يشكو الضمير العربي دوما من حيف الدراسات الاستشراقية، ومن نظريّة المؤامرة، ومن تقصّد المستشرقين الإساءة إلى الحضارة العربية وإلى الدين الإسلامي، وإخراج صورة المسلم على هيئة سلبيّة لا تُطابق واقع التاريخ ولا واقع الحال. وهي انطباعات لا تخلو من وجاهة وصواب، غير أنّ أغلب هذه المواقف العربيّة من الفكر الاستشراقي هي مواقف ناتجة إمّا عن انطباعِ جاهلٍ وإمّا عن دراسة عالم، وهما موقفان متباينان نهجا ونتيجة، ذلك أنّ العارف العالم الدارس يُدرك الفارق بين قصدِ المتقصّدين والموقف الذي يبلغه المستشرق صدورا عن اجتهادٍ قابلٍ للجدل والردّ، فهل وقف العرب الذين يرون في الاستشراق شرّا وأذى وإساءة على أعمالٍ لمستشرقين غابت عن الدارس العربي واجتهادٍ أقصاه العرب ولم يُوَفّقوا حتّى في الإشادة بهذه الجهود؟ وهل أدرك المنتقدون الدغمائيّون للفكر الاستشراقي أنّ إهمالهم للتفكير في التاريخ وإعادة النظر فيه بعقلانيّة وموضوعيّة هو الذي ترك المجال فسيحا لتأثير الفكر الاستشراقي في تكوين العقل العربي والحال أنّ قسما من هذه الدراسات لا يُطلَب منها الإفادة العلميّة في أصل وضْعها، وإنّما الإفادة السياسيّة ليفهم «الكبار» طبيعة الشعوب التي يتعاملون معها، ولذلك هنالك أقسامٌ في الجامعات العالميّة الكبرى تدرس مختلف الحضارات الكونية، ويلجأ إليها الفاعلون السياسيّون لتشكيل صورة في تكييف المعاملات مع هذه الشعوب؟ ألم يقل كارل بروكلمان، أكبر المستشرقين الألمان، أنّ ما يُعدّه من دراسةِ تاريخ الأدب وتاريخ الحضارة العربيين هو لأجل إفادة الساسة وخاصّة وزارة الخارجيّة في بلاده، عندما أورد في كتابه المُشكِلِ (الذي نُخصّصه له المقالة اللاحقة) «تاريخ الشعوب الإسلاميّة»: «لا تزال كتابة تاريخ الشعوب والدول الإسلاميّة منذ نشأتها حتّى الوقت الحاضر ضربا من المحاولة الخطرة، لأنّ مصادر مثل هذا التاريخ لم تصبح بعد في متناول البحث، لم تخضع بعد للتحليل النقدي.
وليس يجرؤ فرد واحد على النهوض بهذا العبء. ومع ذلك فمن الخير، في ما يبدو، أن نقدّم للمعنيين بمسائل السياسة الدولية نظرة طائر عن مصاير المسلمين التي تتشابك اليوم بأحداث العالم على العموم بأكثر مما تشابكت في أيّ وقت مضى، والتي لا يُمكن أن تُعرض إلاّ عرضا أبتر ناقصا في كتب المراجع، وتواريخ العالم العامّة»؟ وفي الأثناء هنالك رجالٌ صدقوا في إخلاصهم للعلم وفي تقصّي منابته وآثاره، فكيف تلقّاهم الأطهار من ممثّلي العقل العرب؟ مثالنا الذي نصدر عنه في هذه المقالة، هو أعمالٌ للمستشرق التركي الأصل الألماني الكتابة العربيّ الهوى فؤاد سزكين، الذي لا يعرفه الكثير من المثقفين العرب، ولا يُدركون جهْده في إنارة الثقافة العربيّة والاهتمام بما أهمله الدارسون العرب الذين لا يتقن أكثرهم التفاعل مع تراثهم في قراءة موضوعيّة نقديّة تنأى عن التقديس وتبتعد عن الترذيل أيضا. فؤاد سزكين من المستشرقين الذين وفّروا للدارس العربي ولدارس الثقافة العربيّة مدوّنة وسيعة يُمكن أن تفتح مشاريع بحث كُبرى خاصّة في مجال العلوم العربيّة. ترك فؤاد سزكين للعرب موسوعة ضخمة بعنوان «تاريخ التراث العربي»، وهي الموسوعة النواة التي ضمّت بواكير اهتمامه بالحديث النبوي وروايته من جهة وبالعلوم العربيّة وما يطمح الرجل إلى إنجازه من إعادة قراءة جديّة وعالمة لتاريخ العلوم عند العرب، مع العمل على تحقيق مشروع متحف العلوم العربية والانصراف إلى إعادة تصنيع الآلات العربيّة القديمة وإعادة تشكيل الخرائط أيضا. لقد أخذت موسوعة «تاريخ التراث العربي» من المستشرق المهوس بالعلوم العربية ما يزيد عن نصف قرن ليُخرجها بالألمانية في سبعة عشر مجلدا، ولم يقطعه عن إتمام بقيّة المجلّدات إلاّ الموت، وقد تركّزت مباحث هذه الموسوعة أساسا في المسائل التالية: في علوم القرآن والحديث- التدوين التاريخي- الفقه- العقائد والتصوف- الشعر في مختلف عصوره- طب وصيدلة- علم الحيوان، البيطرة- السيمياء- الكيمياء - النبات والفلاحة- الرياضيات- الفلك- أحكام النجوم والآثار العلوية وما شابهها- اللغة والنحو- الجغرافيا والخرائط. ولعلّ الناظر ينتبه من عناوين المجلّدات إلى الجمع بين دراسة تاريخ اللّغة وتاريخ الفقه والحديث وتاريخ العلوم، وهو أمرٌ دالٌّ على فطنة الدارس، إذ أنّ العلوم عند العرب -وهي مقصد سزكين- يعسر أن تُتناول تأريخا وبيانا بمعزل عن علوم العربيّة وتاريخ الأدب وعلوم الفقه. وحسبُ هذا المستشرق أنّه قدّم رؤية متماسكة لعلوم الحديث وما يتّصل بها من قضايا شائكة خاصّة قضيّة المشافهة والتدوين (وموقفه هذا، خاصّة في دراسته للبخاري أثار حفيظة بعض العرب الذين تلقوا الدراسة بالرفض لا بالجدال، إذ هزّ الرجل ثوابتهم وما ركد من أفكارهم)، وحسبه أنّه كان ضليعا بلغة العرب واقفا على الفويرقات بين معانيها الدقيقة -وهو المُعطّل الأساسيّ الذي دفع عديد المستشرقين إلى تكوين أرضيّة معرفيّة قائمة على عدم إدراك اللغة العربيّة في معاني اللفظة المتعدّدة، ممّا ساق البعض منهم إلى أخطاء معرفيّة عميقة- وحسبه أنّه أوّل من أعاد تجسيم الآلات العربيّة التي صنعها علماء في تاريخ العرب، كما عمل على تقديم تصوّر متماسك للرؤية العلميّة عند العرب. ولا نريد الدخول في تفاصيل حياة فؤاد سزكين، ولا تقديم أثره البائن في إعادة قراءة التراث العربي في مستوياته المختلفة، ولكن أردنا من هذا المقال أن نلفت الانتباه إلى آثار هذا العالم الذي كانت له منزلة الريادة في تركيا التي تفخر به وفي ألمانيا التي تجذبه إليها، وأردت أيضا أن أُظهر أنّ مبعث العالم وولادته قد ينتجان عن قادح عارضٍ أو ملحظ بسيط أو حافز على قارعة الطريق، ففؤاد سزكين -حسب قوله- تشكّل اهتمامه العلمي وتحدّد توجُّهه ومساره انطلاقا من رغبةٍ فيه إلى تقصّي العلوم وخاصّة منها الرياضيّات من جهة وإلى تتبّع تاريخ الحضارة العربيّة من جهة ثانية، فكان مبحثُه جامعا بين الرغبتين، ناهيك أنّ السؤال تولّد عنده بسبب حافزين الأوّل اللقاء الفارق بأستاذه الذي أطّر شغفه ورغبته العلمية، المستشرق الألماني هلموت ريتر المشيد بالفكر العلمي في التراث العربي، وبمدرّسته التي كانت تنفي عن الحضارة العربيّة كلّ وجه علميّ. عالِمٌ يتشكّل من مقولتين متناقضتين، تُربكان تفكيره وتدعوانه إلى الانطلاق في البحث في التراث العربي والعمل على فهم آلياته وشخصيّاته ونظامه المعرفي، يقول: «عُدت إلى منزلي في ذلك اليوم (وهو يتحدّث عن يوم التقى فيه أستاذه المستشرق ريتر وحدّثه عن عظمة العلماء المسلمين وخاصّة منهم الخوارزمي وابن يونس وابن الهيثم والبيروني) وقد اعترتني حالة من الدهشة والتعجّب ممّا سمعته، ولم أستطع أن أنام، فمن ناحية يسيطر عليّ حبّ الاطّلاع على غير هذه الأسماء الأربعة التي حفظتها في ذاكرتي الشابّة، ومعرفة ما حقّقه هؤلاء العلماء الأجلاّء، ومن ناحية أخرى، كانت الكلمات التي سمعتها في المرحلة الابتدائيّة من مدرّسة الفصل المرتدية الملابس المبهرجة التي كانت تقول: إنّ العلماء المسلمين يؤمنون بأنّ الأرض محمولة على قرن ثور، وأنّهم لم يساهموا في شيء في المجال العلمي لخدمة البشريّة، لا تزال تُدوّي في عقلي، فانتظرت اليوم التالي بفارغ الصبر، وبدأت أفكّر في كيفيّة الاستفادة بأكبر شكل ممكن من هذا الأستاذ الذي يملك علما غزيرا»، ومن أرضيّة السؤال هذه، ينطلق ليخصّص كلّ عقود عمره لإنشاء معهد تاريخ العلوم العربيّة والإسلاميّة بشِطرٍ من أموال الجوائز القليلة التي تحصّل عليها وبمساهمة ضعيفة من بعض الدول العربيّة في جامعة فرانكفورت، وأسّس فيه متحفا للعلوم العربيّة جمع فيه ما يُقارب 800 نسخة مطابقة للأصل للأجهزة العلميّة والأدوات والخرائط التي اخترعها المسلمون، كما أسّس متحفا مثيلا له في إسطنبول، وخصّص أيضا كلّ عقود حياته لإنهاء موسوعة تاريخ التراث العربي التي تُعَدّ مصدرا أساسا وفريدا لتأريخ العلوم العربيّة. تتساءلون وأين العرب من كلّ هذا؟ هل شاركوا الرجل جهده وطموحه؟ هل تبنّت رؤيته مؤسّسات عربيّة؟ هل تناول أعماله أهل الدعاية للفكرة القائلة بأنّ الآخر يتقصّدنا ولا يفهم تراثنا؟ العرب تساءلوا وتجادلوا وانقضّت مضاجعهم في البحث عن جواب سؤال هو الأهمّ في منظورهم من كلّ ما تقدّم، وفحوى السؤال: هل نعتبر هذا المستشرق التركيّ الأصل مستشرقا أو نسميه مستعربا، باعتبار أنّه مسلم ولكنّه ليس عربيّا؟ وللنّاس في ما يخوضون ويتعالمون مهالك!
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية:
التراث العربی
ة العرب
ة التی
التی ت
إقرأ أيضاً:
كلية الآداب بجامعة بالوادي الجديد تناقش «إشكالية العلاقة بين المنطق والتكنولوجيا»
في إطار الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة، نظم قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة الوادي الجديد ندوة فلسفية علمية متميزة بعنوان "إشكالية العلاقة بين المنطق والتكنولوجيا وأثرها في تطور العلوم"، وذلك برعاية الدكتور عبد العزيز طنطاوي، رئيس الجامعة، وإشراف الدكتور محمد عبد السلام، عميد الكلية، وعناية الدكتور عاطف عبد العزيز، وكيل الكلية لشئون التعليم والطلاب، والدكتور مصطفى محمود، وكيل الكلية للدراسات العليا والبحث العلمي، والدكتورة مها علي حسن، رئيس قسم الفلسفة، بمشاركة عدد من أعضاء هيئة التدريس، وطلاب وطالبات كلية الآداب.
وافتتح الدكتور عاطف عبد العزيز معوض، وكيل الكلية لشئون التعليم والطلاب، فعاليات الندوة بكلمة ترحيبية بالحضور، وأكد خلال كلمته أهمية مناقشة العلاقة المتشابكة بين المنطق والتكنولوجيا وتأثيرها على تطور العلوم الإنسانية والطبيعية.
وأشار إلى أن هذه الفعالية تأتي في إطار سعي الكلية لتعزيز الحوار الأكاديمي وتبادل الأفكار بين الطلبة والأساتذة.
من جانبها، تحدثت دكتورة دعاء أبو جبل، المدرس المنتدب بقسم الفلسفة، عن "أهمية المنطق في بناء الأنظمة التكنولوجية"، مشيرة إلى أن المنطق يعد ركيزة أساسية في تطوير البرمجيات والأنظمة الذكية، كما تناولت تأثير الوسائل التكنولوجية الحديثة في تطوير العلوم، وكيف أسهمت التقنيات الحديثة في إعادة صياغة المفاهيم الجديدة في العلوم المتعددة.
وأكدت أهمية العلوم الإنسانية في بناء الإنسان، ما يؤكد أنه لا غنى لأي مجتمع عنها إذا أراد تطورًا حقيقيًا يعلي من قيمة الفرد، ويبرز سماته، ويستنطق همم أبنائه لتقدم منشود.
محافظ الوادي الجديد يلتقي المواطنين بأبو منقار بالفرافرة
كما شهدت الندوة مداخلات متعددة ومناقشات حية بين الحضور، حيث تبادل الأساتذة والطلاب الآراء حول أهمية وضع ضوابط لاستخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة بما ينعكس على المجتمع إيجابًا ويدفع للتصدي للتحديات الأخلاقية التي تترتب على استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة.
وأعرب الحضور عن امتنانهم للجهود المبذولة في تنظيم هذا الحدث الهام الذي أسهم في إثرار الحوار العلمي والفكري في الكلية.
من جانبه، قدم الدكتور محمد حامد زكي، أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة المساعد، في مداخلته شكره وتقديره لما بذلته الدكتورة دعاء أبو جبل في تقديم ندوة علمية ذات مستوى متميز، وأكد ضرورة استمرار قسم الفلسفة في تقديم مثل هذه الفعاليات الأكاديمية التي تسهم في تطوير الفكر النقدي، وتعزز المعرفة في مجالات جديدة.
في ختام الندوة، تم تقديم توصيات تهدف إلى تشجيع الطلبة على استكشاف العلاقة بين المنطق والتكنولوجيا من منظور متعدد التخصصات.