هل نختار مصائرنا؟!
تاريخ النشر: 22nd, August 2023 GMT
مدرين المكتومية
يظل الاختيار مُعضلة إنسانية أزلية، وتظل جدلية "مُخيّر أم مُسيّر" تُهمين على طريقة تفكيرنا وتُؤثر على نمط حياتنا وأسلوب معيشتنا، فلا شك أن هناك بعض الأمور لا اختيار لنا فيها، فعندما نُبصر نور الدنيا لا يكون لنا حق اختيار الأبوين أو الوطن أو العائلة، وفي مراحل مُبكرة من الطفولة قد لا نختار المدرسة التي نذهب إليها ولا المناهج الدراسية التي نحشو بها أدمغتنا الصغيرة، لكن في تلك المرحلة ربما نختار فقط الصديق أو الصديقة، الذي لا يعدو كونه شخصاً نرغب في قضاء الوقت معه، سواء في الفسحة المدرسية أو خلال الإجازات، فكلها اختيارات سهلة ويسيرة بلا تعقيد في المشاعر أو اضطراب في النفسيات!
غير أننا نظل طيلة حياتنا في هذه الدنيا، نسعى دائمًا للبحث عن الاختيارات الصحيحة والاختيارات القائمة على الاقتناع والمنطق، حتى الحُب نفسه، ورغم أنَّ الأغلبية من البشر يربطونه بالمشاعر لا العقل، بالأحاسيس لا المنطق، فإننا في حقيقة الأمر وفي أكثر الأحيان، نحكم على علاقات الحب بالعقل، العقل دائمًا يُرجح كفة القلب، فإذا ما أدرك العقل أن القلب يتوق لشيء أو شخص ما، فإنه يُصدر أوامره العصبية إلى كافة جوارح الجسم لتنفيذ ما يطلبه القلب! ربما في بعض الأحيان لا يستجيب العقل إلى القلب، لو كانت حُجة القلب ضعيفة.
قضية المصير والاختيار تُهيمن دائمًا على أفكارنا؛ بل إن البعض يتخذها مُبررًا للأخطاء أو الفشل، كأن يقول إن "القدر كتب لي الفشل أو الإخفاق"، في حين أن الأمر برُمته قائمٌ على الاختيار الأول الذي اتخذه الشخص، ثم سلسل القرارات الأخرى التي يقبل بها ويرضى عنها. لا شك أن الأقدار ترسم مصائرنا، لكن في الوقت نفسه نحن نتحمل مسؤولية أفعالنا، فعندما نقرر أن نسلك الطريق الأول ونبتعد عن الطريق الثاني، يجب أن نعي تمامًا التبعات التي ستترتب على كل اختيار، والنتائج التي يُفرزها كُل مسار نسلكه.
ولنا في علاقة الآباء والأبناء العبرة والمثل، فهناك من الآباء من يُربي أبناءه على حرية الاختيار القائم على التفكير السليم، ويُعزز في نفوسهم القدرة على تولي زمام الأمور، من خلال غرس الثقة في نفوسهم أولًا قبل كل شيء. لكن من جهة أخرى، نجد آباءً يمارسون الترهيب الفكري والنفسي والمعنوي على أبنائهم، فكُل حديثهم معهم قائم على التوجيه والإلزام والتخويف من العواقب، بل في أحيان أخرى العنف والتجريح والتقليل من قيمة الطفل ومن أهمية رأيه. في النموذج الأول نجد الأبناء الذين تربوا على حرية الاختيار ومن ثم تحمّلوا نتائج الاختيار، أكثر قدرة على التعايش مع ظروف الحياة ومتغيراتها، وأكثر استعدادًا لتقبُّل الإخفاقات، والأهم الاستفادة منها والبناء عليها، والتعلُّم من الأخطاء.
وأخيرًا.. علينا أن نعزز في نفوسنا وفي نفوس من حولنا، القدرة على اتخاذ القرار السليم، وتقبُّل الإخفاقات، والفرح بالنجاحات، والاعتماد على الذات، والتعاون مع الآخرين. علينا أن نغرس في الأجيال الصاعدة مهارة التفكير النقدي، والبحث عن الحلول لكل مشكلة نواجهها، لا أن نظل نبكي على الحليب المسكوب، ونندب الحظ ونُلقي باللوم على الأقدار. لقد جئنا إلى هذه الحياة كي نعيشها، ونتعلم من أخطائنا، ونُحرز النجاح، فلنعمل على كل ما من شأنه أن يمنحنا الراحة النفسية ويساعدنا على تخطي الحواجز ومن ثم بلوغ الأهداف وتحقيق الغايات.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الحياكة.. غرزات صغيرة تصنع سلاما كبيرا للعقل والجسم
تخيل نفسك تجلس في ركن هادئ من منزلك، تمسك إبرتين وكرة من الصوف الملون، وتحرك يديك بإيقاع ثابت لا يصاحبه سوى خشخشة خفيفة للخيط وهو ينزلق بين أصابعك. شيئا فشيئا يبتعد صخب العالم، وتخف الضغوط عن كتفيك، لتكتشف أن السعادة قد تكمن أحيانا في غرزة صغيرة.
ورغم أن الحياكة قد تبدو للبعض هواية قديمة، فإن العلم الحديث أعاد إبراز قيمتها كوسيلة فعّالة لتهدئة العقل واستعادة التوازن. ففي زحمة الحياة المتسارعة، تبرز هذه الحرفة كملاذ لطيف يمنح صاحبه مساحة للتنفس، وفرصة لنسج الطمأنينة بيديه؛ حيث تتحول من مجرد صناعة قطع صوفية إلى رحلة علاجية تنسج خيوط السلام داخل النفس.
تخيّل نفسك جالسا في ركن هادئ من منزلك، تمسك إبرتين وكرة من الصوف الملون، وتحرك يديك بإيقاع منتظم لا يُسمع فيه سوى خشخشة خفيفة للخيط وهو ينزلق بين أصابعك. شيئا فشيئا يتلاشى صخب العالم من حولك، وتخف الضغوط عن كتفيك، لتدرك أن السعادة قد تختبئ أحيانا في غرزة بسيطة.
ورغم قدم تاريخ الحياكة، فإن العلم الحديث أعاد تسليط الضوء على قيمتها كوسيلة فعّالة لتهدئة العقل واستعادة التوازن. ففي زحمة الحياة المتسارعة، تبرز هذه الحرفة كملاذ لطيف يمنح ممارسها مساحة للتنفس، وفرصة لنسج الطمأنينة بيديه؛ حيث تتحول من مجرد صناعة قطع صوفية إلى رحلة علاجية هادئة تنسج خيوط السلام داخل النفس.
تمرين شامل للدماغالحياكة ليست مجرد حركة بسيطة باليدين، بل نشاط يحفّز عدة مناطق في الدماغ في الوقت نفسه. فالمراكز المسؤولة عن الحركة تنسّق بين اليدين لإتمام الغرز، بينما تعمل المناطق البصرية على متابعة شكل النمط والألوان. ويتولى الجزء المسؤول عن التفكير والتنظيم إدارة التركيز وحل المشكلات، في حين يقوم مركز الذاكرة بتسجيل المهارات الجديدة وترسيخها.
إعلانهذا التكامل يجعل الحياكة تمرينا ذهنيا فعّالا يحافظ على نشاط الدماغ وقد يساعد على تأخير ضعف الذاكرة مع التقدم في العمر. وقد دعمت هذه الفكرة دراسة أجرتها مايو كلينك في الولايات المتحدة عام 2011 على 1321 من كبار السن، وأظهرت أن الأشخاص الذين يمارسون أنشطة معرفية مثل الحياكة والقراءة والألعاب تقل لديهم احتمالات الإصابة بالخرف بشكل ملحوظ.
على المستوى الجسدي، تمنح الحياكة دعما واضحا لصحة اليدين من خلال حركاتها الدقيقة والمتكررة والتي تحسن مرونة المفاصل وتقوي العضلات الصغيرة، مما يساعد على تقليل التيبس والحفاظ على نطاق الحركة، وهو ما يجعل بعض المعالجين الفيزيائيين يوصون مرضى التهاب المفاصل بممارستها بشكل معتدل. كما يعزز التنسيق المستمر بين العينين واليدين المهارات الحركية الدقيقة ويقوي التواصل بين الجهاز العصبي والعضلي، وهو تطور لا يخدم الحياكة وحدها بل ينعكس أيضا على أداء المهام اليومية التي تتطلب دقة وتحكما أفضل، فيما يسهم تدفق الدم المتزايد في الأنسجة الدقيقة في دعم صحة الأوتار والعضلات الصغيرة.
رفيق في رحلة الشفاء النفسيتُعدّ الحياكة أداة فعّالة للتعامل مع القلق والاكتئاب؛ إذ يتركز ذهن الممارس على تشكيل الغرز، فيكسر حلقة الأفكار السلبية، ويمنحه المنتج النهائي شعورا ملموسا بالإنجاز حتى في أصعب الأيام. كما أن طبيعتها التأملية تهدّئ العقل المضطرب وتوفّر لحظات من الراحة الذهنية، لتصبح وسيلة غير دوائية لإدارة التوتر يمكن اللجوء إليها في أي وقت.
تشير دراسة أُجريت في مركز "بالانس" الطبي في كولومبيا البريطانية بكندا ونُشرت عام 2024 في مجلة فورتنز إلى أن الأنشطة الإبداعية مثل الحياكة تنشّط شبكة المكافأة الدوبامينية في الدماغ، خصوصا في المناطق المرتبطة بالمتعة والمزاج، لكنها توفّر مكافأة أبطأ وأكثر استقرارا مقارنة بالمحفزات السريعة مثل التمرين أو السكر.
كما وجدت دراسة صادرة عن "معهد العقل والجسم" بكلية الطب في جامعة هارفارد عام 2007 أن الحياكة تخفّض معدل ضربات القلب بنحو 11 نبضة في الدقيقة، وتخلق حالة من الهدوء تشبه تأثير اليوغا. لذلك يستخدمها بعض المختصين كعلاج بسيط يجمع بين الانشغال الذهني والحسي والتواصل الاجتماعي، ويساعد في بناء روتين يومي داعم للصحة النفسية.
لم تعد الحياكة نشاطا فرديا تقليديا تمارسه الجدات وربات البيوت فقط، بل تحولت إلى حركة اجتماعية وثقافية حديثة تجمع بين المتعة الشخصية والفائدة النفسية والاجتماعية. فقد شهدت السنوات الأخيرة انتشار مجموعات ونوادي الحياكة حول العالم، لتصبح منصات حقيقية للتواصل الإنساني بعيدا عن ضغوط الوسائط الرقمية، حيث يتبادل الأعضاء الخبرات والنصائح والقصص، ويجدون دعما متبادلا يكسر شعور الوحدة والعزلة ويعزّز الإحساس بالانتماء ضمن شبكة من الأشخاص الذين يشاركونهم الهواية نفسها.
إعلانكما تسمح بعض المبادرات التطوعية للهواة بحياكة قطع تُهدى إلى المحتاجين، مما يخلق إحساسا عميقا بالقيمة والعطاء. بهذه الطريقة، أصبحت الحياكة نشاطا متعدد الأبعاد يجمع بين الهدوء الذهني، والإبداع الشخصي، والدعم الاجتماعي، ويثبت أنها ليست مجرد هواية تقليدية، بل أسلوب حياة حديثا يدعم الصحة النفسية والاجتماعية معا.
الحياكة تتجاوز مجرد خيوط وصوف؛ فهي طريقة للحياة تعلمنا الصبر والتأني والعيش في الحاضر. كل غرزة صغيرة تقربنا من السلام الداخلي، وكل قطعة منتهية تحتفل بقدرتنا على الإبداع. في عالم سريع وفوضوي، تمنحنا الحياكة فرصة للتوقف، والتنفس، والاستمتاع باللحظات البسيطة التي تصنع السعادة. لذا، في المرة القادمة التي تعرض عليك فيها جدتك تعلم الحياكة، لا تتردد، أو يمكنك الاستفادة من مئات دروس المبتدئين المتاحة على اليوتيوب.