الشجرة الطيبة المباركة.. أصل ثابت وفرعٌ مورقٌ نابت
تاريخ النشر: 22nd, February 2025 GMT
الدولة السعودية الأولى:
من يتأمل تاريخ هذه الأسرة السعودية الطيبة الزكية الكريمة المباركة، حتى قبل أن يتولى الإمام محمد بن سعود الإمارة عام 1139/1727، ومن ثم يؤسس الدولة السعودية الأولى في 1157/1744؛ لا بدّ له أن يدرك يقيناً أن قادتها قد أخذوا على عاتقهم مهمة توفير الأمن والاستقرار، وتحقيق العدل ووأد الظلم إلى الأبد، ومساعدة المحتاجين، وإغاثة المنكوبين، وإحياء الفضيلة ومحاربة الرذيلة، وتوفير الخير للناس أجمعين، وقبل هذا وذاك، توحيد الله عزَّ و جلَّ وإعلاء كلمته، وخدمة الحرمين الشريفين، ورعاية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وتمّكينهم من أداء شعائرهم في الحج والعمرة، وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمن وأمان واطمئنان، وتحقيق الخيرية للناس أجمعين من عرب وعجم، سعياً لتحقيق مفهوم الخلافة في الأرض كما ينبغي له أن يكون.
فقد تسنَّموا الإمارة في عهود مبكرة، بزغ فجرها مع قدوم مانع بن ربيعة المريدي مؤسس الدرعية عام 850/1446، لتصبح لاحقاً نواة الدولة السعودية الأولى، لاسيَّما بعد أن انضمت إليها العيينة، حريملاء، منفوحة، عرقة والعمارية، أي قبل ستمائة عام تقريباً، الذي كان ملكاً بسط سيادته على الإحساء والقطيف وقطر، ثم انتقلت الإمارة بين عقبه، من موسى بن ربيعة بن مانع المريدي، إلى ابنه إبراهيم، ثم تعاقب على الحكم مرخان بن إبراهيم بن موسى وابنه مقرن الذي تنازل له أخوه ربيعة، فناصر بن محمد بن وطبان، فوالده محمد الذي خلفه أخوه إبراهيم، ليخلف إبراهيم هذا أخوه إدريس، ثم موسى بن ربيعة بن وطبان بن ربيعة، الذي كثيراً ما خلط المؤرخون الأجانب الذين ليس لديهم إلمام تام بتسلسل نسب هذه الأسرة الطيبة المباركة الكريمة، بينه وبين موسى بن ربيعة بن مانع المريدي؛ ثم سعود بن محمد بن مقرن، فزيد بن مرخان بن وطبان، فمقرن بن محمد بن مقرن، لتعود الزعامة إلى زيد بن مرخان مرة أخرى؛ ليستقر الأمر في النهاية لسعود بن محمد بن مقرن، كبير فرع آل مقرن، وهو الذي تنسب إليه الأسرة السعودية الكريمة المباركة اليوم. فإذاً هذه الأسرة السعودية المباركة، ذات بعد تاريخي عريق، ليست طارئة على مسرح الأحداث، كما فعل كثيرون في بلدان كثيرة، ليس لهم من التاريخ غير أنهم جاؤوا محمولين على ظهر دبابات المستعمر، فأذاقوا شعوبهم الويل والثبور، وما زالوا يذيقونهم الأمرين.
أقول هكذا تعاقب قادة آل سعود، إلى أن استقر الأمر أخيراً إلى الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي، الذي يُعَدُّ آخر أمراء الدرعية من آل سعود، وأول أئمة الدولة السعودية وقادتها، إذ تولى الإمارة ليؤسس لاحقاً الدولة السعودية الأولى كما تقدم، أول كيان سياسي اجتماعي موحد، دولة جديدة منظمة، لم تعرف شبه الجزيرة العربية مثيلاً لها منذ نهاية عهد الخلافة الراشدة.
كان الإمام محمد بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الأولى، كسائر قادة آل سعود، يتمتع بصفات قيادية فريدة، اشتهر بها دون غيره من أمراء البلدان النجدية، جعلت له مكانة سامية بين ربعه آل مقرن، وسائر مواطنيه على حد سواء؛ فقد أثنى المؤرخون المحليون وغيرهم على ما تحلّى به من أخلاق رفيعة: وفاء، مروءة، شهامة، كرم، إقدام ومد يد العون حتى لمن ناصبه العداء. وكان بجانب هذا شجاعاً جسوراً في غير تهور، قوي العزيمة، رابط الجأش، ولهذا كثيراً ما قاد الجيوش بنفسه، خاصة في المراحل الأولى من الغزوات التي خاضها لتوحيد نجد، حريصاً على استتباب الأمن، وتفقد الأمور العامة لرعيته، بحفظ حقوقهم، ورفع الظلم عنهم. كما كان دبلوماسياً ذكياً حسن التدبير، حريصاً على إتباع سياسة السلم وحسن الجوار، لا يقدم على القتال إلا إذا غلبت الروم، فكان لا بد ممّا ليس منه بد. ولهذا استطاع أن ينأى ببلاده عن النزاعات والحروب التي كانت سائدة بين البلدان النجدية حينئذٍ؛ لكنه مع هذا كان صاحب قدرة مدهشة على اتخاذ القرارات الخطيرة في ما يتعلق بكل الشؤون المصيرية برعيته أو بلاده. كما كان خبيراً بالشؤون العسكرية، وأسلوب القتال، ومن ذكائه السياسي الإداري، كان يبقي على أمير كل بلدة في إمارته في حال انضمامه إلى الدرعية طوعاً أو كرهاً.
وكان بجانب هذا كله شديد التَّديُّن، حتى قبل توليه شؤون الإمارة، كثير الخيرات والعبادة، كان يحب الخلوة فينقطع عن أهله وأولاده للعبادة. فازدهرت الحياة العلمية في عهده إلى حد ما. ولهذا، وغيره كثير من صفات قيادية مدهشة، دان له الجميع بالطاعة والولاء، ولم ينازعه أحد الحكم. كما كان حكمه مستقراً مستقلاً استقلالاً تاماً عن بقية القوى السياسية، داخلية كانت أو خارجية، ولم يكن يتلقى مساعدات خارجية أيَّاً كانت من هذه القوى أو تلك.
وهكذا ظل الإمام محمد بن سعود يجاهد في تأسيس هذه البلاد الطاهرة الطيبة المباركة التي ليس مثلها اليوم في الدنيا وطن لمدة أربعين سنة تقريباً، أي أنه قضى نصف عمره المباركة في خدمة بلاده وشعبه، حتى إذا وافته المنية عام 1179/1765، ترك لابنه عبد العزيز كياناً قوياً ضم بلاداً مهمة وقبائل بارزة في نجد، واضعاً بذلك حدَّاً لقرون من التمزق والتفرق السياسي والقبلي والاجتماعي بين بلدانها وقبائلها.
فتولى الحكم بعده ابنه عبد العزيز، الذي كان مثل والده، فارساً لا يشق له غبار، فكم قاد الجيوش بنفسه وتقدم الصفوف، ولم يقعده حتى المرض عن تحقيق أهدافه؛ فسار على خطى الوالد المؤسس في تعزيز أركان الدولة؛ فتمكَّن عام 1186/1772 من ضم الرياض إلى الكيان الجديد. حتى إذا لحق بالرفيق الأعلى شهيداً إن شاء الله، عام 1218/1803، تسلم الراية ابنه سعوداً، الذي أعدَّه والده عبد العزيز إعداداً جيداً ليتولى قيادة السفينة بعده. وكان سعود هذا، إضافة لما تحّى به من صفات القيادة والبطولة، عالماً ضليعاً في التشريع الإسلامي، فبذل جهداً كبيراً في تطبيق الشرع، واستتباب الأمن والاستقرار، وسيادة النظام، والقضاءعلى الحروب المحلية والنزاعات الشخصية.
وعند وفاة سعود في الدرعية عام 1230/1814، خلفه ابنه عبد الله، الذي عرف بالفروسية والجرأة والإقدام منذ طفولته المبكرة، إذ قيل إنه استطاع ترويض فرسه وهو لم يكن يتجاوز ربيعه الخامس بعد. كما كان صريحاً محبوباً، وكان كل أفراد رعيته يرون فيه تجسيداً لكل الفضائل والمكارم، شأن قادة آل سعود كلهم على مرّ التاريخ.
وهكذا ظل كل خلف يضع مزيداً من اللبنات على بنيان السلف، إلى أن بلغت الدولة السعودية التي تعدّ أول كيان سياسي اجتماعي موحَّد في شبه الجزيرة العربية، بعد عهد الخلافة الراشدة كما تقدم، وقوة نفوذها في شؤون الخليج حدهما الأقصى عام 1225/1810. لكن للأسف الشديد، بدأ محمد علي باشا حملاته على السعودية من مصر، ثم توالت الحملات والقتل والدمار إلى أن وصلت الدرعية، فاضطر الأمير عبد الله بن سعود بن عبد العزيز عام 1233/1818، للدخول في مفاوضات مع الغزاة بعدما استنفد كل جهده في مقاومتهم؛ فعقد صلحاً مع إبراهيم باشا لإيقاف الحرب شريطة العفو عن مقاتليه والمحافظة على الدرعية وأهلها. ومع أنه كان مدركاً لمصيره، إلا كل ما كان يشغل ذهنه هو قومه وبلاده، شأن القادة الكبار عبر التاريخ. وبالفعل كما كان يتوقع، بعد أن أخذه الغزاة إلى القاهرة ومن معه، تم إرساله إلى القسطنطينية حيث أعدم مع بعض المقربين إليه.
ومتى كان الغازي يرعى عهداً أو يخفر ذمة؟ فقد هدموا الدرعية ودمّروها، حتى قيل إنه لم يبق فيها حجر على حجر، حتى أشجار نخيلها لم تسلم من حقد المعتدي، وهكذا أسدل الستار على الدولة السعودية الأولى.
الدولة السعودية الثانية:
ولما كانت هذه الأسرة السعودية المباركة، صاحبة رسالة عظيمة سامية، غايتها توحيد الله وإعلاء كلمته، ونفع الناس أجمعين، وتحقيق الخلافة في الأرض كما ينبغي لها أن تكون، كان لا بدّ لقافلة خيرهم القاصدة، أن تحثّ السير نحو غاياتها، مهما كانت وعورة الطريق. فبعد فترة فراغ وفوضى كما يحدث عادةً بعد انهيار الحكم القائم، برز من بين الصفوف الإمام تركي بن عبد الله، الفارس الجسور، البطل المغوار، صاحب السيف الأجرب، فالتف حوله قومه، واستطاع طرد الغزاة وإجلائهم عن نجد كلها، واستعادة الرياض وجعلها عاصمة لدولته، بعد أن أجبرهم سيفه الأجرب على مغادرتها صاغرين. وقد لُقِّبَ الإمام تركي بسيفه هذا (صاحب الأجرب) وفيه قال في قصيدته الشهرة التي وجهها لابن عمه مشاري بن عبد الرحمن، الذي كان محبوساً من قبل الأتراك في مصر مع مجموعة من أقربائه وأتباعه:
ان سايلو عني فحالي تسرا
قبقب شراع العز لو كنت داري
يوم ان كلن من خويه تبرا
حطيت الأجرب لي خوي(ن) يباري
نعم الرفيق اللي صطا ثم جرا
يودع مناعير النشاما حباري
ثم يواصل في قصيدته، مطمئناً ابن عمه مشاري، باستعادة دولة آبائه وأجداده:
رميت عني برقع الذل برا
ولا خير في من لا يدوس المحاري
يبقى الفخر وانا بقبري معرا
وافعال تركي مثل شمس النهاري
احصنت نجد عقب ما هي تطرا
مصيونة عن حر لفح الهذاري
نزلتها غصب(ن) بخير وشرا
وجمعت شمل(ن) بالقرايا وقاري
والشرع فيها قد مشى واستمرا
ويقرى بها درس الضحى كل قاري
زال الهوى والغي عنها وفرا
ويقضي بها القاضي بليا مصاري
والحقيقة القصيدة طويلة ومعبرة ومؤثرة، ولا أكاد أقرأها حتى يبلل الدمع الورق دون أن أشعر، وكم تمنيت لو أنني أستطيع إيرادها هنا كلها، لما تعبر عنه من معاني جزلة، وتؤكد الروح الشاعرية لهذا البطل، صاحب المواهب المتعددة؛ إذ كان بجانب هذا كله صاحب خبرة في التطبيب البلدي.
أجل، كان الإمام تركي بطلاً شجاعاً مقداماً لا يخشى الوغى، شأنه شأن آبائه وأجداده، قاد أخطر الحملات وأكبرها في استعادة الدولة بنفسه متقدماً الصفوف، ذكياً راجح العقل، صاحب رأي سديد متديناً، شهماً كريماً حتى مع من ناصبوه العداء، حريصاً على رؤية دولة تعيد توحيد الناس حتى إن لم يكن هو زعيماً لها، شديداً في رد الحق إلى نصابه، وتأديب المعتدي. فتعلق به قومه وأعجبوا بشخصيته القوية وحزمه وعزمه، ممّا أهله لتولي الأمر وإعادة الدولة السعودية في دورها الثاني عام 1240/1824. وفي هذا قال عنه ابن بشر: (دخلت السنة الحادية والأربعون بعد المائتين والألف، وتركي بن عبد الله رحمه الله في الرياض، وبلدان نجد كلها سامعة مطيعة. فاطمأنت بعدله الرعايا، وأمنت البلدان والقرايا. ورفع الله بولايته عن المسلمين المحن وزالت عنهم الحروب والفتن… إلخ).
ولا غرو في ذلك، فوالده هو الإمام عبد الله ابن الإمام محمد بن سعود، الجد الأعلى للأسرة المالكة اليوم. شارك في توحيد الدولة السعودية في دورها الأول، وقاد كثيراً من الحملات، كما كان من خاصة مستشاري أخيه الإمام عبد العزيز لصدقه وإخلاصه ورجاحة عقله. كان كثير الملازمة لأخيه، حتى عندما طعنَه قاتلُه في مسجد الطريف أثناء صلاة العشاء عام 1218/1803، كان إلى جانبه. فسارع الإمام عبد الله وصرع المجرم الذي أهوى عليه يريد قتله بعد أن جرحه، واجتمع المصلون على القاتل فقتلوه.
وهكذا ظل الإمام تركي يؤمن البلاد والعباد ويرسي العدل، ويضع حداً للاضطرابات القبلية، إلى أن سقط شهيداً مثل عمه الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، بيد الغدر والخيانة والحقد على ما حققه من إنجازات عظيمة.
وسرعان ما عاد الإمام فيصل بن تركي الذي كان يقود جيش والده للدفاع عن الإحساء، ليقتص من قاتله، ويستلم زمام الأمر في العام نفسه. ثم يبذل قصارى جهده لطرد الغزاة المعتدين الذين حدثتهم أنفسهم بالعودة مجدداً.
ونظراً لاختلال ميزان القوى، استسلم مشترطاً تأمين أتباعه، فأرسل إلى مصر حيث تم حبسه. ثم يتمكن من العودة بعد فترة فوضى، ليستعيد سلطته من جديد؛ وظل يوطِّد حكمه، ويعمل على الاستقرار، ويرسي الأمن، ويقيم العدل، ويؤمن قوافل الحجيج، ويضطلع بشؤون رعيته، حتى وفاته في 1282/1865. فخلفه ابنه عبد الله. وتستمر مؤامرات الغزاة المعتدين في إشعال جذوة الصراع على السلطة، ليفضي الأمر في النهاية، إلى أفول نجم الدولة السعودية الثانية التي أسسها الإمام تركي بن عبد الله ابن الإمام محمد بن سعود.
الدولة السعودية الثالثة:
ولما كانت هذه الأسرة السعودية الطيبة المباركة صاحبة رسالة سامية عظيمة كما تقدم، تكمن في توحيد الله، وإعلاء كلمته، وتحقيق الخيرية للناس أجمعين، كان لا بد لقافلة خيرنا القاصدة، مواصلة المسير مهما اعتراها من صعاب. ومثل جده الإمام تركي بن عبد الله، ومن قبلهما جدهما الأمام محمد بن سعود، نهض المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، البطل الفذّ الذي اجتمعت له من الصفات البطولية النادرة ما لم يجتمع مثلها لغيره من معاصريه، فحمل الراية بكل جدارة واقتدار، وانطلق من الكويت يرافقه الرواد الأوائل ليستعيد ملك آبائه وأجداده في الخامس من شوال عام 1319، الموافق للخامس عشر من يناير عام 1902، في ملحمة بطولية أدهشت أكبر جنرالات العالم من خريجي سانت هيرست وويست بوينت وأشهرهم. ولأنها أسرة صاحبة رساة حقاً، كان أول قرار أعلنه الملك عبد العزيز المؤسس، أن دستور بلاده هو كتاب الله عزَّ و جلَّ، ثم سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فكانت دولته امتداداً طبيعياً لدولة آبائه وأجداده.
وهكذا انطلقت رحلة البناء الطويلة الشاقة، يد تبني وتعمِّر، وأخرى تحمل السلاح لتأديب العصاة وقطع دابر المفسدين. ومثلما قضى الإمام محمد بن سعود أربعة عقود في مسيرة التوحيد، كذلك فعل المؤسس الملك عبد العزيز، إذ قضى ثلاثة عقود في مسيرة توحيد بلاده، وكان كثيراً ما يقود الجيوش بنفسه متقدماً الصفوف.
كما استطاع بما وهبه الله من ذكاء، وفطرة سليمة، وصفات قيادية عديدة، تجيير صراع القوى الأجنبية على بلده لخدمة مصالحه هو. فأسس هذا الكيان الشامخ، الذي كانت نواته الدرعية، التي لم تكن تتجاوز بضعة كيلومترات، إلى وطن قارة. ومثلما اهتم عبد العزيز بتوحيد أجزاء بلاده، لم يكن لقائد مثله أن يغفل توحيد قلوب شعبه، والتفافهم حول قيادتهم، ونبذ الفرقة والشتات والتعصب القبلي والجهوي والمناطقي، وتوحيد الجهود كلها لخدمة الجميع.
فأصبحنا اليوم بفضل الله سبحانه وتعالى، نعيش في إلفة ومحبة ورخاء وازدهار، كلنا أسرة واحدة، يرحم كبيرنا صغيرنا، ويوقِّر صغيرنا كبيرنا، جسداً واحداً، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
أقول، أوقف الملك عبد العزيز حياته الطيبة المباركة كلها، لتأسيس هذا الكيان، وترسيخ أركانه، وإن كانت إنجازاته لا تعد ولا تحصى، كما يؤكد دوماً قائد مسيرتنا الظافرة اليوم، خادم الحرمين الشريقين، سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، أشبه الناس بعبد العزيز خَلقاً وخُلقاً، مستودع تاريخنا وإرثنا الحضاري: (إن ألف كتاب، أو حتى ألفا كتاب، لن تستطيع أن توفي الملك عبد العزيز حقَّه علينا)، أقول وإن كانت إنجازات عبد العزيز لا تعد ولا تحصى، يبقى ترسيخ الأمن الذي أصبح علامة سعودية فارقة بامتياز في العالم كله، ممّا جعل دولتنا المباركة هذه اليوم تعرف في العالم كله شرقيه وغربيه بـ (دولة الأمن والأمان). يسير فيها المسافر من الشام إلى اليمن، ومن الخليج إلى البحر، لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه.
والحقيقة، يعجز الإنسان، ويخذله اللسان عند ذكر إنجازات المؤسس الملك عبد العزيز، ولهذا يروق لي دوماً، أن أجد في شعر الشاعر المبدع أحمد بن إبراهيم الغزاوي، شاعر الملك عبد العزيز، شيئاً من عزاء في عدم القدرة على حصر إنجازات الملك عبد العزيز والد الجميع، إذ يقول في رائعته بمناسبة قدوم الملك عبد العزيز مكة المكرمة في السادس من ذي الحجة 1346، بعنوان (قد شاء ربك أن تكون موفقاً):
ما ذا أرتل من مآثرك التي
أولى فضائلها صلاح (المسجد)
وحدت فيه صلاة كل جماعة
وأذعت فيه هدي دين (محمد)
وعمرته وأقمت في أرجائه
ظلاً تقي حر الهجير الموقد
وأشدت فيه مسايلاً مورودة
فهي (السقاية) في جوار الأسعد
زانت جوانبه نجوم الكهربا
فتلألأت كالكواكب المتوقد
ونسجت ثوب البيت حول رواقه
فأضفت طارف مجده المتجدد
•••••••••••
وينام ملء جفونه عن ماله
مما استتب من الأمان الأوكد
إلى أن يقول:
هذا لعمر الله بعض صنيعكم
هيهات بحصره بيان مقصد
وبعد رحيل المؤسس، بعد رحلة جهاد شاقة طويلة، أورثتنا هذا المجد الذي نفاخر به اليوم الأمم كلها، حمل الراية بعده أبناؤه: سعود، الفيصل، خالد، الفهد، عبد الله، وكلهم كان يضيف مزيداً من اللبنات على هذا البنيان الراسخ الشامخ؛ وصولاً إلى هذا العهد الميمون الزاهر، بقيادة شبيه عبد العزيز، خادم الحرمين الشريفين سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وولي عهده القوي بالله الأمين أخي العزيز صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، رئيس مجلس الوزراء، شبيه والده وجده المؤسس، الذي ظل دوماً منذ شبابه الباكر، نعم السند. فأدهشت بلادنا العالم بما حققته من تنمية وتطوير في المجالات كلها؛ وانتقلت من المحلية إلى العالمية لتحقق مراكز متقدمة في المؤشرات الدولية في جميع المجالات.
والحقيقة الحديث يطول عن هذه الإنجازات المدهشة التي تفوقت فيها السعودية اليوم على نفسها، ولهذا أكتفي برسالة سريعة أوجهها إلى أولئك الذين كانوا يعيروننا بالخيمة والشاة والصحراء:
اليوم نحن أقوى تاسع دولة على مستوى العالم.
لدينا أحد أكبر الصناديق السيادية في العالم وأفضلها.
أفضل دولة من حيث التعليم.
أقوى اقتصاد على مستوى العالم العربي، والعشرون على مستوى العالم.
أغنى الدول العربية، وفي المركز التاسع عشر عالمياً.
نحتل المرتبة الثالثة في قائمة أسعد الدول على مستوى العالم.
نحتل المركز الأول على مستوى العالم في تحقيق أكبر عدد من الميداليات في ما يتعلق بمسابقة الذكاء الاصطناعي للشباب.
ولأننا لا نحقد مثلكم، ولا نحسد ولا نشمت، ندعوكم لمشاهدة مباريات كأس آسيا على ملاعبنا 2027.
ولزيارة معرض أكسبو في بلادنا 2030.
ولمشاهدة كأس العالم أيضاً على ملاعبنا التي ستدهشكم قطعاً 2034.
ومن اليوم حتى آنئذٍ، سترون المزيد من الإبداع الجديد في كل المجالات في بلادنا.
ومع هذا، أتعلمون: ما زالنا نعتز بالخيمة والشاة والصحراء ونفتخر، وسنبقى كذلك إلى الأبد. ونشكر المنعم الوهاب ليل نهار على ما تفضل به علينا.
وبعد، الحقيقة ليس الغرض من حديثي هذا اليوم سرداً لتاريخ هذه الدولة المباركة، وسيرة قادتنا الكرام البررة الذين أوقفوا حياتهم كلها لخدمتها؛ وإن كان الأمر قطعاً يستحق، بل أكثر من ذلك: في كل دور من أدوارها لقي أحد قادتها ربه شهيداً إن شاء الله، الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، الإمام تركي بن عبد الله ابن الإمام محمد بن سعود، والملك فيصل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود.
فقد ضحى أولئك كلهم بحياتهم من أجلنا، واليوم الدور علينا نحن المواطنين، على كل واحد منَّا أن يدرك مسؤوليته تجاه وطنه، من العامل البسيط حتى أساتذة الجامعات، وإن كنت أتوجه هنا إلى الإخوة رجال الأعمال بشكل أكثر تحديداً، لدعم بلادهم في خدمة المجتمع في مختلف المجالات.
صحيح، الدولة لم تقصر، ولن تقصر أبداً إن شاء الله في واجبها تجاه مواطنيها الكرام، لكن من باب الوفاء والعرفان والامتنان لما تضطلع به الدولة من واجب عظيم، أتمنى أن أرى مشروعات حقيقية يقوم بها رجال المال والأعمال لخدمة الفئات الأكثر حاجة في المجتمع.
وكل عام قادتنا بصحة وعافية، وبلدنا في أمن وأمان وسلام واستقرار، ومن تقدم لآخر، وشعبنا في راحة وهناء ووئام.
المصدر: صحيفة البلاد
كلمات دلالية: الإمام ترکی بن عبد الله الدولة السعودیة الأولى الإمام محمد بن سعود الملک عبد العزیز على مستوى العالم بن محمد بن مقرن عبد العزیز بن بن عبد العزیز الإمام عبد ابنه عبد الذی کان سعود بن کما کان آل سعود إلى أن لم یکن ما کان بعد أن
إقرأ أيضاً:
«ملحمة التأسيس».. تاريخ ممتد لثلاثة قرون..
خالد المرعيد*
يُعد يوم التأسيس مناسبة وطنية لاستحضار تاريخ المملكة العربية السعودية، فهو يعبر عن تاريخ مجيد وذلك لامتداده لثلاثة قرون، كما إنها ذكرى وطنية وفخر لأبناء الوطن السعودي وكما قال الشاعر: “ومن لم تكن أوطانه مفخرًا له.. فليس له في موطن المجد مفخر..”
في هذه المناسبة يستحضر من خلالها الأحفاد تضحيات الأبناء والأجداد، ويستلهمون الدروس والعبر، فبهذا اليوم تتدفق مشاعرهم الوطنية بالحب والانتماء والاعتزاز بالوطن وقادته وموروثهم العريق والفريد والممتد الذي يحفز لمزيد من البناء والتقدم والازدهار والتطور وملهم للأجيال نحو التقدم والعلو في جميع المجالات التي من شأنها رفعة هذا الوطن العظيم.
أخبار قد تهمك الدكتور محمد بن عايض القرني: احتفاء بيوم التأسيس وتعزيز الهوية الوطنية 22 فبراير 2025 - 1:22 مساءً القيادة الإماراتية تهنئ خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد بمناسبة ذكرى يوم التأسيس 22 فبراير 2025 - 12:33 مساءًفي العام 1727م -1139هـ تأسست الدولة السعودية الأولى بقيادة الأمام البطل محمد بن سعود -رحمه الله- ولاستشعار عظمة هذا اليوم التاريخي أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- في يوم 24 يناير من عام 2022م/1443هـ أمرا ملكيا بأن يكون يوم 22 فبراير من كل عام يومًا لذكرى تأسيس الدولة السعودية.
عمق تاريخي مجيد
إنّ احتفالنا كسعوديين بيوم التأسيس هو احتفاء شعب عظيم له عمق تاريخي مجيد يعبر عن مدى تلاحمنا واتحادنا وصمودنا أمام التحديات والأزمات، وكشعب سعودي يفخر بماضيه وحاضره ويتطلع إلى مستقبل مشرق مع رؤية 2030 الذي يقودها عراب الرؤية وقائد التغيير صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- وبتوجيهات من سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ملك الحزم والعزم -حفظه الله-.
صراع بين القوى المحلية والقبلية
كانت حالة البلاد قبل تأسيس الدولة السعودية الأولى تعاني من الانقسام والتفكك والفوضى واستمر هذا التشرذم قرونا عديدة بعد الخلافة الراشدة، وكانت نجد قبل قيام الدولة المركزية السعودية في حالة حروب ونزاعات ومجاعة وجهل وفقر، ويعيش الإقليم صراع بين القوى المحلية والقبلية، ولم تعرف حكما مطلقًا حيث كانت معزولة عن الحياة السياسية بسبب صعوبة التنقل والسفر.
كانت نجد تعيش في رعب دائم وخوف منقطع النظير ولم يعرفوا الحرية والأمن والاستقرار في ذلك الزمن البائس، وكان انعدام الأمن هو السائد والقتل والسلب والنهب، وذلك في غياب سلطة دولة مركزية تقوم بأعباء الدفاع عن نفسها وتثبت الأمن بحزم وقوة، وغياب الأمن دومًا وعبر التاريخ وكما هو معروف هو العامل الرئيس في تدمير المجتمعات وانهيارها وانحطاطها، ولكن إرادة الله وحكمته قيضت لهذه الأرض وهذه البلاد من يجمع شتاتها ويوحد كلمتها تحت راية واحدة ويبسط الأمن بقوة وعدل وحزم.
حينما توحدت وتأسست هذه البلاد العظيمة على يد الإمام البطل العظيم محمد بن سعود -رحمه الله-، كان الأمن هو العنصر الحاسم في تكوين الدول واستقرارها واستمرارها وازدهارها.
المجال العسكري
نجد الفكر العسكري لدى الإمام محمد بن سعود يشمل العقيدة العسكرية وهو المذهب العسكري الذي تتخذه الدولة لبناء جيشها وتأسيس كل مجالاتها العسكرية، وهي مجموعة المبادئ والقيم التي تحكم أداء الجيش وتخدم المصالح العامة للدولة.
والعقيدة العسكرية هي مجمل المفاهيم والمبادئ والسياسات والتكتيكات والتدريبات والأساليب المتخذة لضمان كفاءة تنظيم وتدريب وتسليح وإعداد وتوظيف المؤسسة العسكرية لوحداتها التكتيكية والخدمية، كما أنها تعمل على الربط بين النظريات والتاريخ والتجارب والخبرات العملية، وهي ترتبط بالعقيدة الشاملة للدولة.
المفاهيم الحربية
والفكر العسكري (العقيدة القتالية)، وهي الإخلاص والولاء للذين آمنوا بذلك لتحقيق الوحدة الوطنية ومحاربة الصعوبات التي تكتنفها نظراً لتطلعهم مع اللائمة لتحقيق الغاية القصوى وهي إيجاد الأمن في هذه الدولة وتحقيقه على أرض الواقع للدولة السعودية الأولى وللإمام محمد بن سعود في ذلك الوقت تعتمد على مبادئ الحرب مثل، تحقيق الوحدة الوطنية في أقوى سماتها ووحدة القيادة والتعاون والتكامل.
وكانت المبادئ والمفاهيم الحربية المتبعة في ذلك الوقت خليط مابين المبادئ الحربية والأساليب التي تم اكتسابها خلال الخبرات والمعارك والحروب التي حدثت في ذلك الزمن.
الاستراتيجية السياسية العسكرية
وكانت استراتيجية الإمام محمد بن سعود واضحة المعالم في تأسيس دولة مركزية تبسط الأمن والنظام وتوحيد البلاد والعباد تحت قيادة حازمة وعادلة، وتنهي حالة التشرذم والانقسام والفوضى السائدة لفترة طويلة من الزمن.
فقد كان الإمام محمد بن سعود يشرف ويهتم بالشؤون العسكرية للدولة، نظرًا لأهميتها في تحقيق الأمن والوحدة، فحرص على إعداد جيش قوي عن طريق تدريب الجيش وتسليحه، كما كان يتولى قيادة بعض المعارك بنفسه، لما لذلك من دعم كبير لمعنويات الجيش وفي حال غيابه يخلفه ابنه عبدالعزيز بقيادة الحملات العسكرية.
وكان الإمام محمد بن سعود إضافة إلى مهاراته السياسية يتحلى بمهارات قيادية عسكرية حربية تتوافق مع أهدافه السياسية، وتظهر حسن سياسته واستراتيجيته الناجحة ودهائه بمنع اتحاد اعدائه ضده في توقيت حرج، فقد كان يفاوض أحد خصومه مقابل منع تحالفه مع الخصم الآخر، وحتى يتخلص من معركة غير متكافئة بالقوى والوقت والظروف، وهذا يدل على الاستراتيجية السياسية العسكرية الناجحة لدى الإمام محمد بن سعود ودليل على بعد نظره وتفوقه في إدارة الحروب والصراعات والسعي بنجاح إلى تحقيق أهدافه السامية.
وعندما لاتسمح له الظروف بقيادة الجيش، يختار لقيادة الحملات والمعارك الحربية التي يقوم بها خيرة القادة من تتوفر فيهم الكفاءة الحربية والقيادية والشجاعة والولاء والإخلاص، وكما هو معروف القادة الأكفاء المخلصين هم العامل الحاسم في تحقيق النصر عبر التاريخ الطويل للحروب.
وكان من أهم القادة الذين اعتمد عليهم ابنه الإمام عبدالعزيز والذي كان قائدًا مميزًا وعظيمًا، وحقق الكثير من الانتصارات في وقت والده، وبعد ذلك عندما أصبح إمامًا بعد وفاة الإمام محمد بن سعود -رحمه الله-.
الأساليب العسكرية الحربية
ومن الأساليب العسكرية الحربية التي يتبعها الإمام بن سعود الحرص على تحقيق المفاجأة وهو مبدأ حربي مهم وحاسم لتحقيق النصر. ومن أساليب القتال لديه التحركات السريعة والخاطفة لمفاجأة أعدائه في وقت ومكان غير متوقع لا يكون فيها الأعداء مستعدين، وهذا من التكتيكات الحربية الناجحة والتي تطبق حتى الآن.
هذه الأساليب تستخدم في أثناء العمليات الهجومية عندما يهاجم الأعداء في عقر دارهم.
أما في العمليات الدفاعية فكان الإمام محمد بن سعود يستخدم الأساليب الدفاعية التي تمنع العدو من تحقيق المفاجأة، وذلك بإرسال عناصر من الاستطلاع (السبور) أمام مواقعه حتى يعرف نوايا وقوة العدو وطرق تحركاته، ويتبع بالدفاع تحصين البلاد وتأمينها من الهجوم الخارجي بإنشاء القلاع والحصون والقصور المحصنة.
والحصون هي استحكامات حربية تبنى في مواقع استراتيجية على سفوح الجبال وفوق التلال وفي مواقع مشرفة وعالية للتحكم بالأراضي المحيطة، وتميزت القصور في نجد في تلك الحقبة بالإضافة إلى أنها مقر للسكن بأنها قلاع حربية. وكانت محمية بالأبراج ومزودة بوسائل الدفاع من أماكن للرمي وسقاطات وغيرها، وقد بني في الدرعية عدد كبير من القلاع والقصور المنيعة ومن أهمها قصور حي الطريف وقصر سلوى وقصر غصيبة.
ومن أهم الطرق والأساليب التي كان يتبعها الإمام محمد بن سعود عندما يتخذ قرارًا حربيًا هو حصوله على المعلومات الوافية عن العدو والطرق المؤدية له بواسطة العيون التي تزوده أمام الجيش في أثناء الدفاع والهجوم، ويسمى بالمفهوم الحالي الاستطلاع حتى نمنع العدو من مفاجأتنا.
وكذلك جمع المعلومات بواسطة عناصر متخفية ما يسمى بالعيون، هذا بالمفهوم المعاصر هو الاستخبارات التي يعتمد عليها بصنع القرار الحربي لكي يصبح القرار ناجحًا ومؤديًا إلى النصر.
حروب ومواجهات
خاضت الدولة السعودية الأولى في عهد الإمام محمد بن سعود -رحمه الله- والذي دام أربعين عامًا الكثير من المعارك والحملات الحربية، وكانت حياة الإمام محمد بن سعود حافلة بالتضحيات والجهود الكبيرة لتحقيق أهدافه بتأسيس الدولة والكيان السعودي وتحقيق الأمن والوحدة، فقد خاض في سبيل هذه الأهداف حروبا ومواجهات حتى تكللت جهوده الجبارة بالنصر وذلك بتوحيد أراض شاسعة من شبه الجزيرة العربية.
وقد تعرض في بداية تأسيسه لدولته الفتية للكثير من الصعوبات والمتاعب والمعارضة من قبل بعض الخصوم الذين لم يؤيدوا كيان الدولة المتحد القوي، ومن هؤلاء دهام بن دواس في الرياض والذي خاضت الدولة السعودية الأولى بقيادة الإمام محمد بن سعود الكثير من المعارك والوقعات معه ولفترة ليست قصيرة، ومن أشهر هذه المعارك والوقعات: وقعة الشياب ووقعة الوشام ووقعة العبيد في سنة 1746م /1159هـ، وكذلك وقعة البنية ووقعة مقرن ووقعة صياح والخريزة في سنة 1747م / 1160 هـ، ووقعة الحبونية في سنة 1749م/ 1162هـ، ووقعة البطحاء في سنة 1750 م / 1163 هـ، وأيضًا وقعة أم العصافير في سنة 1757م /1170هـ، واستمرت هذه المعارك طويلاً ضد دهام بن دواس (استمر الصراع 27 عامًا) حتى انتهت بهزيمته وهروبه بعد وقعة هدم المرقب في سنة 1773م/1187هـ.
وهنا تتجلى سمات هذا القائد العظيم الإمام محمد بن سعود والتي تميزت بقوة الشخصية، والطموح والقيادة والجرأة والمخاطرة المحسوبة والكفاءة الحربية والسياسية، والتي يتصف بها عظماء القادة العسكريين السياسيين الذين صنعوا التاريخ وتحققت على أيديهم الأحلام العظيمة الكبرى، مثل تأسيس وتكوين الدول وتوحيدها، على الرغم ما يواجهونه من صعوبات وتحديات جمة.
فقد كان الإمام محمد بن سعود من فرسان الدرعية وقادتها الشجعان حيث شارك في الدفاع عنها وعن حملاتها العسكرية، وقد خرج مع زيد بن مرخان نحو العيينة في حملة عسكرية كانت الغلبة فيها لجيش الدرعية، ليتسنى له بعد ذلك العودة للدرعية ليتولى الحكم ويؤسس الدولة السعودية الأولى.
فقد تمكن بفكره الثاقب واستراتيجيته الصائبة أن يؤثر ويقنع أطياف المجتمع المختلفة بفكرة الوحدة مما دفعهم للمشاركة والتكاتف في سبيل تحقيقها، فكان الإمام محمد بن سعود يرسل من الدرعية الدعوة للبلدان والقبائل التابعة له للمشاركة في عمليات التوحيد، فيقومون بدورهم بإرسال مجموعة من الفرسان والجند إلى مكان المعركة في التوقيت المتفق عليه.
الأسلوب الحربي للإمام المؤسس
وأسلوب الإمام محمد بن سعود الحربي في حشد قواته كان يعتمد على اتباعه بصفتهم قواته الحربية، ويتم تجميعهم من مكان إقامتهم بطريقة إلزامية أو تطوعية عندما يريد الإمام القيام بغزو إحدى المناطق أو الإغارة على بعض القبائل وتسمى هذه الطريقة بالنفير.
وتتلخص كيفية إعداد هذا الجيش بأن يصدر الإمام بصفته القائد العام للغزو أوامره إلى الأقاليم بأن يُعد كل منهم عددًا محددًا من الجنود مزودين بالسلاح والعتاد والطعام للخروج معه، كما يرسل رجالاً من الدرعية إلى جميع البوادي حتى يجمعوا رجال القبائل من اتباعه إلى الغزو، وكان الإمام يحدد للجميع ميعادًا محددًا عند مورد مياه معروف يجتمعون عنده للخروج إلى وجهتهم.
كان هذه الأسلوب في التجنيد يؤمن له أعدادًا كبيرة دون أن تتكلف الدولة ميزانية ضخمة لجمعهم وتجهيزهم. وعلى ذلك نجد أن الدولة السعودية الأولى لم يكن لديها جيش نظامي على الرغم من اتساعها، وكانت جيوشها مؤقتة بحيث يعود المقاتلون إلى بلدانهم بعد انتهاء مهمتهم بأستثناء بعض الحاميات العسكرية المرابطة في الحصون لحماية بعض المناطق وحفظ الأمن فيها، إضافة إلى بعض الحرس الخاص والدائم للحاكم في الدرعية على أنه قد وجدت مجموعات مقاتلة يتم تنقيتها واختيارها من قبلة أئمة الدولة السعودية الأولى ويطلق عليهم “المنقية” وهم عبارة عن ثلاث مئة رجل مدججين بسلاحهم ولديهم الخبرة الكافية والكفاءة القتالية لأي مهمة تؤكل إليهم حتى أن الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود قام بوضع أماكن إقامة لهم في الدرعية ويدربون بعض المجموعات القتالية لذلك وقد أسكنهم الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود في الدرعية وتوفير الحاجات اللازمة لهم كما يذكر ذلك “بوركهارت” في كتابه عن الدولة السعودية.
ولم يكن على الدولة أن توفر للمقاتلين السلاح أو الزاد، بل أن كل مقاتل يجهز نفسه بأسلحته ودابته وزاده، ولا يتقاضون رواتب مقابل خدمتهم العسكرية، بل كانوا ينالون أربعة أخماس الغنائم التي يحصلون عليها كما في الشرع الإسلامي.
ولم يكن ثمن تحقيق رؤية ومشروع الإمام محمد بن سعود العظيم سهلاً أو بسيطًا وكان طريقه غير معبد بالورود وكما قال الشاعر أحمد شوقي:
” وما نيل المطالب بالتمني.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا،
وما استعصى على قوم منال منال.. إذا الأقدام كان لهم ركابا..”
فقد واجه في مرحلة التأسيس الكثير من الصعوبات والتحديات كأي مشروع عظيم، مثل تأسيس وتكوين دولة ذات كيان موحد، نظرًا لأن البعض لديهم مصالحهم الفردية ضد مشروع الوحدة والوطن الكبير فقد كان في معارك دائمة لضبط الأمن، وبذل الكثير من التضحيات ومنهم أبناء الإمام محمد بن سعود (فيصل وسعود) فقد استشهدوا -رحمهم الله- أثناء المعارك ولكن ذلك لم يثن من عزم الإمام على الوصول إلى أهدافه بتحقيق الوحدة والنهوض بالمنطقة.
وقد سار الإمام محمد بن سعود ومن بعده من أئمة الدولة السعودية على تطبيق أحكام الشريعة المطهرة وتنفيذها بعد أن كانت قبل قيام الدولة يكتنفها صعوبات في تطبيق ذلك.
فقد كان من صفات الأئمة الذكاء وأيضاً الرأي السديد ويستعينون بالمستشارين والأعيان وطلاب العلم كلاً في تخصصه.
وقد سار نظام هذه الدولة المباركة على أحكام الشريعة الإسلامية المطهرة التي كان من الصعوبة تطبيقها قبل الحكم السعودي.
التأسيس والنواحي الحضارية
ولم تعتمد مرحلة التأسيس في عهد الإمام محمد بن سعود على الحملات العسكرية فقط، بل كان العمل على النواحي الحضارية مواكبًا لما لها من أهمية في بناء الدولة، وقد سن الأنظمة والقوانين التي تنظم الشؤون العامة والخاصة، استنادًا على الشريعة الإسلامية والأخلاق العربية النبيلة.
ونظرًا للتغير الكبير الذي حدث في الأوضاع الأمنية في عهد الإمام محمد بن سعود، فقد طبق النظام بصرامة وعدالة ليكون رادعًا لأفراد المجتمع عن ارتكاب الجرائم والمخالفات، وكانت الدولة تكافئ من يمنع وقوع السلب والنهب والاعتداء على البلدان والقبائل، وتعاقب من لديه القدرة على ردع ذلك ولم يفعل.
مثل هذه الأنظمة والإجراءات الأمنية في ذلك الزمن يدل على الفكر الأمني المتقدم، وقد سبق الإمام محمد بن سعود عصره في هذا المجال، فعندما تطبق الدولة الأنظمة بصرامة وعدل على الجميع وتعاقب المخالفين وتكافئ من يساعد على تحقيق النظام والأمن، فإن ذلك يضفي شعورًا بالطمأنينة لدى الجميع، والاقتناع بفكرة الدولة وتأييدها مما يحفز أفراد المجتمع للدفاع عن الدولة مما يضمن لهم الاستقرار والأمن حتى يعيش الناس حياة آمنة مستقرة مزدهرة وهذا شجع الكثير للانضمام إلى تأييد الإمام محمد بن سعود في بناء دولته الفتية.
أيقونة الإنجاز والتقدم
من خلال تحليل هذه الشخصية الوطنية العظيمة وإنجازاتها المدهشة غير المسبوقة، التي أسست دولة وكيانا سياسيا قويا مترامي الأطراف بإمكانيات محدودة، وفي ظل ظروف بالغة القسوة ومعارضات لمشروعه الحيوي، يتضح مدى عمق الفكر العسكري والاستراتيجي الذي يتكامل مع الفكر السياسي الذي يتحلى به الإمام العظيم محمد بن سعود -رحمه الله-، ويتضح أن هذا الفكر سابقًا عصره ويستحق مزيدًا من الدراسة والتحليل.
فقد وضع استراتيجية واضحة المعالم وقادرة على الصمود في وجه المصاعب والأزمات والتحديات ومقنعة بشدة لاتباعه ومؤيديه، معتمدة على مرتكزات هامة وصلبة، فكره العسكري واستراتيجيته اعتمدت على توفير الأمن الذي هو حجر الأساس في تكوين وازدهار واستقرار الدول، وتوحيد البلاد والعباد تحت قيادة واحدة ودولة مركزية لها سلطة وهيبة، وكذلك على عقيدة إسلامية صافية مطبقة للعدل والنظام وحفظ الحقوق للجميع، مما سمح للأبناء المنطقة ممارسة حياتهم الطبيعية الآمنة، وازدهرت التجارة والعلم وأصبحوا تحت كيان ووطن واحد متحابين ومتعاونين لما فيه خيرهم جميعا.
وقد نهض الإمام محمد بن سعود بهذه المنطقة المنسية البائسة، والتي كانت خارج التاريخ لردح طويل من الزمن بنهضة عملاقة، نقلها من التخلف والانحطاط إلى الرفعة والعز والمجد وأسس وطنا شاسعا عظيما قابلا للبقاء والاستمرارية، ويعد مفخرة للأجيال المتعاقبة.
كل هذا بفضل الله ثم بفضل جهود الإمام محمد بن سعود العظيمة التي تستند على فكر عسكري ورؤية استراتيجية أثبتت نجاحها وتفوقها بدليل تحقيق مشروع الدولة السعودية العظيمة، في وقت وظروف كان تحقيق مثل هذا الحلم أشبه بالمستحيل.
رحم الله الإمام محمد بن سعود ورحم الله أجدادنا اللذين قدموا التضحيات لتبقى لنا مصدرًا للفخر والاعتزاز والالهام ببذل كل ما أوتينا من قوة وجهد للحفاظ على تلاحمنا مع قيادتنا وحفاظنا على مكتسباتنا الوطنية، وبذل المزيد من الجهد للرفع من شأن هذا الوطن العظيم بكل المجالات، وخاصة أننا نعيش أفضل الأيام في بلادنا حاليًا، بما نشهده من نهضة وتقدم وهيبة وسيادة وقوة وتطور وازدهار، حتى أصبحت المملكة العربية السعودية مثالا يحتذى به بكل المجالات وقد أدهشت الإنجازات السعودية الهائلة الكثير من دول العالم وأصبحت قدوة وأيقونة للإنجاز والتقدم والسيادة.
*كاتب مختص بالشؤون العسكرية والسياسية.