أحاول تهدئة نفسي، وتذكر النصيحة التي قالها لي صديقي الطبيب النفسي: جميع الناس يفكرون بالطريقة نفسها، يندهشون أحيانا لأنهم وفي لحظة خاطفة ينظرون لأنفسهم من الخارج، يراقبون تحركاتهم وما يحدث من حولهم، ويكاد هؤلاء الناس لا يصدقون أن هذه الحياة موجودة بالفعل، أن لديهم تعريفات، وحيزا يقفون عليه، وقصصا مؤرقة، وفواتير ينبغي دفعها، لكن سرعان ما يتدارك هؤلاء أنفسهم، ليعودوا إلى النغمة نفسها التي تتيح لهم العيش دون أن يجنوا! لكن بعضنا يقضي وقتا أطول على تلك الضفة، ربما أنا منهم، أولئك الذين يطيلون المكوث، أحاول أكثر من «الطبيعي» العودة إلى هذه اللحظة الزمنية التي تمر بينما أقضيها معلقة في الخارج، يخزُ بعض الناس أنفسهم بشيء حاد، يسقطون، أو يبدأون بالصراخ، لكنني بعد لم أكن في حافتهم نفسها.
بعيدا عن الفيزياء وما قد تسهم به في تشريح هذا المفهوم، يجعلنا الزمن لا في طريقة مروره فحسب، بل الطريقة التي نشعر بمروره فيها، بأننا مختلفون، ونتمايز عن بعضنا البعض بفهمنا ذاك وحده. لكن ما يجمعنا في آخر الأمر هو التشكك الذي يدفعنا للسؤال: هل عشنا بالفعل؟ هل عشنا كما نريد حقا؟ تظهر إجاباتنا في تنويعات عديدة، جوليان بارنز في رواية «الإحساس بالنهاية» يعود للماضي ويخفق في أن يخلق تغييرا على حياته وهو في الستين من عمره، يبالغ في تأويل تصرفات ابنته الأربعينية وتجاهلها له، ويتوق للحظات الخارقة، الوامضة التي تعني التغيير، التغيير الذي يعني كارثة في الصيرورة تشي بالعيش المحتدم.
يبدأ توني شخصية بارنز بافتعال قصص تستحوذ عليه، ويكتفي بطرف من القصة الحقيقية ليؤلف تلك التي يختلقها لتتلاءم ورغبته في العودة إلى ذلك الفردوس المفقود «الحياة»، فالرجل المعاق في الحانة التي يرتادها، هو بالضرورة ابن لصديقه الذي انتحر شابا، ويبدأ توني بالتصرف مع خيالاته كما لو كانت واقعا حقيقيا، الأمر الذي يظهر غرابة أطواره أمام الآخرين ممن يصطفيهم للعب الأدوار التي صنعها لهم. شيء واحد يوقف اندفاعنا المسعور في التصادم مع الواقع الافتراضي الجديد لتوني، هو صوتٌ قادم من ماضيه بالفعل، فيرونيكا التي تقول بين الفينة والأخرى: أنت لا تفهم، أنت لم تفهم قط، أنت لن تفهم أبدا. عندها نلتقط أنفاسنا بوصفنا قراء، لأننا ولهشاشتنا الخاصة بدأنا نصدق توني حقا.
أما رواية «ألعاب العمر المتقدم» للكاتب «لويس لانديرو» فإنَّ تلقي الزمن يعد اللحظة الحارقة نفسها، فبعد قضاء الشخصية الرئيسة حياتها في مكتب، تعملُ في وظيفة مملة وروتينية -لا تفهموا بأنني ضد المهن الروتينية، أحيانا هي كل ما نحتاج إليه بالفعل- عموما كان بطلنا هذه المرة يحلم بأن يكون شاعرا، وقد تدرب في طفولته المبكرة على اللعب بالكلمات، وفي فترة الصبا كتب قصيدة لأول فتاة أحبها، لكن القصيدة لم تنفعه في شيء كما سنقرأ في مجريات الرواية، هده الإحباط ولم يعد دون قرار منه لكتابة الشعر مجددا. وبعد أن يصل إلى سن التقاعد يتلقى اتصالا غريبا يهد حياته المستقرة، ليعيده إلى أحلام طفولته بكتابة الشعر وعيش حياة الشعراء الأسطورية التي نسمع عنها دوما، التشرد في العالم، ونيل الملذات دون تردد. في كلتا الروايتين التي كتبتا في مكانين وزمنين مختلفين، هنالك ما يطرأ على الإيقاع الرتيب لحياة الشخصيات الرئيسة، الأولى رواية بريطانية صدرت عام 2011 وألعاب العمر المتقدم للكاتب الإسباني لويس لانديرو صدرت عام 1989 في رواية بارنز، يتلقى توني بريدا سيغير حياته، وسيعيد من خلاله التفكير فيها، أما مع جريجوريو أولياس في رواية لانديرو فإن اتصالا من شخص غريب سيثير كل الرغبات المكبوتة لعقود.
ما الزمن إذن؟ متى تحين هذه اللحظة لكل منا؟ بارنز في روايته يتردد حول ما إذا كان الزمن نوعين، الزمن الموضوعي والزمن الشخصي، الأول تلك التواريخ المعينة سلفا التي اتفقنا عليها مثل اتفاقنا على قيمة النقود مثلا، أما الزمن الشخصي، فهو التاريخ الذي عشناه بالفعل، لا ربما لا يكون كذلك، ربما يكون التاريخ الذي أحسننا وشعرنا بأننا كنا نعيش فيه بالفعل. كانت إجابة بروست على هذا السؤال الملح، هي سباعية «البحث عن الزمن المفقود» وإعادة فتح الأبواب المغلقة، منذ تعلم الكلام وحتى التقدم في العمر، قرأتُ أربعة أجزاء من السباعية، وما استطعت الشعور به مع ذلك النثر البديع لبروست، هو الرغبة القاتلة في التيقن من أن شيئا ما حدث بالفعل، لا من أجل إقناع الآخرين بذلك، بل من أجل بروست نفسه. كأنما يقول: لقد كنت هنالك بالفعل، حدث هذا حقا، معيدا بذلك نفسه من مراقبة نفسه من الخارج إلى النغمة/الإيقاع للوجود اليومي الحقيقي إن صحت هذه العبارة.
اسمحوا لي أن أقتبس من خاتمة «الإحساس بالنهاية» هذا المقطع: «ماذا عرفت عن الحياة؟ أنا الذي عشتُ بكل ذاك الحذر، أنا الذي لم أربح، ولم أخسر، لكني تركت تيار الحياة يحملني فحسب، الذي كان لديه الطموح المعتاد، وترسب سريعا فلم يتحقق منه أي شيء، أنا الذي تجنب الألم وأطلق على ذلك مهارة البقاء، أنا الذي دفع فواتيره، حافظ على علاقته الطيبة بالجميع قدر المستطاع، الذي كانت كلمات «الإحباط» و«النشوة» مجرد كلمات يقرأها في الروايات، الذي لم يسبب له توبيخه لنفسه أي ألم حقيقي، حسنا، كان كل ذلك يدور في ذهني وأنا أتجرع ذلك الشعور بالذنب: وجع يتمدد ويبقى مع شخص ظن أنه دائما بوسعه تجنب الوجع. والمفارقة أنه تمدد لهذا السبب ذاته».
أمل السعيدية كاتبة وقاصة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أنا الذی
إقرأ أيضاً:
إسكندر حبش.. الطائر الذي حلّق بعيدا
اجتمعتُ كثيرا مع الشاعر والمترجم الراحل إسكندر حبش (١٩٦٣-٢٠٢٥) على صفحات المجلّات والصحافة الثقافيّة، ولكننا لم نلتقِ إلّا في مهرجان جرش 2024م، في عمّان، يومها لم أنتبه لوصوله، فنهض من مكانه بكلّ تواضع، وقال: «أنا إسكندر حبش»، نظرتُ في وجهه، كانت المسافة شاسعة بين صوره المنشورة في الصحف، والحال الذي بَدَا به في تلك الظهيرة الصيفية العمّانيّة!، فـ(مستر سين) كما يسمّي مرض السرطان، بدأ يفتك بجسده، فضعف بدنه، وتباطأت حركته، ولكنه لم يفقد حيويته وجموحه في الكتابة، فما كان لي سوى أن أحتضنه، فقد وجدت نفسي أخيرا أقف وجها لوجه مع الشاعر الثمانيني الذي قدّم إسهامات لافتة للنقّاد وعموم القرّاء العرب في قصيدة النثر في الثمانينيات، وقد أكّدتها دواوينه: (بورتريه رجل من معدن)، و(نصف تفّاحة)، و(تلك المدن)، و(أشكو الخريف)، و(لا أمل لي بهذا الصمت)، و(لا شيء أكثر من هذا الثلج)، و(إقامة في غبار)، وهو المترجم الذي عرّفنا على الكثير من الشعراء الأجانب، ورفد المكتبة العربية بكتب مترجمة قيّمة، وهو الصحفيّ النشيط الذي قرأنا صولاته وجولاته ومقالاته وحواراته في الصحافة اللبنانية وتحديدا جريدة(السفير)، ومن ضمن المقالات: كتابته لمقال أسبوعي في جريدة (عُمان) ظلّ مواظبا عليه إلى ما قبل أسبوعين من رحيله.
وفي كلّ تلك النصوص والمقالات والمواقف كانت مواقف إسكندر واحدة في الشعر والحياة، لم يغيّر جلده، ولم يجامل على حساب القضية، فقد كان مؤمنا بأن الشاعر الحقيقي هو الذي ينتمي لقضايا مجتمعه، ويعلّق الشارع العربي على رقبته الآمال، فكان صلبا في مواقفه، مقاتلا شرسا، رغم هدوئه، مؤمنا أن «الشعراء يقاتلون طوال حياتهم، ويموتون في المعركة حتى لو ماتوا على السرير»، وهذه العبارة يستعيرها من الشاعر والروائي الفرنسي كريستيان بوبان، ويثبّتها في منشور له بتاريخ 29 يناير، وحتى حين علم أن المرض الخبيث تسلّل إلى جسده، لم يتركه يتمكّن منه، بل قاومه، وكان يدوّن يومياته مع المرض، وينشرها في صفحته على هيئة حلقات، ورغم تعبه وحزنه الشديد، لم يفقد الأمل حتى جعلنا واثقين من أنه سينتصر عليه.
اشتركت معه في الأمسية التي جمعتنا في (المركز الثقافي الملكي) في أغسطس 2024، وقرأ قصائد نثر، رغم أن الأجواء كانت تميل نحو القصيدة الموزونة، والمقفاة، وبعد أن انتهى من قراءتها، همس في أذني، وكان يجلس جواري على المنصّة» معي نصوص من تلك التي تستهوي الجمهور، لكنني قرأت نصوصا تمثّلني»، قلت له: «حسنا فعلت، ولنا جولة ثانية في محافظة إربد ببيت عرار، ولك محبّون كثر هناك»، وقبل الانطلاق إلى (إربد) نزلت إلى صالة الاستقبال في الفندق حيث كانت تنتظرنا السيارة التي ستوصلنا إلى (إربد) وجدته قد سبقني، وكان يتحدّث مع الصديق الشاعر يوسف عبد العزيز، فانضممت إليهما، وبعد قليل نادنا موظف العلاقات طالبا منّا الصعود في السيارة، فنهضتُ لكن إسكندر اعتذر، قلت له: لماذا؟ أجاب: وضعي الصحي لا يسمح لي، وعليك أن تذهب إلى (بيت عرار) بمفردك، فشعرتُ بألم شديد، وعرفتُ أن المرض بدأ يحدّ من حركته، وحين ودّعناه وزوجته الإعلامية شيرين موسى عرفنا أن الطيران نحو بيروت توقّف عن الحركة، وعليهما الانتظار حتّى استئنافه، وبقيت على تواصل معه، وعلمت أنهما عادا إلى بيروت بعد يومين من مغادرتنا عمّان، وبقيت أتابع بقلق يومياته التي توقّف عن كتابتها عند الحلقة العشرين، وبدءًا من الحلقة (13) التي نشرها في (14) يناير تسرّب القلق إلى نفسي، ففيها يقول: «لا أخفي أنني أشعر أحيانا بالاكتئاب، حتى ولو كان عابرا، ما يجعلني على استعداد لأعلن هزيمتي، حتى وإن قال لي طبيب الأورام بأن ثمة أمل، في نهاية هذه المرحلة من العلاج.
لقد بدأ الطريق يصبح طويلًا جدًا، ما يزعجني في الحقيقة هو عدم تأكدي من أن الأمر، حتى لو نجوت، سينتهي برمته، ما أشعر به هو حالة الحرب الدائمة التي أعيشها»، وفي ذروة حربه هذه وصلته دعوة لزيارة مسقط في أبريل 2025 ليحل ضيفا على معرض مسقط الدولي للكتاب، لكنه اعتذر، لوجود سوائل في قدمه، رغم شوقه لزيارة مسقط، ولم يبق أمامه سوى أن يحلم أن يكون طائرا محلّقا، وإن لم يستطع فيكفيه أن يكون «رفرفة جناح، لأقفز-كما يقول- ومن ثم أرحل بعيدًا... سيكفيني بعض الفُتات لأنقرَه كي أعيش، أما باقي الوقت، فأحوم فيه فوق العالم»
وها هي روحه تحوم حولنا، بعد انطفاء جذوة الجسد، واليوم ونحن نقلّب أوراق ديوانه «أشكو الخريف» نسأله:
أكان عليك
أن ترسم الفصول
ثم تمضي كالليل
أكان عليك
وأنت الغريب عن هاتين اليدين
أن تكتب؟