د. محمد بن خلفان العاصمي

وضع نيكولا ميكافيلي في كتابه "الأمير" مبدأً فلسفيًا، أصبح فيما بعد منهجًا سياسيًا واقتصاديًا سارت عليه كثير من الأنظمة وهو أن "الغاية تُبرِّر الوسيلة"؛ حيث يرى ميكافيلي من خلاله أن الناجح هو الذي يُبعد العواطف والمُثُل والقيم عن مساراته، وأن منطلق التفكير يجب أن يبدأ من المصلحة الذاتية الخاصة والمكاسب، مهما كانت الوسيلة، حتى لو كانت على حساب حياة الآخرين، دون النظر للمصلحة العامة! وهذا المبدأ كان الأساس لنشأة حقبة تاريخية شهدت حروبًا وصراعات طاحنة في جميع أنحاء أوروبا بالخصوص والعالم بالعموم، وهذا المبدأ الذي وضعه أصبح علامة للانتهازية الرأسمالية الامبريالية.

ولا بُد لنا هُنا من التطرق إلى تعريف الأنظمة الاقتصادية، حتى نصل لمفهوم شامل وربط متكامل بين أفكار المقال، وسوف أقتصرُ على ذكر 3 أنظمة اقتصادية؛ وهي: النظام الاقتصادي الحُر، والنظام الاقتصادي المُوَجَّه، والنظام الاقتصادي المُختلَط. ويُعرف الاقتصاد الحُر أو اقتصاد السوق بأنه "نظام يقوم بشكل أساسي على العرض والطلب في تحديد أسعار السلع والخدمات بشكل حُر من قِبَل البائع والمشتري؛ حيث لا يكون للحكومة أي تدخل في الشؤون الاقتصادية أو قد يكون لها دور ثانوي نمطي". أما الاقتصاد المُوَجَّه أو الاقتصاد المركزي فهو "نظام تتحكم فيه الحكومة بالسوق بشكل كامل؛ حيث تحدد أسعار السلع والخدمات وقنوات التوزيع وكمية الإنتاج، كما تُحدِّد المُنتجِين في بعض القطاعات". أما النظام الاقتصادي المختلط؛ فهو يجمع النوعين السابقين.

ولكل نظام من هذه الأنظمة سلبيات وايجابيات، وربما يُؤخذ على النظام الاقتصادي الحُر تأثيره على أخلاقيات العمل؛ حيث يؤدي إلى منافسة غير عادلة؛ مما يُضعف أخلاقيات العمل، وينتج عن ذلك زيادة في البطالة وعدم المساواة. وذلك على عكس الاقتصاد المُوَجَّه، الذي يَفرض قيودًا أخلاقية وأنظمة تَحِد من سيطرة الشركات والمؤسسات على الاقتصاد، وفرض نظامها على سوق العمل؛ الأمر الذي يُؤدِّي في النهاية إلى زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء؛ وهو ما يُؤثِّر بشكل كبير على البناء الاجتماعي والوضع الأمني والسياسي، ويخلق مشكلات مُتعددة في بنية الاقتصاد بشكل خاص والدولة بشكل عام. والنظام المُوَجَّه يزيد من القيود التي تفرضها الدولة على التجار وأصحاب الأعمال؛ وهو ما يخلق حالة من الصراع المستمر بين الطرفين.

لقد قامت الأنظمة السياسية في العالم كنتيجة وأداة للأنظمة الاقتصادية واستخدمتها لتنفيذ سياساتها للسيطرة المالية على دول العالم، وفي فترة الحرب الباردة برزت الأنظمة الاقتصادية كأهم عوامل الاستقطاب السياسي، وأُسست المنظمات الدولية التي تُشرعن هذه الأنظمة، وتَشكَّلت التحالفات ووُضِعَت الاتفاقيات والمعاهدات الدولية والتشريعات الخاصة بهذه المنظمات على غرار الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وغيرها من المنظمات العالمية، وما تلاها بعد ذلك من تحالفات ومجموعات اقتصادية، والهدف منها جميعًا خدمة الأنظمة الاقتصاديّة التي تتبنى أفكارها ومبادئها.

وبكل تأكيد، وبعد العرض السابق، يتضح ما هو النظام الأفضل والنموذج المناسب الذي يستطيع الموازنة بين الأمور المختلفة، دون إفراط أو تفريط؛ فالتنظيم الذي تَفرِضه الدول على الاقتصاد يمثل الأساس لتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة والنمو الاقتصادي والاجتماعي المنشود، وهو أمر يحفظ الحقوق للجميع ويُوجِد علاقة متوازنة بين المُنتِج والمُستهلِك، وبين أطراف الإنتاج وبين سلاسل التوريد والإمداد، وبين جميع مُكوِّنات القطاع، وكل ذلك يعود بالنفع على الجميع ويسهم في بقاء السوق في وضع حيوي ومُستدام؛ بعيدًا عن المخاطر التي تنتج عندما تتمكن فئة من الأخرى.

في المقابل، إنَّ إعطاء السوق مساحة من الحرية الاقتصادية أمر بالغ الأهمية؛ بما يضمن تطوير بيئة الأعمال وخلق التنافسية الاقتصادية التي تسهم في رفع معدلات الإنتاج المحلي وزيادة الدخل القومي وتحقيق التنمية الاقتصادية والنمو في القطاع الخاص، والذي يُسهم في تحريك عجلة الاقتصاد، وضمان تدفق رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية، والقدرة على جذب المستثمرين والشركات العالمية؛ وذلك من خلال المساحة المناسبة للاستثمار والتسهيلات والمميزات التي تقدمها الدولة لذلك. هذه الحرية التي يجب أن تتوافر في هذا القطاع هي في الأساس ضمان لسوق عمل متوافق مع الأنظمة والقوانين الدولية في هذا القطاع والتي تتمثل في انضمام الدول للمنظمات والاتفاقيات الدولية والتزامها بتحقيق معايير وشروط الانضمام إليها.

إنَّ استمرار التجاذب بين أطراف المعادلة في هذه الأنظمة لا يُساعد على خلق البيئة المناسبة للعمل والنمو، ورغبة الاقتصاديين في التحكم بشكل مباشر في تحديد شكل العلاقة ورغبتهم في إيجاد نظم وقوانين تتوافق مع توجهاتهم وتخدم مصالحهم دون النظر لبقية الأطراف، أمر بالغ الخطورة. وقد سقطت عديد الدول ضحيةً لهذا النوع من الأنظمة، وتمكَّنت كبرى الشركات ومجموعات الضغط من امتلاك القرار السياسي وتحكمت في مفاصل الدولة، وهو ما سَبَّبَ -ولا يزال- الكثير من المشكلات لها على مستوى الداخل والخارج، وظهرت الكثير من المشاكل التي تنعكس بشكل مباشر على المجتمع والمواطن كونه الحلقة الأضعف في هذه المعادلة.

وهؤلاء الميكافيليُّون لا يهتمون سوى بزيادة أرصدتهم وتضخم ثرواتهم، واستمرار مصالحهم الخاصة، غير مُبالين بما يدور حولهم من مشكلات اجتماعية ناتجة عن الوضع الاقتصادي، وفي كثير من الأحيان يُمارسون الضغوط على الحكومات، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالضرائب والرسوم والقوانين التي تُفرض عليهم والتي تَمس هامش الربح المالي العالي المتحقق لهم، ويستخدمون في هذا الجانب الكثير من الوسائل المتاحة لديهم لتسويق العديد من الأفكار المغلوطة في سبيل بقاء هذه السيطرة المطلقة. وفي الغالب تستجيب الحكومات لهذه الضغوط خاصة تلك التي لا تتمتع برؤية واضحة أو التي يُشكِّل التُجَّار وأصحاب الأموال جزءًا كبيرًا من أعضائها.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

بلا مجاملة

#بلا_مجاملة

د. #هاشم_غرايبه

لا يختلف اثنان في الأمة على تشخيص حالها الراهن، فالكل متفقون على أنها الآن في أسوأ وضع في تاريخها كله، الخلاف يحدث عندما يجري تحديد المسؤول عن ذلك، والأسباب التي أدت لهذه الحالة.
في كل الأمم الحية، من ينهض بها هم القادة إن كانوا مخلصين، ومن يدمرها هم القادة أيضا، سواء كانوا مستفيدين من ديمومة الوضع الراهن، أو رهنوا أنفسهم باختيارهم لاملاءات عدو الأمة، لذلك عندما ينسب سبب الإنهيار الى الشعب، فذلك تزوير من قبل هذه الأنظمة وعملاء أجهزتها الأمنية، ومن المنتفعين من الفساد ومن المرتعبين من عودة الدولة الاسلامية
دفاع المنتفعين والفاسدين عن مكتسباتهم مفهوم، لكن الأشد بلوى من ذلك عندما يصدر ذلك التشكيك عن القوميين واليساريين الذين يعتبرون أنفسهم قوى تقدمية مناوئة للإستعمار، فهم بذلك يحطبون في حبال الأنظمة، ويحافظون على تسلطها على أمتنا، بمناصرة أدوات من يدّعون مناوأته وهم أنظمة الحكم العربية، أي يفعلون عكس ما يرفعون من شعارات.
الحقيقة أنهم ما كانوا ليتخذوا هذا الموقف المتناقض لو كان التحول الديمقراطي المنشود سيوصلهم الى السلطة، لأنهم يعلمون أن خيار الغالبية العظمى من الشعب (لو أتيحت انتخابات حقيقية) سيكون لمنافسيهم (الإسلاميين). وعليه فمكسبهم متحقق أكثر في بقاء أنظمة القمع والفساد، لذلك يلتقون معها مصلحيا عند نقطة العداء للمنهج الإسلامي.
الخروج من هذا الواقع الأليم، معلق ومرهون بمعرفة المشكلة وبمسبباتها، فإذا تحدد السبب عرف العلاج، لذلك فسنبدأ بأساسها وهو أطماع الأروربيين في السيطرة على ديار الأمة بسبب الموقع الإستراتيجي والموارد الطبيعية.
لم يعد سرا القول أن بداية الإيقاع بهذه الأمة كان بعد الحرب العالمية الأولى، وتحول الأوروبيين من التصارع فيما بينهم الى تحقيق الرفاه باستغلال موارد الأمم الأخرى، والمرشح الأول كان الأمة التي تقطن الشرق الأوسط.
كانت الخطة بسيطة: فالصراع العسكري مع هذه الأمة العربية الإسلامية، ظل على مدى القرون الماضية سجالا، ومكلفا، لأنها موحدة على عقيدة واحدة، فالسبيل الأنجح تمزيق وحدتها، فقسموها أقطارا، وغرسوا في فلسطين كيانا لقيطا أغروا اليهود المشتتين باستيطانه، وتكفلوا بحمايته كقاعدة عسكرية متقدمة في قلب وطن الأمة، ولم يكن ذلك لينجح إلا بضمانات سرية من أنظمة حكم اختارتها من قيادات قبلية متناحرة أصلا، لإدامة التشرذم الإقليمي، واشترطت عليها التخلي عن فلسطين، وحماية ذلك الكيان فيها.
لتحقيق أمان الكيان، ألزمت الأنظمة بإفقار شعوبها، وجعلها تلهث طوال الوقت لتحصيل لقمة العيش، وبالإستبداد وقمع الحريات لمنع التململ.
وجُعل الفساد مؤسسيا، ومرتبطاً بالسلطة الحاكمة لتحصينه من الملاحقة القضائية، من أجل تبديد الموارد، وتعطيل التنمية، ومنع التقدم التصنيعي، لإبقاء التأخر الإقتصادي والإجتماعي وتبرير الهيمنة الغربية تحت مسمى خطط الإصلاح.
إذأ منتهى الأرب لدى الغرب بقاء هذا الحال، والذي لا يهدده أكثر من انتفاضة وحدوية، ولا يحقق حلم الوحدة غير العقيدة الإسلامية، لذلك انتهجت الأنظمة جميعها في كل أقطار العروبة العلمانية، وجعلت أولويتها محاربة كل من يدعو الى وصول الإسلام الى الحكم، لأن ذلك يعني توحدها من جديد، وعودة هذه الدولة مرة أخرى منافسة قوية للغرب.
ما تقدم من تفصيل الحال، ينطبق على كل قطر عربي، سواء كان غنيا بموارده مثل دول الخليج، فبددت أموالها فيما لا يرفع من قدر الأمة، أم مُفقَراً قصدا إفسادا وبمنعه من استغلال موارده مثل موريتانيا والأردن والصومال، فأوصلتها الى الدمار الإقتصادى…
ما يؤكد صحة التحليل الآنف تفصيله، هذا التطابق التام في أحوال 22 قطرا تمثل ما كان يعرف بالأمة العربية الإسلامية.
بعد التعرف على أساس المشكلة، فهل هنالك حل غير التغيير؟.
سيتصدى لذلك القلة المستفيدون من هذا الحال المائل وهم ثلاثة:

الفاسدون والإنتهازيون وعملاء اجهزة السلطة من بعض السلفيين متسلحين بفتوى الخروج على ولي الأمر، وبدعوى التخويف من الفوضى والخراب. القوميون واليساريون الذين يخشون أن يصل الإسلاميون الى السلطة إن جرت انتخابات نزيهة. المعادون تاريخيا للإسلام من الأقليات الطائفية، ولا يريدون تغيير الأنظمة لأنهم مطمئنون الى ممناعتها للإسلام، لذلك يريدون تغييرات تجميلية شكلية تحت مسمى “الدولة المدنية”.
السؤال للمترددين: ألا يكفيكم صبرا على هؤلاء قرنا من وعود التقدم والرخاء الكاذبة؟، فلو كانت ستمطر لرأينا غيوما على الأقل! مقالات ذات صلة ردّ السلام في خطبة الحجاج بأهل العراق 2025/02/21

مقالات مشابهة

  • بلا مجاملة
  • هل تُنهي انتخابات ألمانيا أزمة البلاد الاقتصادية غير المسبوقة؟
  • سلام: للضغط الأميركيّ على اسرائيل كي تنسحب بشكل كامل من النقاط التي لا تزال تحتلها
  • الاقتصاد السوري يحتاج إلى نصف قرن لاستعادة عافيته بعد الحرب التي دمرته
  • برنامج الامم المتحده الانمائي : الاقتصاد السوري بحاجه الى 55عاما للعوده الى المستوى الذي كان عليه في 2010قبل الحرب
  • مدير غرفة التجارة الأمريكية للشرق الأوسط تشيد بالتطور الذي يشهده الاقتصاد المصري
  • العامة للاستثمار: مصر وجهة استثمارية رائدة بفضل الإصلاحات الاقتصادية والتحول الرقمي
  • المشاط: ترفيع العلاقات المصرية الإسبانية يفتح آفاقًا أوسع للاستثمار والشراكة الاقتصادية بين البلدين
  • المشاط: ترفيع علاقات مصر إسبانيا يفتح آفاقًا أوسع للاستثمار والشراكة الاقتصادية