العودة للدولة ونهاية الميليشيات!
تاريخ النشر: 21st, February 2025 GMT
لا تزال تسيطر على عقول المحللين العرب أو أكثرهم أن «المقاومة» فكرة أو اعتقاد، وأنه يستحيل إخمادها بالقوة، بل لا بد من سردية بديلة مقنعة أو مثيرة للخيال والهمم! وهذه القصة في الأصل من صناعة دونالد رامسفيلد وزير دفاع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن. وفي اعتقاده أن «القاعدة» و«داعش» وأمثالهما تمثل مذاهبَ اعتقادية يصعُبُ الخروج منها، ويتشبث بها أصحابها استناداً لاقتناعٍ عميق، فيسهل عليهم التضحية بأنفسهم في سبيله.
إنما اللافت للنظر أنّ المسلمين أنفسهم هم الذين قاتلوا المتطرفين إلى جانب المجتمع الدولي. وبالنسبة للعلة الثانية فأين هو الإنجاز الذي حقّقه «الجهاديون»، بحيث يغري ذلك الشبان باتباعهم؟
إنّ هذا الحديث يتجدد الآن في حالتَي «حماس» بفلسطين، و«حزب الله» في لبنان. ومع أنني أُحسُّ أن التحزب للتنظيمين يأتي غالباً من خارج مجتمعهما، فإنّ السؤال يظلُّ: ما الإغراء (حتى في الفكرة) بعد الهزائم المتوالية، وعشرات ألوف الضحايا، والخراب الهائل؟ ومتى حررت الميليشيات المسلحة أرضاً أو بنت سلطة تخدم ناسها الذين تسيطر عليهم؟ لا شك أنها تنظيمات متماسكة، ولدى البعض اعتقادات، لكنّ معظم الخاضعين مغلوبون على أمرهم، ولا يعتبرون الميليشيات أساساً لقيام نظامٍ صالحٍ يضمن الأمن والاستقرار وعيش الأطفال ومستقبلهم. بل كيف ينظر هؤلاء إلى أنفسهم وقد تسببوا في هلاك أطفالهم ونسائهم من دون أن يتحقق شيء من التحرُّر أو التحرير؟ يترجى العرب والمنظمات الإنسانية «حماس» الآن لكي تتخلى عن السيطرة في القطاع إبقاءً على حياة الملايين الذين هددتهم جميعاً حروبها. وسيقول قائل: لكن سلطة محمود عباس لا تعد بالتحرر وما عاد أحدٌ يفكر بإمكان الاستقلال بالسلم. لكنّ الاستقلال بالقوة ليس متاحاً، والأولوية ينبغي أن تكون لحفظ الحياة والنظر للمستقبل.
ولنمضِ إلى لبنان حيث ما عاد هناك غير خيارٍ واحد هو خيار الدولة. فقد وقّع رئيس المجلس النيابي، نبيه بري، باسم «حزب الله»، على الانسحاب من جنوب الليطاني، وانتهت الجبهة. فما الحاجة إلى هذا السلاح الكثيف بالداخل اللبناني؟ وما الحاجة إلى هذا الاستتباع لإيران الذي جلب كوارث على اللبنانيين وخصوصاً الشيعة من بينهم تكاد تضاهي ما جنته «حماس» على غزة والضفة، بل إنّ «حزب الله» والميليشيات الإيرانية المشابهة جلبت كوارث على سوريا والعراق واليمن وليس على لبنان فقط!
الدولة اللبنانية الآن ليست الخيار البديل، لأنّ ميليشيا الحزب ما كانت أبداً خياراً لمعظم اللبنانيين. فلنفترض أنّ الحزب كان بديلاً لفريقٍ من اللبنانيين، لكن لماذا يبقى كذلك بعد حروبٍ خاضها وخسرها جميعاً، وفي كل مرة تزداد المناطق المحتلة التي صار اللبنانيون جميعاً على يقين أنّ الحزب لن يستطيع - تماماً مثل «حماس» - إنجاز تحريرها.
يخوض اللبنانيون الآن تجربة جديدة لإقامة دولة للجميع تتمتع بالشرعية الدستورية والعربية والدولية. وهي تحاول بعد تكوين السلطات الدستورية، أن تخرج حتى في بيانها الوزاري من إسار الثالوث المعروف، وهو في الحقيقة قد مثّل دائماً سلطة أوحدية أضرَّت باللبنانيين أكثر بكثير مما أضرَّت بإسرائيل. قال لي عسكري سابق - هو صاحب أطروحة السردية: لكن الحزب تمكن من تهجير مائة ألف إسرائيلي، وهذا إنجازٌ بارز! قلت: لكن في المقابل تسبب في تهجير مليون لبناني وأكثر لا تستطيع كثرة منهم العودة إما بسبب الاحتلال أو بسبب خراب الديار!
إنّ قوة الشرعية تأتي ليس من الرسوم والشعائر المنظورة، فقد كانت موجودة من قبل. بل تأتي هذه المرة من الإرادة الجامعة للبنانيين، وهي الإرادة التي يتعيّن عليها أن تكون صلبة وفي غير حاجة للتبرير أو الاستدلال أو الاستسلام لفكرة أو اعتقاد أو سردية المقاومة. فالمقاومة ليست بديلاً عن الدولة، بل الدولة هي الخيار الأول والأخير. فحتى في فلسطين يبدو خيار الدولة الوطنية وإن تنكّر له الصهاينة هو الخيار الوحيد للحاضر والمستقبل - أو تبقى الميليشيات ويبقى انعدام الاستقرار، وقد يتقدم خيار التهجير الترمبي!
ما كانت تجارب الدول الوطنية ناجحة، وبخاصة الدول التي سيطر فيها الانقلابيون العسكريون، والأخرى التي سيطرت عليها قوى خارجية. وفي الحالتين صارت الميليشيات المسماة مقاومة هي السائدة وقد استخدمها العسكريون، كما استخدمتها القوى الخارجية.
عندما كنت أكتب هذه المقالة قرأت أنّ «حماس» تقبل الخروج من إدارة غزة. كما جاء في مسودة البيان الوزاري اللبناني انفراد الدولة بالسلاح وقرارات الحرب والسلم، و«السيادة» على الأرض. هل هي العودة للدولة ونهاية الميليشيات؟ هكذا الأمل!
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: آيدكس ونافدكس رمضان 2025 عام المجتمع اتفاق غزة إيران وإسرائيل غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية غزة وإسرائيل إسرائيل وحزب الله
إقرأ أيضاً:
خبير أمريكي: هوس ترامب بالرسوم الجمركية خيار خاسر للجميع
في مقال نُشر اليوم الإثنين في صحيفة "الغارديان" البريطانية، يُقدّم الصحفي الأمريكي ستيفن غرينهاوس تحليلاً مفصلاً لسياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المتعلقة بالرسوم الجمركية، موضحًا أن هذه السياسات لا تعدو كونها "استراتيجية خاسرة للجميع". يعتبر غرينهاوس أن ترامب، الذي يصف الرسوم الجمركية بأنها "أعظم اختراع على الإطلاق"، يبدو وكأنه يتخذ قراراته التجارية بناءً على أهوائه الشخصية، وليس استراتيجيات مدروسة بعناية.
1 ـ تأثير الرسوم الجمركية على الاقتصاد الأمريكي:
غرينهاوس يشير إلى أن الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب، والتي تشمل منتجات متنوعة من الصين إلى الاتحاد الأوروبي وكندا، ليست متسقة أو محددة بل فوضوية ومتقلبة. ففي بعض الأحيان يتم فرض الرسوم، ثم تُعلق، ثم تُفرض مجددًا، مما يخلق حالة من عدم اليقين في الأسواق. وهذه الفوضى التجارية، بحسب غرينهاوس، تُلحق الضرر بالاقتصاد الأمريكي بشكل عام.
2 ـ الرسوم الجمركية وتأثيرها على الطبقات الأقل دخلاً:
أحد أكبر الآثار السلبية التي يسلط غرينهاوس الضوء عليها هو التأثير المباشر للرسوم الجمركية على الأسر الأمريكية الأقل ثراءً. فمع ارتفاع الأسعار نتيجة فرض الرسوم، تُعاني هذه الأسر بشكل أكبر، حيث أنها تنفق جزءًا أكبر من دخلها على السلع المستوردة مثل الملابس والمنتجات الإلكترونية. بينما كان ترامب قد وعد في حملته الانتخابية بخفض الأسعار، فإن الرسوم الجمركية تتسبب في عكس ذلك تمامًا، مما يؤدي إلى زيادة تكلفة المعيشة.
3 ـ التأثير على صناعة التصنيع الأمريكية:
فيما يتعلق بالصناعة الأمريكية، يرى غرينهاوس أن ترامب يروج لفرض الرسوم الجمركية باعتبارها طريقة لإعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة، لكنه يتجاهل حقيقة أن استقرار الاقتصاد والسياسة هو ما يشجع الشركات على الاستثمار في بناء مصانع جديدة. بدلاً من ذلك، فإن القرارات التجارية غير المتوقعة والمتقلبة تُثير خوف الشركات الأمريكية من ضخ استثمارات ضخمة في مشروعات طويلة الأمد. كما أن ترامب يُهدد بالتصعيد ضد الصناعات المستقبلية مثل صناعة السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة، الأمر الذي يعرقل انتقال الاقتصاد الأمريكي نحو المستقبل الصناعي.
4 ـ التأثير على النمو الاقتصادي:
يُؤكد غرينهاوس أن الرسوم الجمركية تُقوض النمو الاقتصادي الأمريكي بشكل كبير. يشير إلى أن الرسوم تعطل سلاسل التوريد، مما يؤدي إلى تعطيل الإنتاج في المصانع وتراجع الاستثمارات في المعدات الجديدة. هذه العوامل تضعف الاقتصاد بشكل عام. كما أن المخاوف من ارتفاع الأسعار بفعل الرسوم الجمركية أدت إلى تراجع ثقة المستهلكين، مما قد يُسهم في انخفاض الإنفاق الاستهلاكي، وهو المحرك الرئيسي للاقتصاد الأمريكي.
5 ـ الخسائر الناتجة عن الرسوم الجمركية:
غرينهاوس يعرض تفاصيل دقيقة حول خسائر الرسوم الجمركية. فقد أظهرت دراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والبنك الدولي وجامعة هارفارد أن الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب لم تؤدِّ إلى زيادة في معدلات التوظيف كما كان يُروج لها، بل تسببت في خلق عدد قليل من الوظائف في بعض القطاعات بينما تسببت في فقدان وظائف أخرى بسبب تعطل سلاسل التوريد. علاوة على ذلك، يرى غرينهاوس أن الأضرار التي سببتها هذه الرسوم تفوق المكاسب المحتملة، مشيرًا إلى أن الرسوم الجمركية قد تسببت في تراجع أسواق الأسهم الأمريكية بمقدار 4 تريليونات دولار.
6 ـ التأثير على العلاقات الدولية وحلفاء أمريكا:
كما يلفت غرينهاوس إلى التأثير السلبي للرسوم الجمركية على العلاقات التجارية الدولية، حيث أضرّت الرسوم بكندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي، مما زاد من توتر العلاقات مع أقرب حلفاء أمريكا. بالإضافة إلى ذلك، يرى غرينهاوس أن تصعيد ترامب في استخدام الرسوم الجمركية يُعزز من النفور الدولي تجاه الولايات المتحدة، ويُهدد بتدمير التحالفات التي كانت أساسية في الحفاظ على السلام والازدهار بعد الحرب العالمية الثانية.
7 ـ التهديدات المستقبلية للاقتصاد:
في ختام المقال، يستعرض غرينهاوس السيناريوهات المستقبلية المحتملة التي قد تنتج عن استمرار ترامب في فرض رسوم جمركية عشوائية. في حال استمرار هذه السياسات، قد يؤدي ذلك إلى تراجع النمو الاقتصادي الأمريكي بشكل أكبر، كما قد يرفع التضخم بنسب كبيرة، مما يؤثر على القدرة الشرائية للمواطنين الأمريكيين. ويقارن غرينهاوس ذلك بحالة "إلمر فاد"، الشخصية الكرتونية التي كانت تُطلق النار بشكل عشوائي لتصيب نفسها بدلًا من هدفها، مما يراه غرينهاوس تنبؤًا بما قد يحدث في حالة استمرار هذه السياسات الحمائية.
في النهاية، يخلص غرينهاوس إلى أن الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب لن تحقق الأهداف التي روج لها، بل ستسبب ضررًا أكبر للولايات المتحدة والعالم. فقد تسببت هذه السياسات في خسائر مالية هائلة وأضرّت بالعلاقات التجارية الدولية، بينما كان من الممكن اتخاذ إجراءات أكثر استدامة لدعم الاقتصاد الأمريكي دون دفعه إلى الركود.
المصدر: ستيفن غرينهاوس، "الغارديان"، 24 مارس 2025.
https://www.theguardian.com/commentisfree/2025/mar/24/trumps-tariff-obsession