطاعت بنفوذها وعلاقاتها الاقتصادية مع بعض الحكام العرب الذي كان جمال عبد الناصر يهدد مصالحهم الخاصة، وقد اصطف بعضهم لضرب مشروع جمال عبد الناصر السياسي والاقتصادي في مقتل.
بدا العداء سافرا وواضحا، ليس مع إسرائيل فقط بل ومع الولايات المتحدة الأمريكية، ومعهما معظم الدول الأوروبية، ولم يبق لمصر من أصدقاء إلا الاتحاد السوفييتي، الذي أمد مصر بأسلحة جديدة، مكنتها خلال 3 سنوات من أن تعيد بناء جيشها، وأن تُعنى بثقافة الجند، بعد أن التحق بالجيش كل خريجي الجامعات المصرية، وتمكنت مصر رغم تباين القوى من إنزال ضربات موجعة لإسرائيل خلال حرب الاستنزاف، وأتذكر أننا كنا طلابا في الجامعة، وقد التحقنا بالتدريب العسكري، وامتلكنا قدرا هائلا من الطاقة والرغبة في خوض الحرب في أقرب وقت ممكن. وجاءت الفاجعة الكبرى التي هزت وجداننا، حينما فاجأنا جمال عبد الناصر بالرحيل ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠، وكان الرحيل في أخطر وأصعب الأوقات، بعدها اعتلى الرئيس السادات سدة الحكم، وكانت الجامعات تموج بموجات متعاقبة من الثورة والغضب، سواء بسبب الرحيل المفاجئ لجمال عبد الناصر أو لموقفنا السلبي من الرئيس السادات، الذي لم نكن نراه بديلا مناسبا لجمال عبد الناصر، بل لم نكن بحكم عمرنا نرى أي شخص آخر بديلا لجمال عبد الناصر، وأعتقد أن طلبة الجامعة قد أرهقوا الرئيس الجديد، الذي أشهد له أنه تحملنا بصبر وثقة لم نكن نعرف مصدرها، وخصوصا بعد أن اتخذ قرارا كنا نراه متهورا حينما أقدم على طرد الخبراء العسكريين الروس، وكنا نعتقد أن ذلك مؤشرا لعدم رغبته في خوض الحرب التي نذر جمال عبد الناصر نفسه لها ومات من أجلها.
فاجأنا الرئيس السادات بحرب أكتوبر ١٩٧٣، واكتسب الرجل شعبية كبيرة لأول مرة، لكنه راح يردد مقولة إن أوراق القضية برمتها في يد الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن لعبت دورا رئيسا في وقف إطلاق النار، وراحت تخوض دور الوسيط المفاوض الذي لم نكن نراه نزيها أو محايدا، واستمرت المفاوضات التي مرت بظروف معقدة، لكن كانت مصالح إسرائيل هي القضية الأهم للولايات المتحدة الأمريكية، ورغم ذلك نجح السادات في استرداد سيناء كاملة بجهد دبلوماسي شاق، وزاد الأمر تعقيدا حينما قطعت الدول العربية باستثناء سلطنة عمان ومعها السودان والصومال علاقتها بمصر، وخلال كل العقود المنصرمة راحت إسرائيل تزداد صلفا واستقواء، وخلال حكم الحزبين الأمريكيين (الجمهوري والديمقراطي) وكلاهما قدما دعما إسرائيل سياسيا وعسكريا وماليا دعما غير مسبوق، ودخلت قضية فلسطين في أتون مفاوضات غير مجدية، وزاد الأمر تعقيدا تلك الصراعات المحتدمة بين الفلسطينيين، لدرجة أنه بات من الصعب جمع الفلسطينيين على قلب رجل واحد، لكي ينتهي الأمر بالعدوان الإسرائيلي على غزة ووصول الرئيس الجديد (ترامب) إلى سدة الحكم، لكي يفاجئ العالم بمشروع صهيوني يستهدف تهجير الفلسطينيين من أرضهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولعله المشهد الأكثر تعقيدا طوال فترة الصراع العربي الإسرائيلي، بل يعد المشهد الأصعب في تاريخ هذا الصراع.
يمارس الرئيس الأمريكي (ترامب) نفوذه على كثير من دول العالم، معتقدا أنه رئيس العالم كله، إلا أن معظم دول العالم رفضت هذا المشروع باعتباره تطهيرا عرقيا لا مثيل له في التاريخ، وأصبحت مصر والأردن وربما غيرهما من دول عربية أخرى مهددة لاستقبال أكثر من مليوني فلسطيني، بعدها تنتهي القضية الفلسطينية حيث يعيش الفلسطينيون في الشتات لكي يحيل ترامب فلسطين إلى أرض لا صاحب لها يحتلها الإسرائيليون، وقد صرح ترامب في أحاديثه بأن إسرائيل بلد صغير (لا حول له ولا قوة) في حاجة إلى أن تتمدد إلى أرض مجاورة، وهكذا أصبحت القضية مثار حديث العالم، ولعل هذا يدفعنا إلى أن نتساءل: ماذا نحن فاعلون ونحن أمام قضية وجود وسوف يحاسبنا التاريخ بكل قسوة؟ ألم يحن الوقت بعد لكي يجتمع العرب ويتفقوا لأول مرة في حياتهم على موقف حاسم وجاد ويقولون لا؟ ماذا سيفعل حينها ترامب أمام الموقف الصلب الموحد الذي يمكن أن يقفه العرب؟ إن الولايات المتحدة الأمريكية لها مصالح اقتصادية وأمنية وسياسية في منطقتنا، باستطاعتنا أن نقول لا. ولن نخسر الكثير وربما تخسر أمريكا أكثر منا بكثير. هل يستطيع حكامنا في اجتماعهم القادم أن يقولوا لا وأن يعبروا عن غضب شعوبهم؟ حينئذ سوف يحظون بدعم شعبي هائل من شعوبهم، ومن كثير من دول العالم. وحتى يقول العرب كلمتهم فسنظل في انتظار قرارهم متفائلين ومتوجسين أيضا.
د. محمد صابر عرب أكاديمي وكاتب مصري
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة الأمریکیة جمال عبد الناصر دول العالم لم نکن بعد أن من دول إلا أن
إقرأ أيضاً:
لبنان بين فكَّي كماشة.. “إسرائيل” والجماعات التكفيرية ينطلقان لنفس المشروع
عبدالحكيم عامر
في جنوب لبنان، جيش الاحتلال الإسرائيلي يكثّـف عدوانه على لبنان، وفي شرق لبنان، تتصاعد اعتداءات الجماعات التكفيرية المتمركزة في سوريا.
للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر وكأنه مُجَـرّد مصادفة، لكن الحقيقة والواقع يكشف أن الرصاصتين –واحدة بلسان عبري والأُخرى بلسان عربي– تنطلقان من نفس المشروع، وتخدمان ذات الهدف، بل وربما تحظيان بتمويل مشترك وإدارة غير مباشرة من نفس الجهة.
لماذا تتحَرّك الجماعات التكفيرية في هذا التوقيت؟
لم يكن غريبًا أن نرى الجماعات التكفيرية في سوريا تتجنب أية مواجهة مع العدوّ الإسرائيلي، رغم احتلالها ثلاث محافظات سورية وتاريخها الدموي ضد العرب والمسلمين، هذه الجماعات التي ترفع شعارات “الجهاد”، لم تطلق رصاصة واحدة على المحتلّ، لكنها في المقابل، تجرأت على استهداف لبنان بمحاولات تسلل واعتداءات على الحدود الشرقية، وكأنها تُكمل الدور الإسرائيلي في الجنوب.
العلاقة الخفية بين العدوّ الإسرائيلي والجماعات التكفيرية:
خلال الحرب في سوريا، كان العدوّ الإسرائيلي يقدم دعمًا غير مباشر للجماعات التكفيرية عبر فتح مستشفياته لمقاتليها المصابين، وتسهيل تحَرّكاتهم في الجولان المحتلّ.
تقارير استخباراتية عديدة أكّـدت وجود تنسيق بين بعض قيادات هذه الجماعات والاستخبارات الإسرائيلية، بما في ذلك تسليم مواقع الجيش السوري لحساب العدوّ الإسرائيلي.
هذا التحالف غير المعلن يخدم مصلحة الطرفين فالعدوّ الإسرائيلي تحصل على ورقة ضغط إضافية ضد حزب الله، بينما تحصل هذه الجماعات على دعم لوجستي وتسهيلات تجعلها قادرة على تنفيذ مخطّطاتها العدوانية.
تشتيت حزب الله واستنزافه:
يدرك الكيان الصهيوني أن حزب الله يتمتع بجاهزية قتالية عالية، مما يجعله عقبة كبرى أمام أي مشروع إسرائيلي في لبنان والمنطقة؛ لذا، فَــإنَّ استراتيجية “تعدد الجبهات” تهدف إلى إنهاكه.
عندما تقصف “إسرائيل” الجنوب اللبناني، فهي لا تستهدف فقط أهدافاً عسكرية، بل تعمل على خلق بيئة أمنية غير مستقرة تُجبر المقاومة على الانتشار في أكثر من محور.
بالتوازي، تتحَرّك الجماعات التكفيرية على الحدود السورية اللبنانية، مما يُجبر حزب الله على توزيع قواته بين الجنوب والشرق؛ ما يشكل ضغطًا استراتيجيًّا عليه.
فهل المطلوب حصار المقاومة بين فكي كماشة؟
الهجمات المتزامنة، سواء من الجنوب العدوّ الإسرائيلي، أَو من الحدود الشرقية، حَيثُ الجماعات التكفيرية، ما تتعرض له المقاومة من ضغوط متزايدة، ليس من قبيل الصدفة أن تتزامن هذه التهديدات، فالمشروع واضح: استنزاف المقاومة وتطويقها بين فكي كماشة، بحيث تجد نفسها مضطرة لخوض معارك متعددة تُضعف قدراتها العسكرية، وتخلق بيئة مضطربة تخدم مشاريع التفكيك وإعادة تشكيل المنطقة بما يتناسب مع المصالح الأمريكية والإسرائيلية.
وحيثُ يعكس استراتيجية واضحة تهدف إلى تطويق حزب الله وإرهاقه في أكثر من جبهة، لكن التجربة أثبتت أن المقاومة لديها القدرة على مواجهة هذه الضغوط والتعامل معها بمرونة تكتيكية عالية.
المعركة اليوم كما هي عسكرية، هي معركة وعي أَيْـضًا، فالإعلام الذي يروج للجماعات التكفيرية هو نفسه الذي يهاجم حزب الله ويبرّر العدوان الإسرائيلي، والأموال التي تُدفع لتسليح هذه الجماعات، هي نفسها التي تدعم مشاريع التطبيع والتآمر على محور المقاومة.
لبنان اليوم أمام تحدٍّ كبير، لكن المقاومة الإسلامية “حزب الله” التي صمدت في وجه العدوان الإسرائيلي وصنعت معادلات الردع، لن تسمح بسقوطه بين فكي كماشة العدوّ الصهيوني وأدواته التكفيرية.
فالتجربة أثبتت أن المقاومة الإسلامية تمتلك المرونة التكتيكية اللازمة للتعامل مع الضغوط المتعددة، سواء عسكريًّا أَو أمنيًّا أَو إعلاميًّا.
قد يكون الرهان على إسقاط حزب الله، لكن كُـلّ محاولات الحصار والتطويق باءت بالفشل، والتاريخ شاهد على ذلك؛ فكما سقطت مشاريع تفكيك اليمن، ستسقط أَيْـضًا أية محاولة لحصار المقاومة الإسلامية في لبنان؛ لأَنَّ من يعتمد على مشروع تحرّري مستند إلى إرادَة شعبه، لا يمكن أن يُهزم.
الرهان على إسقاط المقاومة رهان خاسر.. والتاريخ شاهد على ذلك.