البوابة نيوز:
2024-11-27@07:10:20 GMT

"كلب المعمل" ومحاولة تشريح الحزن

تاريخ النشر: 22nd, August 2023 GMT

في روايته "كلب المعمل" الصادرة حديثا يحاول إبراهيم البجلاتي تشريح أحزانه من خلال نص زاهد في الأحداث والتأويلات لكنه مشع بالرموز والدلالات والملامح الثقافية، مهووس بالتناص وتعدد الأصوات.

تدور أحداث الرواية حول جراح مسالك بولية من المنصورة يعمل في مركز خاص بجراحة المسالك هناك اسمه "ست الحسن"، هو بالضبط لا يعمل به، بل انتدب إليه للحصول على رسالة ماجستير في جراحة المسالك حيث أن هذا المركز تتوفر فيه الإمكانيات اللازمة لإعداد الأبحاث العلمية ومن أبرز هذه الإمكانيات الكلاب، التي يجلبها المركز لإعداد التجارب العلمية عليها.

تتلخص الأحداث في المعركة التي يخوضها الطبيب من أجل الحصول على درجة الماجستير وبعد أن أتم حصوله على الماجستير يخوض معركة مفتوحة النهايات من أجل الحصول على الدكتوراه، وهذا هو الخط السردي الأول العام للرواية، وأقصد بالعام أنه لا ينقطع، إذ يبدأ من أول فصل حتى آخر فصل، لكن يوجد خط سردي آخر يسير بالتوازي مع هذا الخط وهي معركة نفسية يخوضها الطبيب مع الكلاب التي تُشق بطونها في غرفة العمليات فيبدأ خوض تجربة معرفية حول طبيعة الكلاب.
الخطان يسيران بجوار بعضهما بالتوازي خالقين عددا لا بأس به من خطوط السرد الثانوية تتلخص في معارك الطبيب مع الزمان والمكان والشخوص: ممدوح المالكي وياسين المالكي وعدد آخر. ضفر هذه الخطوط مع بعضها البعض للتحكم في زمن السرد فلكي يوقف مؤقتا سرده عن المركز يشغِّل سردا آخر عن الكلاب ولكي يوقف سردية الكلاب يبدأ سردية أخرى عن المنصورة مثلا ثم يعود لسرديته عن الكلاب ومن ثم سرديته عن المركز ثم ينتقل لسردية أخرى مع أمه وهكذا ليخلق بنية زمنية خاصة بالرواية.
لم يكتف بجلاتي بتداخل الخطوط من أجل اللعب بالزمن بل أيضا كرر لعبة التكرار والاختلاف تلك باستخدام أشكال الخطاب، فلم يقتصر على خطوط السرد المختلفة فقط مثل الألف ليلة وليلة بل كان يفرد مساحات واسعة للأوصاف التي فجر فيها شاعرية بالغة إذ يقول مثلا في جزء من الرواية:

"بين مجندين وطالب جامعي حشرت كرابع على الكنبة الخلفية لميكروباص جاهز للانطلاق. بعد مناورات مدروسة في شوارع القاهرة، التي لا تعرف النوم ولا تخلو من الزحام حتى هذا الهزيع المتأخر من الليل، وضع الميكروباص عجلاته على الطريق السريع، ومع الانفلات المحسوب للسرعة ودفء الأنفاس البشرية المتعبة مالت رأس واحد من المجندين على كتفي، ومالت رأسي على كتف الطالب الجامعي وغرقنا جميعا في سبات عميق".

لم يكن الوصف لدى بجلاتي مجانيا أبدا بل أشبه بقصيدة رمزية تتعالى باللغة من درجة الصفر والمحايدة إلى درجة الشعر، فلو كان يريد أن يصف رحلة الميكروباص لكان عليه أن يوحد معجمه ويستخدم فقط المفردات الدالة على رحلة الميكروباص، لكنه أبرز "تايتل" الركاب (المجندين والطالب) وأبرز مكان إقلاع الميكروباص (القاهرة) التي استطرد في وصفها كبيئة حاضنة للزحام، وتتجانس لفظة الزحام مع لفظة الحشر، فتتوحد المدينة مع العمال الأربعة (الجنديين والطالب والطبيب) الذين يتحدون ضد وحشية المدينة بالنوم على أكتاف بعضهما البعض، وكأنه مشهد من مشاهد التحالف الشعبي التي كانت تضج بها كتابات الواقعية الاشتراكية.

يكرر اللعبة في أوصاف أخرى لكن بتكنيكات مختلفة في الكتابة، يقول مثلا في وصف شقة صديقه ممدوح المالكي:

"الفوضى التي في الخارج هي النظام بعينه إذا ما قورنت بما في المكتب: كتب فوق الكراسي، كتب على الحائط، عنكبوت، ثلاث شاشات كومبيوتر، بقايا خبز متعفن، فناجين جف البن في قعورها وتشقق، دب كبير بلا رأس، قرد معلق من ذيله في السقف، وعروسة صلعاء مفتوحة العينين على دهشة محبطة".

في هذا الوصف، يعود الشعر مجددا ويضاف له الموسيقى التي تتمثل في حالة التناسب بين الجمل ثم يقطع حالة التداعي الصوري وهو محافظا على ذلك التناسب، ثم يحدث مفارقتين إذ يصور الدب والقرد والعروس دون أن يشير إلى أنهم لعب فتبدو الصور فنتازية ثم يخرج من المركزية المعجمية لألفاظ وصف الغرفة إلى تصوير حالة إحباط عامة تسيطر على حياة ممدوح المالكي مع الحفاظ على حالة التناسب بين الجمل أيضا.

لم يكن الوصف فقط هو التكنيك الذي اتبعه البجلاتي للتعطيل المؤقت لزمن السرد، بل كان الحوار أيضا، فكانت "كلب المعمل" رواية غنية بعنصر الحوار، الذي كتبه في قالبه الطبيعي كحوار أي شخص يرد على شخص وليس حوارا مسرودا كما في حوارات الألف ليلة وليلة والكتب المقدسة، ولم تكن وظيفة الحوار هو تعطيل السرد فقط بل أيضا تسريع زمن القراءة نظرا لقصر الجمل وبساطة تراكيبها وأيضا الانتقال لصوت آخر على مستوى اللغة وهو صوت العامية المصرية، لكن مع ذلك لم يقتصر الحوار في "كلب المعمل" على هتيك الوظائف فقط بل دخل في دهاليز "الرمز"، فلنتأمل حوارا دار بين الراوي وصديقه الطبيب على طه؛ حيث كان يرد علي عليه بعدما شكا له حاله عندما رفض الباشا مدير مركز "ست الحسن" طلبه لتسجيل الدكتوراه:

"إسمع بقى ومن غير ما تزعل: إنت اللي غلطان... ما تبصليش كده... أيوه انت اللي غلطان وستين غلطان كمان. ما انت كنت في القاهرة، شغال كويس، وبتتعلم كويس، وبتكسب كويس كمان. وكان ممكن تسجل الماجستير بتاعك في القصر العيني، وتاخده وانت مرتاح: شغلك معاك وفلوس في جيبك. وبعدها كنت هتسجل دكتوراه وتاخدها وانت مرتاح برضه. إنت اللي سبت كل ده وجيت تشم في ست الحسن بتاعتك. اللي انت عارف إنها أصلا مش بتاعتك."

لعب في هذا الحوار على مزاوجة بين الدلالة والرمز، فالدال "ست الحسن" يدل على مركز ست الحسن للمسالك البولية في المنصورة، لكن استخدامه في هذا السياق العامي يخلق سردية أخرى وكأن الراوي لديه هوس بامرأة ترك النعيم وذهب إلى الجحيم لأجلها عقدة قد تلتصق بشكل مباشر أو غير مباشر بعقدة أوديب ستتبلور بشكل أوضح في مشاهد متفرقة من الرواية.

لعب البجلاتي إذن بكافة عناصر الخطاب: السرد والحوار والوصف إلا عنصرا واحدا هو عنصر استعراض المعلومات التي يجهلها المخاطب، وهو لم يلعب بها بل أوردها تضمينية في سياق السرد والحوار كأن يعرف القارئ بتفاصيل طبية دقيقة في عمليات الكلى، إذ لم يرسم هامشا منفصلا عن الرواية مثلا ليشرح فيه تلك التفاصيل، بل أوردها مسرودة ليصبح الخطاب الروائي خاليا من هذا العنصر وهذا له دلالته أيضا.
وما يهم لفت النظر إليه في أسلوب البجلاتي أنه يستعير تقنية المونتاج السينمائي في توليف كافة خطوط السرد وعناصر الحوار وتفكيكها وإعادة تركيبها وإبراز تكرارتها واختلافاتها، وأحيانا يذيب المَشاهد في بعضها البعض دونما تمهيدات أو مقدمات، إذ لا يمهد للحوار ولا يحدد أسماء المتحاورين أو حالاتهم قبل كل رد أو سؤال. ففي سرده مثلا للأحداث الواقعة داخل شقة ممدوح المالكي سرد أحداثا فنتازية تتعلق بوالده الراحل إذ فجأة واحدة تراكمت الكتب في بيت المالكي واشتعلت وظهر والده وسط النيران وحدثه، جاء هذا التصوير اللغوي غير المنطقي (منطق السرد العام الواقعي طبعا) داخل تصوير آخر منطقي دون أي إشارة أو تمهيدات، وهذا "شغل سيما".
ذكرتُ في مقدمة المقال أن البجلاتي قد حاول في روايته "كلب المعمل" تشريح الحزن من خلال نص زاهد في الأحداث والتأويلات لكنه مشع بالرموز والدلالات والملامح الثقافية، مهووس بالتناص وتعدد الأصوات؛ فما معنى ذلك؟
فلندع تشريح الحزن جانبا الآن، لأن هذا المعنى هو ما يتفجر خلال تلاقي كافة خطوط السرد في نهاية العمل، ولنتحدث إذن عن شفرة الأحداث والتأويلات في الرواية، كيف زهد فيها؟، ليس معي مقياسا لقياس نسبة الزهد، بل قارنتها بشفرة الرموز والدلالات التي جاءت في الرواية أشبه ببركان عظيم أو بحر هائج.
الأحداث والتأويلات تفجرت في الـ 3 فصول الأولى في الرواية ثم انخفضت وبعد ذلك نشطت قليلا في الفصول التي تسرد معركته من أجل الحصول على درجة الدكتوراه أو من أجل الحصول على فرصة عمل في فرنسا.
كان المشهد الأول في الرواية أشبه بافتتاحيات الروايات البوليسية فكل فعل كان يكتبه كان لها نتيجة فعلية في الجملة التالية ثم تتابع الأفعال وتتضفر حتى يأتي الفعل الأخير الذي يتمها، ففي أول فقرة في الراية يقول: 
"دفع اليمني الباب الأخضر الثقيل لغرفة العمليات بثقة، دخل، ودخلت وراءه. وضعت قدما أولى مترددة، وفي الخطوة الثانية تجمدتُ. ظلت قدمي معلقة في الهواء، وعيني مفتوحة باتساع على التجسيد المثالي للرعب، رأس كلب. لا تعبر كلمة تجمدت بدقة عن حالي؛ لأن جسدي كله كان يرتج برعشة هائلة، من المؤكد أن كل من كان بالغرفة قد انتبه لها. الحقيقة أنني لم أر أحدا من الموجودين بالغرفة؛ لأن حواسي كلها تركزت على الكلب النائم على طاولة العمليات. لم أر الكلب كله، فقط رأيت رأسه الأسود مقلوبا، وفكيه مفتوحين نصف فتحة. أنيابه الطويلة الحادة بارزة وجاهزة لعضة قوية، في تناقض تشريحيظاهر مع أسنانه الخلفية التي تعض بالفعل على أنبوب شفاف محشور في زوره العميق."
فلنتأمل تتابع الأفعال هنا: فعل الدفع الذي أدى إلى فعل الدخول، فعل التجمد، فعل الاستمرار في التجمد، فعل الارتجاج، وتتتابع حتى تصل إلى فعل الرؤية (رؤية رأس الكلب)، وكل فعل محاط بجملة أو عدة جمل تتفجر بالتأويلات فمن يقرأ سيقول لماذا تجمد؟ وما هذا المكان المرعب الذي دخله؟، هل هو بيت أشباح أم قصر الكونت دراكولا في رومانيا، أم معبد ماسوني.. أم وأم أم إلى آخره.. حتى تحدث إجابة كاملة تميت كل هذه التساؤلات في الفصول الأولى لنبدأ بعدها سردا يعتمد على شفرات أخرى وهذا لا يعني أن ذلك السرد الجديد لا يخلو من الشفرات سالفة الذكر.
أما على مستوى الرموز التي تضمنتها الرواية فعلينا أن نتحدث ولا حرج فمن خلال تلك الوفرة الرمزية التي تضمنتها الرواية نستطيع أن ننسج منها قصصا نبني عليها روايات أخرى، على سبيل المثال لا الحصر؛ هنالك رمز جلي في العمل وهو رمزية غياب المرأة، ورمزية الغياب هنا متجلية إذ لا يوجد بيئة واقعية بلا نساء، لكن بيئة هذا العمل الواقعي كانت خالية تماما من النساء كأفلام فرانسيس فورد كوبولا؛ فجميع الأبطال ذكور بدء من الباشا مدير ست الحسن مروروا بممدوح المالكي وشقيقه ياسين المالكي والدكتور رفيق والدكتور مايكل وعلي طه والدكتور اليمني ومدير معهد تيودر بلهارس ومدير مستشفى بورسعيد العام وزوج عمة الراوي ورضا أبو شنب مسئول توريد ورعاية الكلاب بالمركز وبائع الكتب القديمة وإلى آخره في كل أماكن العمل التي انتدب الطبيب الراوي إليها حيث لا يوجد نساء إلا ثلاثة ظهرن بشكل هامشي، ولم يكن هذا شيئا مجانيا فماذا يعني ذلك؟.
هناك شخصيتان أنثويتان من الثلاثة دفعتا طبيب "ست الحسن" لاستكمال أبحاثه. أولهما شخصية الأم التي كانت تحثه على الزواج وتستتفه ما هو ماض فيه، فخلقت بداخله عندا لاستكمال مسيرته، والشخصية الأخرى شخصية زميلته في المعمل التي لولا ظروفها الأمومية ما كان الطريق قد تمهد أمامه لإتمام أبحاثه المصيرية الأخيرة، غياب الأنوثة كان يعني –وفقا لأساطير تعدد الآلهة- أن إله الأنوثة كان يحيط ببيئة العمل من كل حدب وصوب والدليل على ذلك أن بيئة الأحداث تدار بواسطة جمع من الذكور خالية تماما من النساء، وهو ما يؤكد ألوهية الأنوثة التي تتنزه عن الاشتراك في تلك الأحداث رغم أنها تخلقها من أعلى من الهوامش إذا جاز التعبير ثم أن الشفرات الدلالية الخاصة باللغة تأتي لتدعم الشفرات الرمزية فها هو اختار مركز الكلى المسرح الرئيسي للأحداث باسم "ست الحسن" الذي يلهث بطل الرواية وراءه لهثا كما يلهث عاشق ولهان وراء امرأته. 

ولشفرة الأسماء الدلالية امتداد أيضا في شوارع المنصورة فهنالك شارع دائم سير الطبيب فيه اسمه "جيهان السادات" بجواره شارع اسمه "الجمهورية" فما علاقة جيهان السادات بالجمهورية؟!.

رمز آخر مهم هو وصفه لمركز الكلى، حيث فرد صفحات كاملة لحكي ما يدور داخل طبقاته حيث وصف الراوي بدقة المفاجآت التي رأها في كل طابق فكلما يصعد كلما يجد أمورا عجائبية، ففي الدور الأول كان معمل الكلاب وفي الدور الرابع كان عنبر المرضى المحالين للعمليات وفي الثالث كانت غرف العمليات وفي الثاني معمل الخلايا وفي الأول أيضا مشرحة وفي الأعالي أيضا مكتب الباشا المهيب، وهكذا، وفي كل دور يرى الطبيب العجب، وهذا قد يكون رمزا لطبقات الجحيم التي وصفها دانتي أليجري في كوميدياه.


هنالك رمز آخر أساسي وخطير وهو رمز الكلب، كان الإسباني جويا أشهر من صور رأس الكلب ورأس الكلب كان المشهد الذي افتتح فيه بجلاتي روايته، وفي مصر فرد الفنان التشكيلي الراحل سمير رافع دورا للكلب كـ"فيجر" رئيسي في عدد من أعماله هذ الفيجر فجر دلالات لا حصر لها في أعمال رافع، فعندما تجد صورة لكلب فرنسي تسحبه فلاحة مصرية وزوجها الفلاح إلى الوحدة الصحية في الريف فماذا يعني ذلك؟! بالتأكيد رموز لا حصر لها، أيضا لم تكن الكلاب في رواية بجلاتي مجرد كلاب بل رموز لبشر معذبين في الأرض بنى لهم أسطورة داخل الرواية مفادها أن الكلب حيوان رفض الانتماء لفصيلة الذئاب فسعى وراء البشر سعيا ليعيش معهم ويعاشرهم، رغبة منه في الاكتشاف وانتظار الجديد الذي لم يلقي منه شيئا سوا شق بطنه بلا رحمة لإجراء التجارب العلمية، وفي نهاية الرواية يتوحد خط الطبيب المعذب الذي ترك حياته الرغدة في القاهرة ليسعى وراء الباشا سعيا في المنصورة مع خط الكلب المعذب أيضا ليعيشان الاثنان نفس الأزمة الوجودية، ومن هنا يتبلور مفهوم تشريح الحزن الذي أشرنا إليه في أول المقال والذي أشارت الرواية إليه أيضا إذ تقول:
"حتى الكلب الوردي كشف المعمل حقيقته: كائن محبط يمكنه التعلم. فما الذي اكتشفته أنا؟ اكتشفت أن الكلاب الطيبة لا ترفع عيونها في عين أصحابها، ولا تحدق. واكتشفت الحزن التشريحي لعيون الكلاب. يوما ما سأكتب شيئا عن هذا. واكتشفت أن هيئته الوحشية تخفي تركيبا هشا وكائنا تابعا لا يعاني من عقدة أوديب. واكتشفت أن بإمكاني أن أحلم لكنني لست مسئولا عن هذه الأحلام"

قبل أن ننتقل إلى وضع التناص في عمل بجلاتي علينا أن نقف قليلا لنستبصر كيفية عمل الشفرات الثقافية داخل النص، سنجد أن بيئة العمل رغم أنها تدور في المنصورة وهي مدينة شرقية إلا أن الثقافة الغربية وبالتحديد الغرب الأمريكي تتمدد وتنتشر، ففردت مساحات كبيرة لأغنية هوتيل كاليفورنيا لفريق الإيجلز أيقونة روك السبعينات في أمريكا، ما يشير إلى انفتاح في هذه البيئة ( زمن الرواية في فترة أواخر التمانينات وبداية التسعينات)، إلى أن هذه البيئة لمستها يد العولمة. أيضا انتشار المراكز الثقافية الدولية حيث مشاهدة الأفلام الأوروبية وتعلم اللغات. والطبيب وأصدقاؤه يميلون إلى هذه الحياة حتى في نوعية المواضيع التي يناقشونها فيتحدثون عن جربتشوف وانهيار الاتحاد السوفيتي وقوى اليسار السياسية العالمية بالإضافة إلى شكل طقوس جلستهم، كل هذه المشاهد تشير إلى أنهم مجموعة من الأطباء المثقفين، لأن مجتمع المثقفين في مصر لهم طقوس تختلف عن طقوس كافة فئات الشعب. أيضا هناك إشارات لابتعاد البيئة عن ثقافة الريف فالراوي يتحدث عن مجموعة من "الأفنديات" لا الفلاحين، ويتضح هذا في الطريقة التي كان ينادي بها ممدوح المالكي على أخيه الأكبر ياسين المالكي، إذ يقول له "يا أبيه". أيضا هنالك إشارات تدل على ثقافة الراوي في فن التصميم والآلات الموسيقية، إذ كرر بشكل كثيف أنواع الكراسي المحددة، فيقول الكرسي البامبو أو الكرسي الفوتيه أو الكرسي الأسيوطي ثم يستخدم أوصاف الباب الأكورديون أي الذي تتباعد أجزاءه وتتقرب بيدين إثنين كما الأكورديون ثم يعقد مقارنات بين آلات موسيقية وآلات أخرى، وهناك إشارات ثقافية أخرى تدل على الاتصال الشعبي لتلك الطائفة فهم دائما ما يستخدمون ألفاظ مثل السجق والممبار لوصف شكل أعضاء وأنسجة معينة داخل أجسام الإنسان والحيوان وهذا لأن بيئتهم تضج بعربات الكبدة والسجق والكفتة والممبار وقد يكون في هذا إشارة لأسلوب ساركيزم، أيضا حرص الراوي على وصف سجائره بالرديئة ما يشير إلى ثقافة تصنف طبقات الناس الاقتصادية وفقا لنوع سجائرهم.
البجلاتي بدا وكأنه مهوسا بالتناص في روايته. وهوسته هذه جعلت أسلوبه الروائي فريدا، فهو رغم حفاظه على أنماط شائعة بعض الشئ في السرد العربي، فإن التناص جعله يدخل عالم ما بعد الحداثة بقوة، فقد أورد نصوصا جاهزة وطبعها في روايته دون أدنى تدخل، نصوصا من كتاب للديميري عن الحيوان ونصوصا من كتاب الجاحظ عن الحيوان أيضا ونصوصا مترجمة من كتاب أحد الأطباء الأوربيين، كما أنه لعب كثيرا على فكرة النص الموازي بشقيه الداخلي والخارجي وأقصد بالداخلي عتبات النص فجاء عنوان الرواية "كلب المعمل" ليشير إلى أن السردية الأساسية في الرواية عن الكلاب والسردية الثانية عن المعمل وهذه الأهمية في الترتيب في النص الداخلي ستظهر معكوسة في النص الخارجي إذ أن السردية الأولى ستكون عن المعمل والنص الخارجي هو النص خارج الرواية، وسبب رؤيتي هذه تكمن في أن بجلاتي تعمد كتابة "سي في" مختصر عن حياته الشخصية في آخر صفحة في الرواية والتي قال فيها: "نبذة عن المؤلف: إبراهيم البجلاتي (المنصورة/مصر مواليد 1961 – طبيب وشاعر مصري بكالوريوس الطب والجراحة وماجستير في المسالك البولية صدر له: تاريخ الطب ترجمة عن الفرنسية 2002 وسيندروم رواية 2009 و3 مجموعات شعرية هم أنا في عزلته 2014 وحكاية مطولة عن تمساح نائم 2016 وماذا يفعل الرومانسيون غير ذلك 2017"
ومن هذه السيرة وحرصه على ذكرها في الكتاب نستشف علاقة ما بين السيرة الحقيقية لبجلاتي والسيرة المتخيلة لبطل الرواية، هذا طبيب مسالك وذاك طبيب مسالك أيضا، ومن واقع الصحافة في مصر سنجد أن الملف الأكثر تداولا وسخونة هو ملف الطب والأطباء، مئات من الأخبار عن مرضى ماتوا بخطأ طبي ومن بين هؤلاء المرضى نجوم، وأخبار عن أطباء ماتوا داخل نزلهم إما بسبب إهمال في صيانة النزل أو نتيجة اكتئاب أو نتيجة اعتداء إثر اقتحام أهل مريض للمستشفى وأورد بجلاتي مشاهد كهذه في الرواية، ثم أن على المستوى الإداري الحكومي يُستخدم الطب لتبرير إصدار قرارات عامة كفرض حظر تجوال في البلاد بسبب تفشي جائحة معينة ككورونا مثلا ثم يستخدم الطب الغربي لمطاردة أي شخص يمارس أي نوع طب خارج عن هذا النوع بتهمة الدجل والشعوذة. إذن هذا الملف هو عمود فقري للحياة في مصر لو كانت أحداث الرواية في كمبوديا مثلا كان الكلام سيختلف كثيرا ففي كمبوديا مازال يوجد إجلال واحترام للطب الشعبي فلم يعتبر دجلا أو شعوذة، كل هذا يخلق نصا موازيا خطيرا يكاد يفترس الرواية بأكملها، فكل الصحفيين سيتحدثون عن الخط الطبي في الرواية لأن هذا هو الموضوع "التريند" ومن الممكن أن تحقق الرواية مبيعات ضخمة بسبب هذا الموضوع لا بسبب فنياتها ومن الممكن أن تفوز بجوائز دولية بسبب هذا الموضوع أيضا وبجلاتي سيصبح فريسة لأسئلة الصحفيين له، لا عن الأدب، بل عن الطب وسيزدهر النص الموازي على حساب متن الرواية الذي كان فيه خطوط سردية أخرى ورمزيات وجدليات أكثر بكثير من الطب وهذا ما جعلني أشير في بداية المقال إلى أن الخط الأول هو خط الطب رغم أن عنوان الرواية -التي خرجت إلى النور في 430 صفحة من القطع المتوسط وبطبعه عالية الجودة تجذب رواد المولات والأماكن "الريتشي"- لا يشير إلى ذلك بل يشير إلى أن الخط السردي الخاص بالكلاب هو الخط الأول بينما لفظة "المعمل" جاءت مجرورة على لفظة "الكلب".
وسيتمدد النص الموازي ليضع البجلاتي ضمن قائمة الكتاب الأطباء الذين استخدموا الكتابة للحديث عن حياتهم كأطباء أمثال المنسي قنديل وأحمد خالد توفيق والمخزنجي وربما هذا يظلم البجلاتي الذي أنفق جل همه على الشعر.
والإشكالية تكمن في أن البجلاتي نجح في إخراج نص أساسي مستقل بذاته بسبب مهاراته وفنه الجيد فلم يفعل مثل الكاتبة الأمريكية كريس كراوس في روايتها الأيقونة "أحبك ديك" التي لعبت فيها فقط على النص الموازي فخرجت من تلك الإشكالية من سيفترس من؟ الموازي أم الأساسي، فعند كراوس أصبح الأساسي مواز والموازي أساسي.
وهناك في "كلب المعمل" تناص آخر مع ألبير كامو في روايته "الطاعون" حيث معركة الطبيب البطل مع أزمة الوجود.
"كلب المعمل" رواية سيرة ذاتية تعتبر الجزء الثاني لرواية "سيندروم" وتشير نهايتها إلى أنه ربما يكون هناك جزء ثالث وبالتالي يكون لدى البجلاتي ثلاثية عن سيرة ذاتية واحدة ربما تظهر قريبا إلى النور، والبجلاتي بدا في روايته بالمعماري الجيد والموسيقي والمخرج السينمائي، والمحقق الصحفي الذي لم يتخل أبدا عن الشعر والكتابة الإبداعية.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: رواية المنصورة المنظومة الطبية حقوق الحيوان ثقافة إبداع البوابة نيوز فی الروایة یشیر إلى إلى أن فی هذا فی مصر

إقرأ أيضاً:

"المعمل المركزي للمبيدات بين الحاضر والمستقبل" ورشة عمل بـ"المركزي للمبيدات"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

افتتحت الدكتورة شيرين عاصم نائب رئيس مركز البحوث الزراعية فعاليات ورشة عمل المركزي للمبيدات بين الحاضر والمستقبل والتي اقيمت تحت رعاية وزير الزراعة واستصلاح الأراضي علاء فاروق وتحت اشراف الدكتور عادل عبد العظيم رئيس مركز البحوث الزراعية بحضور عددمن مديري المعاهد والمعامل البحثية ذات الصلة.

وفي بداية كلمتها الافتتاحية، قالت الدكتورة شيرين عاصم نائب رئيس المركز ان قطاع الزراعة يمر بتحديات عديدة وعلي راس هذة التحديات محدودية الأرض والمياه  والزيادة السكانية وان قضية التغيرات المناخية من أهم الموضوعات التي يهتم بها مركزالبحوث الزراعية والتي قد تؤدي الي ظهور امراض واصابات في المحاصيل بافات غير متوقعة والتي لا تؤثر فقط علي المحاصيل الزراعية بل تؤثر أيضا علي الأمن الغذائي المصري وتؤثر علي الصادرات المصرية للدول المختلفة.

وأضافت أن الدولة المصرية تهتم بالقطاع الزراعي علي المستوي النباتي والحيواني والداجني والسمكي ويسعي باحثو مركز البحوث الزراعية إلي حل هذة المشاكل وإيجاد حلول مبتكرة وغير تقليدية لمعالجة هذة المشاكل في الفترة الحالية واستخدام ونقل التكنولوجيا الحديثة في مجال البحث العلمي الزراعي المصري لدي المزارع الصغير.

 وفي ختام كلمتها، توجهت نائب رئيس المركز بالشكر والتقدير الي وزير الزراعة واستصلاح الأراضي علاء فاروق والي باحثي مركز البحوث الزراعية وحثهم الي المضي قدما في مواجهة التحديات التي  تواجه القطاع الزراعي في مصر ومواكبه التطور في هذا المجال.

وقالت الدكتورة هالة أبو يوسف  مدير المعمل المركزي للمبيدات انه سيتم تكريم مديري المعمل السابقين منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى الآن، خلال فعاليات ورشة العمل وذلك عرفاناً وتقديراً لما بذلوه من جهد واضح في بناء هذا الصرح العلمي الكبير.

وأن ورشة العمل سوف تتضمن اربع محاضرات، المحاضرة الأولى سوف تلقيها الدكتورة هالة أبو يوسف مديرالمعمل المركزي للمبيدات بعنوان "المعمل المركزي للمبيدات بين الحاضر والمستقبل" حيث قامت بعرض نبذة عن تاريخ إنشاء المعمل ودوره في تقديم خدمات تشمل اختبارات المواصفات الطبيعية والكيميائية وجودة العبوات للمبيد خلال مراحل التسجيل والاستيراد.

1000116072 1000116078 1000116075 1000116084 1000116081

مقالات مشابهة

  • كاتس أيضاً إلى المحكمة الجنائية الدولية
  • "المعمل المركزي للمبيدات بين الحاضر والمستقبل" ورشة عمل بـ"المركزي للمبيدات"
  • الرواية.. بين الانتصار للحقوق وإملاءات الجوائز
  • السفير البغاري في اليمن يحكي عن تعرضه للهجوم في صنعاء ومحاولة اختطافه؟ (ترجمة خاصة)
  • الشتاء قادم في أوروبا.. وتقلب أسعار الطاقة آت أيضا
  • ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
  • كيف رسخت العائلة الملكية البريطانية استخدام اللون الأسود للحداد؟
  • كمين عيترون: الرواية الكاملة للكمين القاتل على لسان جندي صهيوني مشارك
  • الحزن على وجهه.. محمد منير يصل مسجد الشرطة لأداء صلاة الجنازة على محمد رحيم
  • الفيتو الروسي ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ