جابرييل ماركيز.. فضيحة العصر
تاريخ النشر: 22nd, August 2023 GMT
غالبا ما تتجاهل الدراسات الأدبية الغربية عالم الصحافة. فأكثر ما تفعله -ربما- ذكرها أحيانا لجودة كتابات هذا الصُحفي أو ذاك، الذي يمتلك أسلوبا أدبيا، أو حين ينشر أحد الكتّاب سلسلة مقالات (أو ربما رواية على حلقات، كما كانت العادة في الماضي القريب) في صحيفة أو مجلة. المتخصصون بتاريخ الصحافة لا يبدون -بدورهم- أكثر انفتاحا على ذاك العصر الذهبي للصحف الذي قد مضى إلى غير رجعة؛ إذ تبدو الجُمل الجميلة اليوم عديمة الفائدة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ ومع ذلك، ثمة دراسات جامعية تحاول سدّ الفجوة بين الأدب والصحافة.
في أحد مشاهد روايته «الأوهام الضائعة» (1843) يقابل بلزاك بين مصيرين وشخصيتين تتعارضان في كلّ شيء. من جهة هناك دانيال دارتيز -وهو شاعر أرستقراطي- ومن الأخرى إتيان لوستو، الصحفي. يجسد كل واحد منهما نسقا معينا في الكتابة. يجد الأول أنه يجب على العبارة أن «تكون جادة وشبه مقدسة»، بينما يرى الثاني فيها تلك «الصداقة الحميمة السهلة». عدم التوافق هذا، أصبح دليلا مشتركًا بين جميع أولئك الذين صنعوا من الأدب -بعد بلزاك- حياتهم المهنية؛ إذ ثمة معارضات على مستويات عدة: المستوى الأول: مستوى الجمهور، فالصحافة «مهنة» تُوجه إلى جمهور واسع، بينما يُوجه الأدب -غالبا وفي أشكاله الأكثر رسوخًا- إلى قراء مختارين. المستوى الثاني: العلاقة مع اللغة، تشتهر الصحافة بممارسة الكتابة الواضحة والشفافة، أما الأدب فيدعي استخدامًا متميزًا ومتفوقًا للغة. وأخيرًا مستوى العلاقة بالوقت، النص الصحفي محكوم عليه بالتقادم السريع، بينما يجب على العمل الأدبي أن يكون جزءًا من المدى الطويل (الأجيال القادمة). الموضوعات معنية أيضًا، حيث من المفترض أن يبتعد الأدب عن الأخبار وقضايا الحاضر التي -وحدها- من شأنها أن تهمّ الصحافة.
ومع ذلك، لا يصمد هذا الفصل المبدئي بين الأدب والصحافة أمام الحقائق. فما أن نتوقف عن إحصاء أعمال شهيرة أو مؤلفين مكرسين وما صاحبهم من خطاب نقدي؛ كي ننظر إلى نتاج عصر كامل، حتى ندرك أن الحدود بين العالمين الأدبي والإعلامي تتلاشى لتفسح في المجال لسلسلة متصلة من الممارسات التي يصعب فصلها، على الرغم من شرعية كليهما التي تعتمد على حالات مختلفة، بل متعارضة، لا سيما عندما تكون الحياة الأدبية مستقلة إلى حدّ كبير. لكن تظل الحقيقة أنه من المثير للاهتمام خصوصا ملاحظة أماكن التقاطع بين هاتين العمليتين وهاتين المنطقتين لإنتاج المكتوب.
المثال الأوضح عن هذا التقاطع -وهو أمامي الآن- كتاب «فضيحة العصر» لجابرييل جارسيا ماركيز. فكما العديد من الكتّاب غيره، كان ماركيز صحفيًا غزير الإنتاج، لم يتوقف عن الكتابة والنشر في الدوريات المختلفة («إلبايس»، مدريد، «إلإسبكتادور»، بوجوتا، «مومينتو»، كاراكاس ...). ألم يصرح مبررًا «مهنته» هذه بالقول: «الصحافة ضرورة بيولوجية للإنسان»؟ (ولنذكر قبله في القرن التاسع عشر مثلا، إميل زولا، الذي قال: «لولا الصحافة لما تعلمت الكتابة». وهمنجواي أيضا، وغيرهما كُثر).
«فضيحة العصر»، ليست رواية منسية لماركيز أو مخطوطا لم يُنشر سابقا، بل طرأت مؤخرا، على بال ناشره الفرنسي المعتاد (جراسيه) فكرة جمع عدد لا بأس به من مقالاته الصحفية (أو كما يسميها «كتابات صحفية»)، التي يعدها «لحم جسده» ويعطيها هذا العنوان الملفت. سأسمح لنفسي أن أطلق عليها أيضا «حكايات متجولة»؛ إذ لطالما تجول ماركيز في أرجاء العالم وبخاصة في قارته، وكتب عنها، وهذا ما تشهد عليه هذه النصوص مثلما تشهد على موهبته ومهارته في سرد القصص التي تتألق وتغوي في كل صفحة، وكأنها تشكل «المختبر» الذي انطلقت منه كتاباته الروائية لاحقا.
ثمة دهشة تسيطر على هذه الكتابة بجميع أشكالها، دهشة الكاتب الدائمة، الذي يُحول أدنى سطر يكتبه إلى «سحر». لدرجة أنه ما من شيء يفصل بين صفحات هذا الكتاب «الصحفي» (المزعوم) وبين الروائع التي نعرفها، من «خريف البطريرك» إلى «وقائع موت معلن» وصولا إلى «الحب في زمن الكوليرا» وغيرها الكثير. أي مكان اجتازه ماركيز في هذا العالم، كان يترك عنده العجب، ليعيد خلقه بروح جديدة وساذجة بشكل مدهش. ليست سذاجة ملفقة أو نضارة مستعارة، ولكن بدهشة ملحوظة لدرجة أنها تبدو أحيانًا وكأنها قصة أحد الرواة القرويين، الغنيّة بكل ذكريات الشعوب الجماعية. كان حائز نوبل للآداب (1982) يجسد إلى حدّ الكمال ما كان يبحث عنه ميجيل أنخل أستورياس، هذا الــ (Gran lengua) -اللسان العظيم- كذلك كان ذاك الـــ (Hablador) -المتحدث ببراعة- وفق ما أطلق عليه زميله ماريو بارجاس يوسا. بهذا المعنى، تأتي هذه «المقالات الصحفية لتبدو وكأنها قصص السكان الأصليين، الذي يعطيهم ماركيز صوته الخاص. ألم يفعل ذلك أيضا في «مائة عام من العزلة» التي يعدها البعض أكثر أعماله تكاملا حين ولدت الأعجوبة الأولى من مغناطيس عملاق عرضه الغجر الذي كان يسحب خلفه القدور، والمقالي، والكماشة، والسخانات، كما تعذيب مسامير العوارض الخشبية؟ هكذا تمضي هذه الرواية، من سحر إلى آخر، لتصل إلى عالم من السحر و«المقدس». وهكذا أيضا تمضي «مقالات» هذا الكتاب حتى السياسية منها، أو تلك الأخبار الواردة من وكالات الأنباء (التي كانت تُسمى بــ «الأخبار التافهة»، كقصة «الكلاب المسحوقة»)، التي يعيد صياغتها على طريقته بعد أن يتقصى الموضوع؛ إذ تجعلنا نعيش من جديد هذه الأعجوبة أو هذه الدهشة التي تصل حدّ الذهول، عبر استدراج الغموض وغير المألوف والرائع.
يقاوم الواقع عند ماركيز دائمًا. وخير دليل على ذلك هو هذا التحقيق الطويل (ثلاث عشرة مقالة) الذي يعطي عنوانه للكتاب: تحقيق حول اختفاء فتاة صغيرة، وبالرغم من تراكم الحقائق والشهادات حول اختفائها، لا نعرف السبب ولا الكيفية بل «ازدادت الغيوم والظلام والأشباح». كأننا في داخل لوحة غويا الشهيرة «نوم العقل يولد الوحوش». تطلبت قضية اختفاء الفتاة عامين من التحقيق تكدست فيه الأوراق والأسماء والشهادات. سنتان لتكتب الشرطة في تقريرها «المقتضب» (نظرا لآلاف الصفحات): «غابت ويلما عن منزلها لفترة، لمدة أربع وعشرين ساعة». ويضيف ماركيز: «أثبت القضاء أنه قبل وفاتها بوقت قصير، أكلت ويلما مونتساي الأيس كريم». (أعتقد أن الأيس كريم في أدب ماركيز يستحق دراسة فعلا، إذ غالبا ما نجده حاضرا في كتبه).
هل «فضيحة العصر» يضم مجرد مقالات صحفية؟ أشك بذلك. إننا أمام أدب كبير جدير باسم ماركيز... الصحفي.
إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
اللقاء الأسبوعي لنادي ثقافة سوهاج بمكتبة رفاعة الطهطاوي
نظم نادي الأدب المركزي بقصر ثقافة سوهاج ضمن برامج وزارة الثقافة برئاسة الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة وإشراف الكاتب محمد ناصف نائب رئيس الهيئة وإقليم وسط الصعيد الثقافى ومتابعة جمال عبد الناصر مدير عام الإقليم وفرع ثقافة سوهاج برئاسة أحمد فتحي مدير عام الفرع اللقاء الأسبوعي للنادي بمكتبة رفاعة الطهطاوي وأدار اللقاء الأديب والشاعر الكبير محمد فاروق محمد رئيس مجلس إدارة نادى الأدب المركزي بسوهاج .
بدأت فعاليات الأجتماع الأسبوعي لنادى الأدب المركزي بكلمة ترحيب بالأدباء وشعراء نادى أدب قصر ثقافة سوهاج المشاركين فى الأجتماع وهم الشاعر الكبير عبد الرحمن الشريف والشاعر الكبير فتحي عثمان والشاعر أحمد عبد الظاهر والشاعر صبري ضاحي عبد الله والشاعر أحمد فتحي والشاعر محمود محمد محمود البحيري والشاعر عبد النبي حسين احمد وهشام ابو سحلى والشاعر يوسف صبري عزيز والشاعر عبد النبي حسين احمد والدكتور إبراهيم أبو كامل وروعة عماد أحمد محمد وياسر بكر وياسر فتح الله علي أعضاء نادي الأدب المركزي بالقصر.
قدم الأدباء وشعراء نادي الأدب المركزي بقصر ثقافة سوهاج بعض القصائد الشعرية والأدبية سواء باللغة العربية الفصحى أو اللهجة العامية ذات الطابع الخاص والمتميز والاستماع أيضآ إلى مجموعة من المواهب الأدبية الشابة الذين يتابعون ويواظبون بصفة دائمة على المشاركة التي تحظى بحب ودفء العمالقة من أدباء وشعراء سوهاج الكبار .
وفي سياق متصل واصل قصر ثقافة الطفل بسوهاج ضمن برامج وزارة الثقافة برئاسة الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة وإشراف الكاتب محمد ناصف نائب رئيس الهيئة وإقليم وسط الصعيد الثقافى برئاسة جمال عبد الناصر مدير عام الإقليم وفرع ثقافة سوهاج برئاسة أحمد فتحي مدير عام الفرع برنامج (إجازة مفيدة ) بالتعاون مع مكتبة رفاعة الطهطاوي بسوهاج .
بدأت فعاليات البرنامج بالسلام الجمهوري تلاه بعض الكلمات من الحاضرين أعقبها عمل مسابقة معلومات عامة للأطفال وتوزيع جوائز عينية للفائزين نفذت المسابقة إيمان فكري أخصائي ثقافي بقصر الطفل تلاها ورشة نادى علوم عن الفلك والنجوم والمجموعة الشمسية تنفيذ المهندسة هانيا إسلام مقلد خريج كلية علوم الملاحة وتكنولوجيا الفضاء بجامعة بنى سويف.