أول ما يرد على أذهان الناس حينما تُذكَر كلمة «الجمال» هو تلك الصور أو الأشكال المعتادة للجمال في دنيا الحياة، وهي صور الجمال الطبيعي؛ ومنه الجمال البشري كما يتمثل في النساء خاصةً، وجمال المَشاهِد الطبيعية: كالغابات والبحيرات والأنهار والجداول، وغير ذلك مما لا يُحصى عدده ومما لا يراه الناس في عالم الواقع المُعاش! فالواقع أن الناس في أيامنا هذه قلما يشاهدون جمال السماء التي تزينها النجوم كمصابيح، بسبب الابتعاد عن الطبيعة والعيش داخل أبنية مرتفعة ومتلاصقة تحجب عنهم عالم الطبيعة الذي فتن كانط، فقال: «شيئان يملآن النفس بالإعجاب والروعة: السماء المرصعة بالنجوم من فوقي، والقانون الخُلقي في باطني».
ولا شك في أن الكثرة الهائلة من صور الجمال الطبيعي التي تتجلى فيما نراه وفيما لا نراه، إنما تعد دليلًا قويًّا على وجود الخالق الذي يُوصَف بأنه «المصوِّر الأعظم»، باعتباره الخالق البارئ المُصوِّر. وهذا الدليل الذي أسميه «دليل الجمال» يمكن أن يضاف إلى الأدلة على وجود الله (وأرجو أن يُنسَب مسمى هذا الدليل إليَّ متى أراد أن يقتبسه أحد من الباحثين). وفحوى هذا الدليل أن صور الجمال المرئي واللامرئي في الكون هي من الكثرة بحيث لا تحصى، فهي إذن ليست مجرد مصادفات؛ كما أنها لا يمكن تسويغها وفقًا لمنطق الضرورة (كما في نظرية دارون على سبيل المثال)؛ فليست هناك أية ضرورة على الإطلاق تسوّغ هذا الجمال الهائل في التشكيلات اللونية على ريش بعض الطيور (كالطاووس والببغاوات) كيما تستمر في البقاء: فهذا الجمال المذهل على ريش هذه الطيور لا علاقة له بوظيفة الريش في التدفئة أو الطيران أو حتى إثارة الدافعية الجنسية. ومثل هذا يمكن أن يُقَال عن التشكيلات اللونية البديعة التي نجدها على جلد بعض الأسماك؛ فليست هناك وظيفة نفعية لهذا الجمال كي تبقى كأنواع حيوانية، بل إن العكس هو الصحيح، أعني أن هذه التشكيلات اللونية البديعة في بعض الأسماك، لا توجد غالبًا إلا في أسماك صغيرة لا تصلح لشيء، فهي لا تصلح حتى للأكل؛ وإنما تصلح فحسب للزينة! فالأسماك تتناسل وتتكاثر بصرف النظر عن جمال شكلها وهيئتها، بل إن من المفارقات المدهشة في هذا الصدد أن الأسماك التي تمتاز بألوان فائقة الجمال هي أسماك لا تصلح حتى للأكل.
والواقع أن هذا الأمر ذاته يذكرني بالجمال البشري نفسه الذي لا نجده فحسب في الشكل أو التكوين البشري للوجه والجسم، وإنما نجده حتى في الصوت البشري: فقد حبا الله البشر بملكات من الصوت بحيث لا يكون الصوت البشري مجرد أداة لتبليغ الكلام، وإنما يمتاز بقدرات على التنغيم والتعبير يمكن أن تبلغ درجة فائقة من الجمال، وهذا ما نجده في الأصوات الغنائية البديعية التي تبدو بوصفها إبداعًا إلهيًّا خالصًا، لا يمكن تسويغه أو تفسيره إلا بهذا الاعتبار: أعني باعتباره إبداعًا خالصًا. هذا الإبداع الإلهي الخالص هو ما نسميه عادةً بالموهبة. كنت أدعو الطلبة الذين أُلقي عليهم دروسي في علم الجمال، كنت أدعوهم إلى تأمل هذا الأمر، فأقول لهم: لقد حبا الله معظمنا بنعمة النطق والكلام، ولكنه حبا قلة منا بجمال الصوت، وحبا ندرة من البشر بالقدرات الفائقة في التعبير الجمالي عن هذا الصوت والتلوين فيه. ولكي أشرح معنى ما أقول لطلبتي، كنت استخدم مثالًا عمليًّا يُقرِّب المسألة من أفهامهم؛ فكنت أدعوهم إلى تأمل صوت المطربة الفذة: ليلى مراد. وهي مطربة فذَّة لأن الله أرادها أن تكون كذلك، أعني أراد أن يمنحها تلك القدرة الصوتية التي تتبدى في مدى اتساع الصوت، والقدرة على التنغيم في كل موضع من هذه المساحات الصوتية العريضة من دون جهد أو عناء، أعني من دون ذلك الجهد والعناء الذي يتبدى على وجوه المطربين العاديين إن حاولوا ملء تلك المساحات الصوتية، فترى عروق رقابهم نافرة بفعل شد الأحبال الصوتية، وترى شفاههم تنفرج إلى أقصى درجة وكأنهم يريدون الصراخ كي يبلغوا الطبقة الصوتية التي تبلغها ليلى مراد بكل سهولة، وبانفراجة ضئيلة للشفتين وكأنها ابتسامة عابرة!!
وكل هذا يؤكد في النهاية أن الجمال البشري أو الجمال الطبيعي في عمومه، إنما هو إبداع كوني لا تفسير له سوى أنه إبداع إلهي! ومع ذلك، فإن هذا الجمال الطبيعي يظل مختلفًا عن الجمال في الفن، وهذا هو موضوع مقالي التالي.
د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا الجمال إبداع ا
إقرأ أيضاً:
انطلاق فعاليات مؤتمر النقد السينمائي الدولي في الرياض.. اليوم
تنطلق اليوم فعاليات النسخة الثانية من مؤتمر النقد السينمائي الدولي في الرياض والذي ينعقد هذا العام تحت عنوان "الصوت في السينما" ويستمر على مدار 5 أيام بحضور العديد من المختصين والمهتمين بمجال النقد السينمائي حول العالم.
وتنطلق فعاليات اليوم الأول من مؤتمر النقد بندوة حوارية مع المخرج السعودي الكبير عبدالله المحيسن الذي يعد من رواد الإخراج في السينما السعودية مع مسيرة ممتدة على مدار أكثر من 50 عاماً.
ويدير الندوة في مؤتمر النقد الناقدان السعودي أحمد العياد رئيس تحرير منصة فاصلة السينمائية والمصري أحمد شوقي رئيس الاتحاد الدولي للنقاد "فيبرسي"، وتشهد الفعاليات عرض الفيلم الوثائقي القصير "اغتيال مدينة" والذي يعد أول أفلام المحيسن الإخراجية والذي قدمه عام 1976، يتناول الفيلم الحرب الأهلية في لبنان التي اندلعت عام 1975 بين الفصائل المختلفة، وتم تصويره مباشرة بعد بدء الحرب في بيروت، حيث كانت المدينة في خطر.
وعلى الرغم من المخاطرة التي تضمنها السفر إلى هناك، إلا أن تنوع اللقطات وغزارة الصور التي التقطت من قلب الحدث تعطي الفيلم قيمته التوثيقية الهامة، وتجعله سجلاً حيًا يكشف عن بشاعة الحرب، وعرض في حفل افتتاح الدورة الثانية من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 1977، وحصل الفيلم علي جائزة نفرتيتي الفضية لأفضل فيلم قصير متميز.
أهداف مؤتمر النقدويهدف مؤتمر النقد إلى تبادل الخبرات، وتعزيز المشاركات الوطنية والإقليمية والدولية في إثراء النقد السينمائي بصفته محوراً أساسياً في صناعة السينما".
ويركز مؤتمر النقد خلال النسخة الجديدة على مجموعة متنوعة من المحاور الإبداعية، حيث يقدم جلسات حوارية تتناول قضايا نقدية في عمق مفهوم الصوت في السينما وتأثيره على تجربة المشاهد، إضافةً لعروض تقديمية تتناول رؤى نقدية حديثة ومقاربات مبتكرة للنقد السينمائي.
ويضم مؤتمر النقد ورش عمل تفاعلية لتوسيع المنظور إلى مجال الصوت في السينما وتطوير مهارات نقده وتحليله، إلى جانب عروض سينمائية مختارة تتبعها مناقشات في "ركن النقاد"، مع أمسيات موسيقية تثري التجربة السينمائية من جانب سمعي، إضافةً إلى معرض فني يقدم أعمالاً متعددة الوسائط.
ويتضمن مؤتمر النقد أيضاً ركن مخصص للطفل والعائلة يحتوي على برنامج ثقافي تعليمي يهدف إلى تعريف الأجيال الناشئة بجوانب النقد السينمائي وعناصر الصوت في الأفلام، مما يسهم في تعزيز ثقافة الفيلم بطريقة تفاعلية وتعليمية، فيما يأتي الملتقى هذا العام بختام سلسلة ملتقيات النقد السينمائي التي نظمتها هيئة الأفلام في مدينتي "حائل" والإحساء" ضمن جهودها لدعم وتعزيز الحراك السينمائي في المملكة والمنطقة، وصناعة منصات تجمع المبدعين والرواد بالهواة والمهتمين، وتطوير الثقافة السينمائية في المنطقة.