مولانا احمد ابراهيم الطاهر يكتب: الجمهورية السودانية الثانية
تاريخ النشر: 22nd, February 2025 GMT
الرسالة التي حملت رؤية المؤتمر الوطني المستقبلية للسودان جديرة أن تثير نقاشا واسعا في أوساط النخبة السودانية المثقفة . وقد آن لقادة الفكر في بلادنا أن يبدأوا السباق المعرفي ، وليفتحوا الأبواب لشعب السودان ليسهم في رسم استراتيجية البناء والنهضة العظيمة للأمة السودانية .
ونهاية الحرب الضروس قد باتت وشيكة بما قدمته القوات المسلحة ومعاونيها من شباب السودان بتكويناته وانتماءاته المختلفة من تضحية وفداء وثبات وصبر وعزيمة ، لجديرة بأن
تسجل في كتاب التاريخ فخرا وعزا ومجدا أثيلا للسودان ، وتترك في قلوب أعدائه رعبا ورهبة
لا يمحوها مرور الأيام والليالي .
إن من ملامح ما بعد النصر أنها كما أنهت المؤامرة الاقليمية والدولية الكبري علي البلاد ، فإنها قد انتهت بها حقبة جيل السبعينات والثمانينات ومعظم مواليد الاربعينات والخمسينات من أبناء السودان الذين عمروا بلادهم وأداروها في تلك الحقبة . فمن عبر منهم إلي الدار الآخرة فهو رجاء الله تعالي ومغفرته ورضوانه . ومن بقي منهم فهو في فترة المراجعة والإنابة والاستعداد للرحيل ، مع بذل ما اكتسبه من تجارب الحياة العامة والخاصة للجيل الناهض بأعباء الحياة القادمة . فبتقدم العمر وبتغير الأحوال وباختلاف أهداف المرحلة وتحدياتها لم يعد هناك من يطمع من أبناء ذلك الجيل في منصب أو في قيادة أو مكسب دنيوي إلا ما ندر ، وقد عبروا عن مواقفهم هذه في مناسبات عدة . فليهنأ الذين أصابهم الوجل من عودة مشاهير سابقين إلي تولي الحكم مجددا فلا العمر ولا الرغبة ولا الأحوال تسعفهم في ذلك . ولتستعد الأجيال الناهضة لتولي مسئولية إدارة الحياة في الدولة والمجتمع بمواهبهم في العلم والمعرفة ، وليدخلوا بابتلاء الله لهم في معترك الحياة بالعزم والحزم والزهد والاستقامة ، وبحب الله وحب الوطن وحب الناس وكراهية الفساد والخيانة والجريمة .
إن النظر في أسبقيات العمل في الدولة تفرض علي المرء البدء بما هو أولي . ولا أحسب أن قضية ما تسبق قضية الأمن القومي في البلاد . فبفقدان الأمن فقد أهل السودان كل شيء ، النفس والأرض والمال والعرض والطمأنينة والتعليم والصحة واجتماع الأسرة وغيرها . لقد كان عقلاء المجتمع يطلقون المحاذير للشعب السوداني عن مخطط العدو الخارجي لاستهداف الوطن والمواطنين ، ويبينون لهم ملامح التخطيط المجرم لاحتلال البلاد ، وقد نشرت ملامحه في وسائل الإعلام الغربية باقتراب احتلال دول في المنطقة من بينهم السودان ، ولكن غفلة العامة كانت كبيرة ، وتصديقهم لوقوع الكارثة كان ضعيفا ، وحسبوها مناورات من ساسة يريدون بها التكسب ، فلم يستبينوا النصح حتي وقعت الواقعة ورأوا بأعينهم ما لم يخطر ببالهم من فظائع الحرب وقسوة المجرمين ووحشية البشر وهمجية ليست من طبائع الحيوان ، وأصبح مخطط العدو يجوس خلال ديار المواطنين العزل في القري النائية والمدن الوادعة . ولولا لطف الله وحسن تدبيره ورعايته لفقدنا أرض السودان بما تحمله من مواهب الله الثرة وعواريه المستودعة ومنائحه الدارة وخيراته الوفيرة ومساجده العامرة وخلاويه التالية لكتابه ، ولأصبح أهله مشرودين في دول لا تعرف معاني الإخاء والنصرة وحب الناس واستقبال الملهوف .
فمن أجل هذا الدرس القاسي تكون العظة للحاكم والمحكوم علي السواء بأن قضية الأمن القومي هي القضية ذات السبق في الترتيب ، بلا تراخ ولا تفريط ، ولا استهانة ولا استكانة ولا مجاملة لقريب أو بعيد أو لصديق أو عدو . فإن كان في خزينة البلاد وفي خزائن أفراد مال كثير أو قليل فهو أولا لتأمين البلاد ، والبدء بالقوات المسلحة وقوات الأمن وقوات الشرطة . إن مضاعفة الاحتياطي البشري لهذه القوات في ظل التهديد الماثل والذي لم تزدة الأيام إلا تأكيدا ، ينبغي أن يضاعف بعشرة أضعافه . والقوات النظامية تدرك كيف تفعل ذلك دون عنت ومشقة . ومضاعفة الاحتياطي البشري تظل تأمينا للبلاد من أي تمرد داخلي وأي غزو خارجي ، كما أنها سند ميسور لمواجهة الكوارث الطاريئة ، وهي أيضا مورد للمعلومات ورصد لكل نشاط تخريبي في الاقتصاد ومكافحة التهريب وتجارة المخدرات والوجود الأجنبي غير المقنن ، وفي الحيلولة دون انفجار النزاعات القبلية وفي اختراق الحدود وغيرها .
إن مضاعفة قوات الاحتياط بشريا لابد أن تصحبه مضاعفة القدرات القتالية والتأهيل الأمني والتدريب المتقدم والإعداد النوعي الذي يستجيب للتطوير الفني باضطراد كلما تطورت الأنظمة التقنية ليواكب تطورها تجاوزا للتخلف وحرصا علي التفوق المستمر الذي يفضي إلي يأس شياطين الإنس والجن من الطمع في بلادنا .
بالطبع هنا لا نتحدث عن تطوير القدرات العسكرية الدفاعية والفنية ، حيث أن قادة هذه الأجهزة أكثر دراية منا ، ولا نتحدث عن إعادة هيكلتها كما كان يفعل جهلة الحرية والتغيير وعملاء السفارة الغربية وخونة الزمرة المستعبدة وأرباب اليسار المستخدم ، ونحن نعلم أن ما لدي هذه الأجهزة ما يعينها في تطوير استراتيجيتها كلما لزم الأمر . ومع ذلك نلمح ولا نفصل في إعادة النظر في الخارطة الجغرافية الدفاعية بما يعين علي قيام مدائن حضرية جديدة مزودة بوسائل دفاعية مقتدرة وقدرات انتاجية مقتدرة ووسائل اتصال عالية الجودة وصناعات تحويلية ومصدات دفاعية محكمة وخارطة دائرية متصلة لا تعين العدو علي اختراق البلاد كما فعل الآن ، وتستوعب في داخلها نخبة كبيرة من الخريجين لتقوية حصون البلاد الجديدة ، ولميلاد جيل عالم مستنفر معبأ ومقاتل ومنتج ومهتد وهاد لأمته المحفوظة بعناية الله تعالي . إنضم لقناة النيلين على واتساب
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
البروفيسور حسن أحمد إبراهيم (1938- 14 مارس 2025): عاصفة على تاريخ الحركة الوطنية السودانية
رحل عنا إلى دار البقاء الأسبوع الماضي مؤرخ فحل للسودان الحديث هو البروفيسور حسن أحمد إبراهيم، رئيس شعبة التاريخ في كلية الآداب بجامعة الخرطوم (1976-1978) وعميد الكلية (1984-1990)، وشغل وظائف منوعة في الجامعة العالمية الإسلامية بماليزيا وانتهى مديراً للمعهد العالي لوحدة الأمة الإسلامية (1995-2007) وعميد كلية الدراسات العليا في جامعة أفريقيا العالمية بالخرطوم لاحقاً. ومن بين كتاباته ذات الخطر مؤلفه عن الإمام عبدالرحمن المهدي (1885-1960) زعيم جماعة أنصار والده محمد أحمد المهدي (توفي عام 1885) التي سوى صفها بدأب ونباهة بعد أن شتتها الغزو الإنجليزي عام 1898 إلى الجهات الأربع بعد القضاء على دولتها. وصدر الكتاب بالإنجليزية عن دار بريل (2004) بعنوان "السيد عبدالرحمن المهدي دراسة في المهدية الجديدة في السودان" (1899-1956) بعد صدوره باللغة العربية عام 1998. وجرؤ حسن في كتابه على مراجعة ذائعة عن الإمام بين خصومه دمغته كمتعاون مع الاستعمار الإنجليزي وخائن لوطنه في صوره الذائعة المتطرفة، في حين هم من قاوموه.
مهندس الاستقلال
وجاءت هذه المراجعة على لسان إبراهيم نفسه بمثابة انعتاق شخصي له من وزر هذه الذائعة التي ترعرع في بيئاتها، ويريد بهذه البيئات الدوائر السياسية التي دعت بفرقها الكثيرة وأهوائها إلى الوحدة مع مصر بعد استقلال السودان بينما كان نهج الإمام هو استقلال السودان برعاية بريطانيا، مستبعداً مصر التي لم تكُن من أزال والده المهدي حكمها على السودان فحسب، بل سعت دولته من بعده إلى غزوها من غير طائل أيضاً. فقال إنه جاء لتأليفه عن الإمام من بيئة اتسمت "بالعصبية والتشيع لدرجة وصمت الإمام عبدالرحمن المهدي بممالأة (الإنجليز) على أقل تقدير، ووصلت المبالغة بوصفه خائناً وتابعاً ذليلاً لبريطانيا المستعمرة". فعركته ميادين دراسة التاريخ عركاً اطلع فيه على وثائق التاريخ السوداني الحديث في مظانها بدت له منها "سذاجة وبطلان وتعسف تلك التهم". وبعد التحليل اتضح لإبراهيم أن الدوائر البريطانية في السودان ومصر وبريطانيا كانت تنظر إلى الإمام بالشك، بل كادوا له وحذروا في وقت باكر من أنه هو من سيطوي صفحة الإنجليز. وفعلها لحكمته، في قول إبراهيم، بطريقته الخاصة في الدهاء والمناورة حتى عده "مهندس الاستقلال"، على غير ما يزعم من أعطى الرتبة لغيره.
وحال إبراهيم في الانعتاق من حزازته على الإمام مما قال عنها أحدهم إن الإنسان كمن يولد من جديد متى بان له عوار فكرة أنس لها طويلاً ما وثابر على التخلص بقوة منها.
مرحلة التكوين
عرض إبراهيم للعلاقة بين الإمام والإنجليز منذ نجاته صبياً شريداً بعد هزيمة المهدية من حملة إنجليزية تعقبت أسرة المهدي وقضت على اثنين من إخوانه إلى استقلال السودان عام 1956، وسمى فترته التي جمع فيها الأنصار من شتاتهم وإدارة شأنهم وإنشاء مؤسسته الاقتصادية "دائرة المهدي" بحرفية وطول بال في أوضاع سياسية وطنية واستعمارية متقلبة، "المهدية الجديدة". واستنفد مصادر هذه الفترة في دور الوثائق في كل من السودان ومصر وبريطانيا. وأعانه على الخوض الصعب في هذا التاريخ المراجع أنه كان كتب رسالته للدكتوراه عن اتفاق عام 1936 الذي عقد بين دولتي إنجلترا ومصر، الحكم الثنائي على السودان، والذي وعد السودانيين بالحكم الذاتي في 20 عاماً وبأن تكون رفاهيتهم موضع نظرهما. فأحسن إبراهيم في مراجعته لتاريخ الحركة الوطنية من فوق علمه الدقيق بذلك الاتفاق المحوري في تاريخ تلك الحركة.
يطلق ذائعة تعاون الإمام مع الإنجليز من لم يتوقف ويسأل إن كان أولئك الإنجليز أمة واحدة لا تشوبها شائبة خلاف. وخلافاً لذلك يقف قارئ إبراهيم على أن الإنجليز لم يكونوا دائماً ذلك الكيان الواحد الصمد ويخرج بأنهم بفضله أنهم كانوا في الأربعينيات وقت اشتداد الحركة الوطنية فئتين متشاكسين. فلا يعرف المرء إن كان ولاء الإمام لأي منهما هو ما جاء له بذائعة ممالأة الاستعمار. وأظهر ما كان ذلك الخلاف بين شيع الإنجليز حول الموقف من مصر الذي دار حول اتفاق رئيس وزراء مصر إسماعيل صدقي ورئيس وزراء بريطانيا إرنست بيفن (صدقي-بيفن) (1946). فكانت مصر، الشريك اللدود مع إنجلترا في حكم السودان الثنائي، حظيت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتحت حكم حزب العمال بمنزلة مرموقة في استراتيجية الحكومة البريطانية في الشرق الأوسط أرخت بريطانيا بها أذنها لمطلب مصر بالسيادة التاريخية على السودان كما لم تفعل من قبل.
وأزعج ذلك لا الإمام وحده، بل حكومة السودان في الخرطوم نفسها. ففي ذلك الاتفاق اعترفت بريطانيا لمصر بحقوقها التاريخية في السودان. وكان بيفن نفسه رأى أن أفضل وضع للسودان هو أن يكون في وحدة مع مصر، مما لم تتفق حكومة السودان معه فيه. وخرج هوبرت هدلستون، حاكم السودان العام، يزري بالخارجية البريطانية وينتقدها لأنها تسمع من الاتحاديين لا من حلفائها الاستقلاليين الذين سيعارضون ذلك الجنوح لمصر كما فعلوا دائماً بثمن فادح. وفي السابع من نوفمبر أعطى بيفن إسماعيل صدقي اعتراف بريطانيا بوحدة وادي النيل مع حق تقرير المصير للسودان، على ما بين الحقين من تناقض. ورأى هدلستون في موقف حكومته خذلاناً للإمام وجماعته ممن كان يسميهم "أصدقاءنا". وكان رأي حكومته في لندن أن أصدقاءه أولئك إنما يريدون التخلص من بريطانيا بمثل ما أردوا التخلص من مصر في وقتهم المناسب. وضاقت الخارجية بهدلستون وطلبت منه الاستقالة عام 1947 ليحل محله روبرت هاو وهو من موظفي وزارة الخارجية.
"مقاومة الاستباحة المصرية"
ولم يـتأخر الإمام في المقاومة ضد ما رآه استباحة مصرية للسودان من الحكومة البريطانية ممن ظن فيها الخير، فشكّل الجبهة الاستقلالية وقاطع جلسات المجلس الاستشاري لشمال السودان (1946) الذي أذنت به الحكومة لتعطي السودانيين صوتاً في إدارة شأنهم، وعقد الندوات السياسية والتظاهرات لإدانة بريطانيا على تساهلها مع مصر في شأن السودان، بل طالب بإنهاء الحكم الثنائي وترك السودانيين لتكوين حكومة ديمقراطية، والتحم الاتحاديون والاستقلاليون في تظاهراتهم مما اضطر الحكومة إلى منع النشاطات السياسية. وقللت بريطانيا من خطر مقاومة الإمام ورأت فيه رجلاً تبددت أحلامه في مملكة تمناها بالبلد على غرار الملك فيصل في الجزيرة العربية. ولما عاد صدقي في الـ26 من أكتوبر 1946 لمصر وقال مقولته المشهورة "جئتكم بالسيادة على السودان"، طلب الإمام الذهاب إلى بريطانيا ليطلع الحكومة والشعب على موقفه من استقلال السودان، وقبلت بريطانيا على مضض على أن يغشى القاهرة في طريقه إلى إنجلترا حتى لا تنزعج مصر، ورفض صدقي أن يلتقي الإمام.
وواصل الإمام معركته لاستقلال السودان وبدعم من حكومة السودان ضد اتفاق صدقي-بيفن. وفي بريطانيا عبّر الإمام عن نفسه بمصطلح متعارف عليه بين قادة حركات التحرر الوطني، فنفى أن تكون لمصر حقوق تاريخية في السودان لأن من كانت له تلك الحقوق بالفعل هي الدولة العثمانية التي حكمت مصر والسودان معاً، وأطاح بها السودانيون بثورة جبت كل زعم. كما قال إن ميثاق الأمم المتحدة أعطاهم الحق في تقرير المصير ككل مستعمرة أخرى، مذكراً بجهود السودانيين في دعم المجهود الحربي لبريطانيا في الحرب العالمية الثانية باشتراك قوة دفاع السودان في تحرير الحبشة.
ولوّح بأنه إذا لم توقف بريطانيا مصر عند حدها فقد تنفجر الأوضاع كما في فلسطين التي أثارها وعد "بلفور" من جانب واحد لليهود. وطلب من بريطانيا أن تلتزم بحق السودان في تقرير مصيره واستقلاله خلال 10 أعوام وأن ترعى ذلك الالتزام في كل عهد توقعه مع مصر وإلا تحملت عاقبة الأمور. ووجد الإمام من استمع إليه وميّز قوله بين المحافظين والصحافة.
اجتماعات نيويورك
وواصل الإمام المؤتمرات الدولية عن السودان بمندوبين يعرضون سبيله لاستقلال السودان، فعقد اجتماع للأمم المتحدة في نيويورك دعت إليه للنظر في المسألة السودانية بعدما سمعت مصر من الحكومة البريطانية قولاً عن حقها في السودان لم يطابق ما تريده تماماً. فرتب الإمام وفداً ليكون حاضراً في المؤتمر يذيع وجهة نظرهم التي جاءت ضمن مذكرة عنوانها "قضية استقلال السودان" جددوا فيها حججهم التي تطرقنا إليها أعلاه عن فساد زعم أن لمصر حقوقاً في السودان. فالحكم الثنائي نفسه عام 1898، بحسب المذكرة، أبطل زعم مصر بحق تاريخي في السودان لأنه صار بالاتفاق مستعمرة مستقلة. ولم تنتهِ اجتماعات نيويورك إلى شيء مما هو كسب سلبي لبريطانيا التي كانت مصر طالبتها بمغادرة السودان. ولقي وفد الإمام من ناصره في القضية فطمأنه على عدالة قضيته. ولكن وضح للمهدي من اجتماعات نيويورك أن سياسة المواجهة مع بريطانيا منزلق صح تجنبه، فبريطانيا مهما قال عنها هي التي تملك الأوراق في السودان، فعاد للتعاطي معها في ما بعد.
واضح من كتاب إبراهيم المُراجع عن الإمام المهدي أنه من الصعب وغير المفيد استمرار هذا الأخدود في تاريخ الحركة الوطنية بين "الوطنيين"، من مثلهم الاتحاديون ممن طلبوا الاستقلال "تحت التاج المصري" و"المتعاونون" مع الاستعمار من مثلهم الإمام ورهطه. فعلاوة على جعله هذا التاريخ قراءة مملة، فهو كما رأينا لا يرى في الإنجليز شيعاً لم يتهيب الإمام مقاومة طرف منها هو الحكومة البريطانية بجلالة قدرها حين استباحت السودان لمصر على رغم اعتراض حكومة السودان نفسها على نهج مركزها الإمبراطوري. ومن طريف ما جاء في الكتاب أن وفد الإمام من المتعاونين إلى لندن سعى إلى عرض مسألته حتى على منظمة الجامعة الأفريقية التي كانت تعبأت لتأمين حق تقرير المصير للمستعمرات الأفريقية بعد الحرب مما ربما لم يبلغه الاتحاديون. وإذا كانت الأمور بخواتيمها فالمعلوم أن استقلال السودان وقع على حافر خطة الإمام لا خطة الاتحاديين. فقرر اتفاق عام 1953 للحكم الذاتي للسودانيين متى نالوا الحكم الذاتي استفتوا أنفسهم إن كانوا مع الوحدة مع مصر أو الاستقلال. ولم يحتج السودانيون لأي من ذلك، فتعاقدوا على الاستقلال من دون حاجة إلى الاستفتاء في ما عرف بـ"إعلان الاستقلال" من داخل البرلمان الذي كانت الغلبة فيه للاتحاديين الأشاوس من دون الاستقلاليين المتعاونين.
ibrahima@missouri.edu