يُعدُّ الانتماء حالة وجودية عميقة ترتبط بهويته وثقافته وتاريخه. الشاعر يعيش الانتماء كجزء أساسي من تكوينه الإبداعي، حيث يصبح هذا الانتماء مصدر إلهامه وقوة تعبيره. الانتماء أيضًا يخلق لدى الشاعر مسؤولية تجاه مجتمعه، فهو لا يكتب لنفسه فقط، بل يصبح صوتًا يعبر عن آمال وآلام الجماعة التي ينتمي إليها. من خلال شعره، يمكن أن يعبر عن قضايا وطنه، يدافع عن قيمه، أو حتى ينتقد ما يراه معيقًا لتقدمه.

هو الجسر الذي يربطه بماضيه وحاضره، وهو البوصلة التي توجه إبداعه نحو المستقبل. يُعدُّ الشاعر صاحب قضية، كما يُعدُّ الثائر بطبيعة الحال؛ فهو يعكس حال وواقع مجتمعه وأمته وظواهر هذا المجتمع وما فيه وما يعاني، وهو بصورة تامّة يرسم بوعيه الجمالي صورة واضحة المعاني الجمال، ويكون ذلك عفواً؛ أي من خلال إيمانه بقضيته التي يتحدث عنها، ولا يلبث الشاعر إلا أن يتبنى من ضمن هذه القيم الجمالية قيمةَ الانتماء؛ فهو لا يغفل عن هذه القيمة لما لها من أثر جمالي يصنع كينونته الشعرية وتفاعله الإنساني مع مجتمعه ووطنه؛ فهو عندما يخلّد هذا الانتماء –ونعني الانتماء الوطني – يعكس صورة جمالية لذاته بوعي مختلف عن القيم الأخرى، ولعلَّ هذه القيمة من أهمّ القيم لما تعنيه في فكر الشاعر وهويته ويمه الأخرى؛ فالشاعر عندما يبرز انتماءه لوطنه، فهو يجمع أغلب القيم الثانية: (الحزن والحب والألم والحياة والموت والسعادة)، ويمكننا أن نشاهد هذه القيمة في الشعر العماني المعاصر الذي عزّز هذه القيمة من خلال شعرائه الذين أولوها كلّ أهمية؛ فالشاعر يونس البوسعيدي يُعدُّ مثالاً ممتازاً جسَّد هذه القيمة بصورة حداثية جمالية جديدة بعيداً عن الاستعمال العادي المستهلك، إنَّما بقالب تتداخل فيه نكهات العام والخاص، فنجده يقول في قصيدة "أحجية في مرآة امرأة هولندية" من مجموعه بنكهة البرزخ:

"مسقطُ أحجيةٌ في مرآة امرأة هولندية

قالت:

((مسقطُ أمُّ الناسِ

الناسُ بمسقط مرجُ زهور يُسقى من حبٍ واحدْ

في مقهى في ((شطّ القرم)) و ((سوق السيب))

كما أسنان المشطِ

هنا الإنسانُ هو الميزانْ"

مسقطُ بنت الحبِّ، وبنت الحصنِ، وبنت النخل، وبنت البحر، وتلبس خنجر كالتنورْ

و (المريول) كأقفاصٍ من ذهبٍ لعصافير الفستانْ

مسقط يرمقها الحصنُ

ولكن يغفو في شاطئها الحورْ

مسقطُ بنت السمت الذهبي المتلألئ ...

وهي العذراءُ التختلس الرقص الشرقيَّ إذا سدرتْ في الخلوةِ والألحانْ

كالصوفيّ ينادمُ في محبسه السّجّانْ".

يظهر في هذا النصّ قيمة الانتماء بصورة سامية وذكية، يستخدم فيها الشاعر شيفرات سيمائية تقرّب القيمة الجمالية إلى النصّ، وتسبغ عليها طابعاً دلالياً جديداً محمّلاً بالحوار والدهشة والرمز؛ إننا نلحظ هذا منذ العنوان الذي كان حداثياً جداً، الأحجية هي السرُّ الذي يدور حوله موضوع الانتماء الذي يديره على لسان امرأة (هولندية )، ولعلّ اختياره لكونها هولندية ينبع من رغبته في أن يكون الحديث على لسان غريب، فهو لم يقل عمانيّة، ليكون الحديث أصدق، وليدلل على أنَّ الجميع يحبّون عمان ليس فقط أولادها، وأنَّ الحديث على لسان امرأة يعطي النص عاطفةً أصدق، فالشاعر بدأ الحديث بلسان المرأة ليعطي النص صدقه وعاطفته. في قوله (مسقط أم الناس) إشارة إلى أنّ مسقط وطنٌ جامع، يلمّ شمل الإنسانية جمعاء، يكتمل المشهد في حديثها فترى الإنسان في عمان حراً والناس جميعاً سواسيةً لا يفرق أحدهم عن الآخر في شيء، يسود العدل في النظر إليهم بشراً في وطن يحترم إنسانيتهم، وذكر الأماكن في النص دليل على قوة هذه الفكرة؛ المقهى والسوق أهم مكانين يجتمع بهما الناس من كل لون ، لا يلبث الشاعر العماني يطرح فكرة انتمائه لوطنه، ولا ينسى أن يصور محيطه ومكانته في داخل هذا الانتماء الاجتماعي والثقافي الذي يكوّنه ويتعايش معه وقد يختلف عنه أحياناً؛ فهو مع إبراز عاطفته التي تظهر في اعتزازه بهذا الانتماء، يظهر كينونته الاجتماعية داخل مجتمعه وما يعكس داخل هذا المجتمع، وأيضاً يصور حاله فيه وما يجابهه، وما يحاوله في رسمه الذي يستخدم فيه الكلمات:

"مسقط يشجر فيها الرعدُ بصوت النهّام

يصعد فيها المخيال لأعلى من نخلة فرضٍ بسمائلْ

والشاعرُ يطفو كبلادٍ بمدار السرطانِ

على أصداءِ قبائلْ

ويكسّر أسر الكلماتِ ليحيي سربَ أيائلْ

والمعنى جرحٌ خمريٌّ سائلْ

والرؤيا جوهرةٌ

تظهر دلالات قيمة الانتماء الجمالية في النص من خلال لمحات بلاغية بيانية، فعلى صعيد المعنى نجد فكرة الانتماء حاضرة بقالب بياني يؤكد فيه الشاعر على ذكر ضمير الـ (نا) أي نحن، ليؤكد فكرة الاتحاد والانصهار مع الجماعة، وهذا التوكيد مهم جداً، لا سيّما أن الانتماء الذي يتطرق إليه الشاعر انتماءٌ وطني يمثل هوية الشاعر ونزعاته وعواطفه:

"شرفات الحصن أمّي أثّثتها

بالحكايات: (ألا ياما.. وياما)

أفقها القاني كما التاريخ سرٌّ

دمُنا للأفق قد كان مُقاما

والسماوات لنا قد أرسلتنا

للطواغيت قياماتٍ ضراما

نحن معنى قولهم (ذات عمادٍ)

بالعمانيين دين الحبِّ قاما

ويظهر الشاعر متحدثاً باسمه المنصهر مع اسم الجماعة التي ينتمي إليها وهم أبناء وطنه، يصفهم ويفصل في صفاتهم وعاداتهم ومواقفهم وأيامهم، ولا ننسى أنَّ العلاقة بين الإنسان والانتماء علاقةٌ تلازمية، يتنوّع فيها التلازم (الانتماء) بتنوّع العلاقات الإنسانية في مكان وزمان محددين، فهو ظاهرة إنسانية قُدمى يرقى تاريخها إلى بداية تاريخ الوجود الإنساني نفسه. وإنَّ الرابط الأولى الذي يربط بين المرء وانتمائه هو الحب؛ فبتجربة الشاعر الإنسان لا بد من ظهور العاطفة التي تعدّ ركيزة من ركائز الانتماء الذي يمثّل جملةً من العواطف.

* فاطمة حيدر العطاالله شاعرة وروائية سورية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا الانتماء هذه القیمة هذه القیم من خلال

إقرأ أيضاً:

تعرف على عصابة أحمد أمين فى النص.. تفاصيل

شهد البرومو الرسمي لمسلسل "النُص"، من بطولة أحمد أمين، والمنتظر عرضه في رمضان 2025، الكشف عن أفراد عصابة "النُص".

ظهر في برومو العمل، تكوين عبد العزيز النُص "أحمد أمين" لعصابته الخاصة، وتتكون من 4 أفراد هم: درويش "حمزة العيلي" ورسمية "أسماء أبو اليزيد" وزقزوق "عبد الرحمن محمد" وإسماعيل "ميشيل ميلاد".

تخصصت العصابة في السرقة، وتدخل بشكل ما في مواجهات مع قوات الإنجليز خلال فترة الاحتلال، ما يدفعهم للبحث عن تلك العصابة.

أحمد مالك يكشف عن أول لقاء بالفنان طه دسوقى.. فيديوعصام صاصا من السجن لمسلسل "ولاد الشمس" فى رمضان.. تفاصيل الحكايةفى ذكراها.. قصة اعتزال نادية عزت وندمها على دور معبودة الجماهيرفى ذكراها .. عقيلة راتب فقدت بصرها ومواطن عرض عليها التبرع بعينهشخصيات مسلسل “النص” 

من المقرر عرض المسلسل خلال النصف الأول من شهر رمضان 2025، حيث سيُبث حصريًا على قناة ON.

يجسد أحمد أمين شخصية "عبد العزيز النُّص"، وهو نشال تائب عاش في ثلاثينيات القرن الماضي، يسعى إلى البحث عن مصدر رزق مشروع، إلا أن الأقدار تضعه في قلب صراعات سياسية وأحداث غامضة. ومع تصاعد الأحداث، يجد نفسه يتحول من مجرد نشال إلى بطل شعبي تتناقل الأجيال سيرته.

المسلسل ينتمي إلى فئة الدراما التشويقية ذات الطابع الكوميدي، ويضم نخبة من الفنانين، من بينهم صدقي صخر، حمزة العيلي، أسماء أبو اليزيد، دنيا سامي، عبد الرحمن محمد، وسامية طرابلسي.

يستند العمل إلى معالجة درامية مستوحاة من وقائع تاريخية، حيث يستلهم أحداثه من كتاب "مذكرات نشال" للباحث التاريخي أيمن عثمان، وهو من تأليف شريف عبد الفتاح، عبد الرحمن جاويش، ووجيه صبري، بإدارة محتوى من شركة Pensell، ومن إنتاج شركة أروما والمنتج محمد جبيلي.

مقالات مشابهة

  • 49.45 مليون يورو القيمة السوقية لـ"ديربي القاهرة"
  • الأهلي ضعف الزمالك.. القيمة التسويقية تصدم الأبيض قبل لقاء القمة في الدوري
  • تعرف على عصابة أحمد أمين فى النص.. تفاصيل
  • تربويون: "يوم التأسيس" بوابة لتعزيز الانتماء وبناء الأجيال القيادية
  • صراع «القيمة السوقية» قبل «ديربي» الأهلي والزمالك!
  • القيمة السوقية لأفضل 100 لاعب عالمي
  • القيمة التسويقية للأهلي والزمالك قبل لقاء القمة
  • أمير المنطقة الشرقية: ذكرى يوم التأسيس مناسبة خالدة تعزز الانتماء للوطن وقيادته
  • الثقافة بالإسكندرية تحتفي بمسيرة فنان الشعب سيد درويش.. صور