دمشق- في أسواق العاصمة السورية العتيقة، حيث الأزقة الضيقة التي تعج بالتاريخ، والمحال التجارية القديمة التي شهدت تعاقب الأزمنة والأنظمة، وقع تحول غير متوقع، لم يكن في الحسبان في يوم الأحد 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، فقد سقط نظام الأسد الذي استولى على السلطة إثر انقلاب عسكري سنة 1971.

على مدى عقود، اعتادت الأسواق المحيطة بالجامع الأموي في دمشق أن تعرض التحف والشرقيات المزخرفة والتذكارات، ومنها ما يحمل صور ألوان العلم السوري وصور الرئيس المخلوع بشار الأسد ووالده حافظ، بل حتى رموز حلفائهم.

وكانت هذه المقتنيات جزءا من المشهد اليومي، يشتريها البعض عن قناعة، والبعض الآخر كنوع من المجاملة أو النفاق الاجتماعي.

لكن فجأة ومع الساعات الأولى لإعلان سقوط النظام، اختفت هذه المنتجات تماما في غضون ساعات، وكأن الأسواق قررت طي صفحة الماضي.

حلّت أعلام الثورة السورية مكان صور الأسد، واستبدلت الخرائط التي كانت تحمل ألوان علم النظام بألوان جديدة تعبّر عن سوريا مختلفة.

أسواق دمشق شهدت حضورا سريعا للمقتنيات التي تحمل ألوان ورموز الثورة السورية (الجزيرة) "كسبنا وطنا.. ولم نخسر شيئا"

نور الدين اللحام، كان من بين التجار الذين تبنوا هذا التحول بشكل كامل. في واجهة متجره، اختفت صور الأسد، وظهرت الأساور والخرائط المزينة بعلم الثورة الأخضر.

بابتسامة واثقة، تحدث عن هذه التغييرات قائلا "هذه خريطة سوريا، وليست خريطة النظام. منذ سنوات، كنا نطبعها بألوان العلم القديم، والآن أصبحنا نطبعها بالعلم الجديد. بعض الأعلام كانت مجرد ملصقات، فقمنا باستبدالها، أما المنتجات المطبوعة التي لا يمكن تغييرها، فقد أتلفناها".

وبشأن ما إذا كان قد تكبد خسائر مالية، نفى اللحام ذلك، معتبرا أن ما تحقق أكبر من أي خسارة مادية، "لم نخسر شيئا! كسبنا وطنا! ماذا تعني خسارة بضاعة، مقارنة بأناس خسروا أرواحهم، أو منازلهم، أو أعمالهم؟ هذه المبالغ لا تساوي شيئا أمام ما عاشه السوريون".

بعض التجار قاموا بإعادة تلوين منتجاتهم لتتماشى مع المرحلة الجديدة في سوريا (الجزيرة) "كنا مجبرين على بيع ما لا نؤمن به"

في السوق نفسه، يعمل شاب فضّل عدم ذكر اسمه، لكنه لم يخفِ ارتياحه للتخلص من المقتنيات التي كانت تُفرض عليهم في السابق. ووفقا لما ذكره، لم يكن بيع صور الأسد وأعلام النظام خيارا، بل كان أمرا مفروضا عليهم تحت رقابة أمنية.

"في السابق، كان الجميع مجبرين على بيع هذه المقتنيات، سواء أعجبتهم أم لا. لم يكن الأمر اختيارا، فالأمن كان يراقبنا، وكثير من المشترين لم يكونوا يحبونها، لكنهم كانوا يشترونها كنوع من النفاق الاجتماعي، أو كهدايا ورشاوي للضباط والمسؤولين لتسيير مصالحهم".

وبعد التغيير الذي شهدته البلاد، تم التخلص من هذه المقتنيات، "فبعد التحرير، رميت ما لا يمكن تعديله منها. أما بعض المنتجات التي تحمل رموزا قابلة للتعديل، فقد أرسلناها إلى الورشات لإعادة صبغها، بحيث تتناسب مع العلم الجديد".

أما عن الخسائر المالية، فقد رأى أن التخلص من إرث القمع كان أهم من أي خسارة مادية. "نعم، قد نكون خسرنا بعض المال، لكن هناك من خسروا منازلهم وعائلاتهم. خسارتنا ليست شيئا يُذكر مقارنة بذلك".

مقتنيات تحمل ألوان ورموز الثورة السورية في أسواق دمشق (الجزيرة) "في دمشق كنا نعيش داخل فرع أمن"

عدنان، صاحب ورشة تصنيع ومحل تجاري ملاصق لسور الجامع الأموي، وصف كيف كانت دمشق تعيش تحت رقابة أمنية مشددة، حيث كان التجار مراقبين بشكل دائم، حتى في ما يتعلق بالبضائع التي يبيعونها.

"في دمشق، كنا نعيش وكأننا في فرع أمن. المحل الذي لا يضع علم النظام أو صورة الأسد، كان صاحبه عرضة للمساءلة، وقد يُتهم بأنه معارض! أعرف صديقا اعتُقل فقط لأنه شوهد وهو يشاهد قناة "الجزيرة". بعد خروجه من السجن، صار يشاهد قنوات الأطفال فقط!".

وتحدث عن الأيام الأخيرة للنظام، عندما كان إعلامه يروّج لاستعادة المدن التي خسرها، وكان الناس مجبرين على تصديق هذه الرواية أو على الأقل التظاهر بتصديقها.

"حتى عندما تحررت حلب، كنا نظن أن النظام سيستعيدها، فقد كان يروج لذلك في إعلامه، وكنا نصدقه. في يوم سقوط النظام، كنتُ مع مجموعة من الشباب، نتابع الأخبار خلسة عبر القنوات العربية، بينما كان أحدنا يراقب باب المحل، خوفا من أن يدخل عنصر أمني ويكشف أمرنا".

في اليوم التالي لسقوط النظام، بدأ عدنان إجراء عمليات "تكويع" لبعض المنتجات، حيث تم تحويلها إلى شيء جديد يتناسب مع التغيير، "أحضرت أقلام تلوين، وبدأت ألون الميداليات والخرائط بنفسي. بسبب انقطاع الكهرباء، اضطررنا إلى تأجيل بعض الأعمال، لكن بعد أسبوع، كنا قد أعددنا نماذج جديدة تماما، وبدأنا بطباعتها في الورشة. كل شيء تغيّر بسرعة".

إحدى المقتنيات التي تعرضت لعملية "تكويع" بعد يوم من سقوط نظام الأسد (الجزيرة)

لكن بعض المنتجات لم يكن بالإمكان تعديلها، فكان الخيار الوحيد هو التخلص منها نهائيا، "الأساور، وصحون النحاس، والفناجين التي كانت تحمل رموز النظام، لم يكن بالإمكان إصلاحها. لذلك، أتلفناها. كانت خسارة مالية، لكنها لم تكن شيئا مقارنة بحرية أن نعيش بدون خوف".

وعند مقارنة ما سبق بما تعيشه البلاد حاليا، قال عدنان "في السابق، كنا نعيش تحت رحمة أشخاص يأتون إلى المحال، يتحدثون إلينا بعنجهية وكأنهم أسياد البلاد، يفرضون علينا دفع الرشاوي، ويهددوننا بلا سبب. أما اليوم، فالوضع مختلف تماما. لا أحد يأتي ليبتزنا، لا أحد يُجبرنا على شيء. عناصر الإدارة الجديدة يتميزون بالعزة والأنفة، ولا يقبلون حتى أن نبالغ في شكرهم".

لا زال القليل من المقتنيات التي تحمل ألوان النظام موجودة في الأرفف الخلفية لبعض المحال (الجزيرة)

ما حدث في أسواق دمشق القديمة لم يكن مجرد تغيير في المقتنيات المعروضة، بل كان انعكاسا لتحوّل أعمق في البلاد بأسرها على ما يبدو، ولم يكن الأمر مجرد استبدال أعلامٍ أو صور، بل هو إعلان بأن سوريا الجديدة لا تشبه الماضي.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات أسواق دمشق لم یکن

إقرأ أيضاً:

الخروج من الحلقة الجهنمية من أهم دروس الانتفاضة

١
أشرنا في مقال سابق إلى الذكرى الأربعين لانتفاضة مارس - أبريل ١٩٨٥ التي تمر في ظروف الحرب اللعينة التي أدت للخراب والدمار والمآسي الإنسانية التي نعيشها، جاءت الانتفاضة على خطى الثورات والانتفاضات السابقة في السودان. فقد أوضحت تجربة الثورة المهدية ١٨٨٥، ثورة اكتوبر 1964م ، انتفاضة مارس – ابريل 1985م ، وثورة ديسمبر 2018م في السودان أن الانتفاضة أو الثورة تقوم عندما تتوفر ظروفها الموضوعية والذاتية والتي تتلخص في :
– الأزمة العميقة التي تشمل المجتمع بأسره، ووصول الجماهير لحالة من السخط بحيث لا تطيق العيش تحت ظل النظام القديم.
– التناقضات العميقة التي تشمل الطبقة أو الفئة الحاكمة والتي تؤدي إلى الانقسام والصراع في صفوفها حول طريقة الخروج من الأزمة ، وتشل اجهزة القمع عن أداء وظائفها في القهر ، وأجهزة التضليل الأيديولوجي للجماهير.
– وأخيرا وجود القيادة الثورية التي تلهم الجماهير وتقودها حتي النصر.
٢
كان من أهم دروس انتفاضة مارس- ابريل 1985م ، أنه كان يجب مواصلتها حتى تحقيق أهدافها النهائية، بحيث لا يصبح التغيير فوقيا ، سواء عن طريق انقلاب عسكري أو تسوية مع النظام القديم تقوم بتغييرات شكلية وتبقي علي جوهر النظام ، كما حدث بعد ثورة ديسمبر في الوثيقة الدستورية والاتفاق الإطاري الذي كان هدفه تكريس الانقلاب بانتخابات مزورة ، والإفلات من العقاب ، وتصفية الثورة .
لكن يجب أن يكون التغيير جذريا يشمل كل النظام القديم ورموزه الفاسدة وقوانينه المقيدة للحريات ، حتي لاتنتكس الانتفاضة ، وبحيث يتم الخروج من الحلقة الجهنمية للانقلابات العسكرية ، واستدامة الحكم المدني الديمقراطي..
٣
لا شك أن مواصلة قيام اوسع جبهة جماهيرية قاعدية لوقف الحرب واسترداد الثورة، ومواصلة التضحيات والمقاومة الجماهيرية من أجل وحدة البلاد والدفاع عن السيادة الوطنية، وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية والصحية والأمنية وعودة النازحين لمنازلهم وقراهم ومدنهم، سوف تصب في النهاية مهما اعترضت العقبات مجرى السيل الثورى ، في توفير العامل الذاتي بوجود القيادة الموحدة لقوى الثورة والتغيير الجذرى ، الاضراب السياسي والعصيان المدني لإسقاط الانقلاب وخروج العسكر والدعم السريع والمليشيات من السياسة والاقتصاد، وانتزاع الحكم المدني الديمقراطي، وتفكيك التمكين واستعادة أموال الشعب المنهوبة ، ومحاكمة القتلة مجرمي الحرب وضد الانسانية ، وتحسين الأوضاع المعيشية وتحقيق مجانية التعليم والصحة ، وتوفير الدواء ، والخدمات الأساسية “مياه ، كهرباء، انترنت”، وتحقيق السيادة الوطنية وحماية ثروات البلاد من النهب والتهريب للخارج ، وعودة شركات الجيش والأمن والدعم السريع والشرطة لولاية وزارة المالية ، وحل المليشيات وفق الترتيبات الأمنية “دعم سريع ، مليشيات المؤتمر الوطني ، وجيوش الحركات المسلحة وبقية المليشيات ” ، وقيام الجيش القومي المهني الموحد ، والغاء القوانين المقيدة للحريات ، واعادة النظر في كل الأراضي التي تم ايجارها بعقود تبلغ 99 عاما ، واتفاقات التعدين المجحفة في حق السودان ، واستعادة أراضي السودان المحتلة. وقيام علاقات خارجية متوازنة مع كل دول العالم، وقيام المؤتمر الدستوري في نهاية الفترة الانتقالية للتوافق على شكل الحكم ودستور ديمقراطي وقانون انتخابات يفضي لانتخابات حرة نزيهة في نهاية الفترة الانتقالية.

alsirbabo@yahoo.co.uk  

مقالات مشابهة

  • أغنيس مريم الصليب.. راهبة الأسد
  • انقطاع الإنترنت في جميع أنحاء سوريا
  • استمرار ملاحقة فلول النظام المخلوع.. الأمم المتحدة: مليون سوري عادوا من الملاجئ
  • لماذا تنهار الجيوش سريعا؟ وماذا حدث لقوات الأسد؟
  • تحول جذري في النظام الإداري.. المحافظات تستعد لنقل ملفاتها إلى الداخلية
  • تعود لفلول نظام الأسد.. العثور على بئر أسلحة في حمص
  • تحول جذري في النظام الإداري.. المحافظات تستعد لنقل ملفاتها إلى الداخلية - عاجل
  • الخروج من الحلقة الجهنمية من أهم دروس الانتفاضة
  • هل تستعيد إيران نفوذها في سوريا؟
  • الأمن السوري يلقي القبض على عميد مقرب من ماهر الأسد