سوريا.. رحلة البحث عن كنوز أثرية في باطن الأرض وبين جدران البيوت
تاريخ النشر: 20th, February 2025 GMT
لم تكن فكرة الثراء السريع وتأمين مستقبل الأولاد والعائلة بفكرة مستحيلة ولا بعيدة المنال في حديث الشاب السوري ماهر المسالمة، فالأرض في مدينته درعا جنوب العاصمة السورية دمشق واسعة، وتحمل في بطنها ذهبا وآثارا وكنوزا تركها الأجداد لترثها الأجيال القادمة على حد قوله.
لم يعر ماهر في حديثه للجزيرة نت أي اهتمام لقانون أو تشريع يمنع العبث بالمعالم الأثرية والتنقيب عن الكنوز في سوريا، فهو يراها قوانين وضعها النظام السابق، منذ زمن حافظ الأسد وابنه بشار، كستار لنهب ثروات الوطن من جهة، وأداة حديدية لضرب كل من ينافسهم على الحفر والتنقيب عن الكنوز من جهة أخرى.
وسردية ماهر هذه لا تخصه وحده، فهي بمعنى من المعاني توجه يسير فيه عدد لا بأس به من السوريين، الذين يرون أن النظام السابق سرق ثرواتهم، ونهب الآثار المدفونة في بطن الأراضي التي يملكونها، ودفعهم بعد سقوطه إلى الحفر بسواعدهم لأخذ ما يقولون إنها حقوقهم المشروعة، في رؤية اعتبرها مسؤولون سوريون في الحكومة الجديدة أنها كارثة حقيقة على تراث سوريا وحضارتها وتاريخها العريق.
ويقول المرصد السوري لحقوق الإنسان إن عمليات التنقيب عن الآثار والكنوز انتشرت بشكل كبير في مدن مختلفة من سوريا بالتوازي مع سقوط النظام، وما لحقه هذا السقوط من فراغ أمني نتيجة انشغال الدولة السورية الجديدة ببسط سيطرتها على مجمل سوريا وملاحقة القتلة، ومرتكبي الجرائم بحق الشعب السوري من قادة الجيش والأجهزة الأمنية.
وفي هذا السياق، أكد المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا، الدكتور أنس أحمد حاج زيدان، أن الفراغ الأمني بعد سقوط النظام لم يدم طويلا، مشيرا إلى أن كثيرا من الدول التي تشهد ثورات أو تغييرات جذرية في أنظمة الحكم الفاسدة، تمر بحالات فوضى تشمل سرقة ونهب الآثار والتنقيب عن الكنوز.
إعلانوأوضح حاج زيدان في حديثه للجزيرة نت أن المناطق الأثرية التي تعرضت للسرقة بعد سقوط الأسد انحصرت في منطقة أفاميا الأثرية وتدمر وطرطوس، إلا أن الدولة أعادت سيطرتها على هذه المناطق وقامت بحماية الآثار والمتاحف فيها، وجار الآن حصر كل ما تم سرقته واستعادة ما يمكن استعادته مع معاقبة الفاعلين وإحالتهم إلى المحاكم.
يؤكد الدكتور أنس أن عمليات التنقيب لم تتوقف إلا الآن، وما زالت مستمرة، مع محدوديتها في بعض القرى النائية والبعيدة عن مراكز المدن، خاصة في تدمر، وبصرة، وهما مدينان أثريتان يعود تاريخهما لآلاف السنين، إضافة لبعض المدن الأخرى كدرعا وريف حماة.
وبشأن آلية التنقيب عن الآثار وبيعها بشكل غير قانوني في سوريا الآن، أوضح حاج زيدان أن عملية التنقيب عن الكنوز بكل أنواعها وأشكالها تتم بسرية تامة، وهي غير منهجية، ولا منتظمة، مرجعا سرقة الآثار واندفاع البعض على التنقيب بعد سقوط النظام، إلى ما أحدثه نظام الأسد نفسه، من فقر وجوع وعوز الناس إلى إيجاد مصادر للأموال، خاصة في مناطق سيطرته، ومدينة درعا تحديدا لوجود الآثار والذهب بشكل قريب من سطح الأرض، بعكس المناطق التي كانت تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، والتي انعدمت فيها عمليات التنقيب إلى حد كبير.
لم يخف الدكتور أنس مدى شعوره بالأسف نتيجة التأثيرات الكبيرة الناجمة عن عمليات التنقيب المخالفة التي تحدث الآن في بعض المناطق السورية، مشيرا إلى أن التنقيب غير المهني وغير العلمي يتسبب بتخريب الآثار وتدميرها وإضاعة هويتها وتهديد الإرث الحضاري العريق الذي تتميز به سوريا، إضافة إلى تخريب الأراضي وإحداث أضرار بالغة فيها، مما تسبب في زيادة عدد الشكاوى الصادرة عن كثير من المواطنين.
إعلانوأكد المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا أن العمل الآن جار لحصر وتوثيق الأضرار الناجمة عن سرقة الآثار وعمليات التنقيب عنها وعن الذهب، وإحالة من يرتكب هذه الجرائم إلى السلطات المختصة لمحاسبته ومحاكمته، ومصادرة الأجهزة والمعدات التي يستخدمها المنقبون في البحث والتنقيب خاصة تلك التي يتم بيعها عبر منصات التواصل الاجتماعي، مستبعدا إمكانية حصر كل الذين شاركوا في هذه العمليات غير القانونية، فالمهم الآن على حد قوله استعادة كل ما تم سرقته من المتاحف والمعاهد التراثية والأثرية بحسب ما ورد من سجلات قبل سقوط النظام وبعده.
سامر، الشاب الدمشقي القاطن في حي "القيمرية" الأثري في قلب دمشق القديمة، روى للجزيرة نت تفاصيل مثيرة، عن عمليات التخريب التي طالت بيوتا دمشقة عريقة، يعود تاريخها لمئات السنين، فهي أيضا لم تسلم من الساعين للثروة والحالمين باكتشاف الكنز المدفون المخبئ بين جدران هذه المنازل.
ويؤكد سامر أن الساعات والأيام التي تلت سقوط الأسد، كانت فرصة ذهبية للمنفلتين الذين حفروا البيوت القديمة والتراثية، بحثا عن جرة الذهب الفخارية التي تركها أجدادهم، حتى وصل الأمر للحفر داخل الجدران التي كانت تشكل لوحات فسيفسائية، وتعتبر من تراث المدينة القديمة، وشواهد على عراقة العمران الدمشقي العتيق.
ويروي الشاب الدمشقي أساطير محفورة في أذهان الدمشقيين، بأن أجدادهم كانوا يخبئون التحف الأثرية وجرات الذهب في حفر ليست بعميقة داخل بيوتهم، أو في الأسقف والجدران السميكة، خاصة في وقت الحروب والأزمات التي عصفت بدمشق عبر تاريخها، مشيرا إلى أن هذه الأساطير تبدو حقيقية في بعض تفاصيلها، خاصة أن البعض فعليا وجد ذهبا وأثارا في هذه الأماكن.
ضبط المجرمين ومحاسبتهمتوجهنا للحديث مع رئيسة دائرة آثار دمشق القديمة، المهندسة نور مراد كدالم، التي لم تنف وقوع التجاوزات التي تحدث عنها سامر، ولكنها أكدت في الوقت ذاته أن الحكومة السورية الجديدة وضعت حدا لعمليات الحفر والتخريب التي طالت بعض البيوت الدمشقية القديمة، ويجري حاليا معالجة وحصر كل التلف الذي حدث بعد سقوط نظام الأسد.
وأكدت المهندسة نور في حديثها للجزيرة نت أن سرقة الآثار في دمشق كانت منهجية في عهد الأسد، أما الآن فهي عمليات فردية غير مدروسة، يقوم بها بعض الأشخاص في بيوتهم القديمة بشكل سري لمعالجة ظروفهم الاقتصادية الصعبة التي يعانون منها، محملة الأسد وأعوانه مسؤولية التخريب التراثي والأثري الذي طال دمشق والمدن السورية الأخرى، مشيرة إلى أن أكبر التحديات التي تواجهها دائرة آثار دمشق القديمة الآن هي مخالفات البناء التي يقوم بها بعض الأشخاص أثناء عمليات الترميم العشوائية ومخالفات البناء غير المدروسة التي تهدد البيوت الدمشقية التراثية القديمة.
إعلانكما كشفت كدالم أن معهد الآثار والعلوم التقليدية الموجود في قلعة دمشق تعرض لسرقة كامل التجهيزات والمعدات من قبل أصحاب النفوس الضعيفة بعد سقوط الأسد، منوهة بأن الحكومة الجديدة تقوم حاليا بعمليات حازمة لضبط المجرمين وتقييم الأضرار وإحصائها وإعادة كل ما تم سرقته.
وأكدت كدالم أن التعاون والتشاور جار الآن مع الجهات الدولية والمنظمات العالمية المهتمة بالتراث العالمي الراغبة في تقديم كل ما يسهم في الحفاظ وصون المدن التاريخية في سوريا، ولا سيما مدينة دمشق القديمة لمواجهة تحديات المرحلة الحالية، لحين الوصول إلى بنود عمل أساسي يتم من خلالها تطبيق القواعد المنهجية لحماية التراث الدمشقي العريق على أرض الواقع والحصول على نتائج ملموسة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات أمكنة عملیات التنقیب دمشق القدیمة سقوط النظام والمتاحف فی للجزیرة نت بعد سقوط فی سوریا إلى أن
إقرأ أيضاً:
هل تستعيد إيران نفوذها في سوريا؟
في المرحلة الأولى من الحرب الأهلية السورية، نفت إيران وجود قواتها على الأراضي السورية رغم الأدلة التي أثبتت عكس ذلك، قبل أن تضطر إلى الإقرار بتدخلها، مبررةً ذلك بحماية مرقد السيدة زينب في دمشق.
طهران استثمرت كثيراً من الدماء والموارد في سوريا
غير أن التغلغل الإيراني العميق في سوريا تجاوز الرمزية الدينية بمراحل؛ إذ كان بمنزلة موطئ قدم استراتيجي دافعت عنه طهران بثمن باهظ، مضحيةً بآلاف من قواتها، حسب ما أفاد د. لقمان رادبي، خبير في الشؤون الكردية والشرق الأوسط.
كان سقوط بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024 حدثاً مزلزلاً، وجّه ضربة قاسية لنفوذ إيران وروسيا في سوريا. وبينما تتمسك موسكو بقواعدها العسكرية في سوريا رغم حربها في أوكرانيا وتزايد العقوبات الغربية ضدها، فإن موقف إيران أكثر تعقيداً، فخلافاً لروسيا، التي تنظر إلى سوريا من زاوية المصالح الجيوسياسية والعسكرية، ترى إيران سوريا كساحة أيديولوجية واستراتيجية مركزية لطموحاتها الإقليمية.
ضعف السلطة في دمشق
وقال الكاتب في تحليله بموقع "جيوبوليتيكال مونيتور" الكندي إن النظام الفعلي في دمشق يواجه صراعاً شاقاً لبسط سيطرته على دولة ممزقة آخذة في الانهيار؛ فالأحداث الأخيرة، التي أسفرت عن مقتل أكثر من ألف شخص، بينهم مدنيون، في اللاذقية والمدن الساحلية الأخرى التي تعد معاقل تاريخية للطائفة العلوية، تعكس ضعف قبضة الحكومة على السلطة.
وأضاف أن هذه الاضطرابات، التي يؤججها فلول نظام الأسد، لا يمكن احتواؤها عبر عمليات أمنية منفصلة أو فرض حظر تجول فقط، بل تكشف عن حالة استياء أعمق لا تستطيع دمشق ولا داعمتها الخارجية، تركيا، القضاء عليها بسهولة.
Syria’s Next Chapter: Iran Reshapes its Influence https://t.co/yV7hXKwIqC
— Charbel Antoun (@Charbelantoun) March 19, 2025ورغم معارضة إيران لنظام إسلامي سُنّي في دمشق، فلا تزال تحتفظ بنفوذها داخل المجتمع العلوي، الذي كان العمود الفقري لنظام الأسد. فقد حرصت طهران على بناء تحالفات دينية وسياسية مع العلويين، بما يضمن استمرار بصمتها الأيديولوجية في سوريا، حتى في ظل التحولات السياسية.
وتابع الكاتب "يزيد الوضع تعقيداً الدستور الانتقالي الجديد، الذي يرسّخ هوية سوريا "العربية"، رافضاً الاعتراف بالهويات غير العربية، مع اعتبار الشريعة الإسلامية "مصدراً رئيساً" للتشريع. هذا الإطار الإقصائي قوبل برفض قاطع من الأكراد والدروز، الذين يرونه استمراراً لنهج الأسد بواجهة إسلامية سنية جديدة".
جنوب وغرب سوريا
في جنوب سوريا، يسعى الدروز، الذين طالما تحفّظوا على الفصائل السنية المتطرفة والهيمنة الإيرانية، إلى تعزيز حكمهم الذاتي. وتحت المظلة الإسرائيلية، من غير المرجح أن ينحاز الدروز إلى أي طرف بعينه، بل سيحاولون استغلال وضعهم لتحقيق مزيد من الاستقلالية.
في هذه الأثناء، تتابع إسرائيل المشهد بحذر، محافظةً على وجودها العسكري في الجنوب السوري. فمن منظور تل أبيب، يشكل نظام إسلامي متطرف في دمشق تهديداً أمنياً أكبر بكثير من حكومة تهيمن عليها إيران، مما يجعل الحسابات الإسرائيلية في سوريا أكثر تعقيداً من أي وقت مضى.
Insight from @AhmadA_Sharawi: "The idea that Iran and its proxies have vanished from Syria is pure fantasy. Tehran is actively fueling instability to claw back its influence, and Syria’s new government faces a tough battle to keep Hezbollah...at bay."https://t.co/OEruyIC5CT
— FDD (@FDD) March 18, 2025أما تركيا، فتواجه مزيجاً من الفرص والتحديات. فرغم أن أنقرة قد تجد قواسم مشتركة مع الفصائل الساعية للسيطرة على سوريا، فإنها ستظل مقيدة بالمصالح الإيرانية. فقد رسّخت إيران وجودها في المؤسسات العسكرية والاقتصادية والسياسية السورية، ولعب الحرس الثوري الإيراني دوراً محورياً في تشكيل سياسات النظام السابق.
وقدمت طهران تضحيات هائلة، شملت آلاف المقاتلين من قوات القدس وقوات الحرس الثوري، بالإضافة إلى مليارات الدولارات، للحفاظ على الأسد في السلطة، ومن غير الوارد أن تتخلى ببساطة عن استثماراتها في سوريا.
عودة النفوذ الإيراني
ولفت الكاتب النظر إلى أن إيران اتبعت هذه الاستراتيجية من قبل؛ فبعد ثماني سنوات من الحرب مع العراق وخسائر هائلة، تمكنت من توسيع نفوذها داخل القطاع الشيعي العراقي. وحتى بعد سقوط صدام حسين وصعود تنظيم داعش، نجحت إيران في تأسيس ميليشيات موالية لها، مما ضمن بقاء العراق في حالة عدم استقرار دائم.
وعبر سيطرتها على الأحزاب الشيعية، سعت إيران إلى قمع حكومة إقليم كردستان وإبقاء السُنّة في وضع ضعيف. وينبغي لمن يملكون مصلحة في مستقبل سوريا، يقول الكاتب، أن يتوقعوا تكرار إيران لهذه الاستراتيجية، هذه المرة عبر الطائفة العلوية. ولن تسمح طهران لتركيا، التي استثمرت في سوريا أقل بكثير منها، بجني الفوائد السياسية والاقتصادية على حسابها.
ساحة للصراع
وأوضح الكاتب أنه في المستقبل ستظل سوريا ساحةً تتصارع فيها القوى الإقليمية والدولية، كلٌّ وفق مصالحه وأجنداته الخاصة. فالجزء الغربي من البلاد، حيث يكافح النظام الجديد لترسيخ سلطته، سيبقى بؤرةً للاضطرابات.
في المقابل، من المرجح أن تحافظ المناطق الخاضعة للسيطرة الكردية والدرزية على استقرار نسبي، حيث استطاعت القوات الكردية، بفضل هياكلها العسكرية والسياسية المنظمة، تعزيز سلطتها وتأسيس آليات حكم مستقلة عن دمشق.
أما إسرائيل، فلا تجد دافعاً قوياً لدعم أي تغيير جذري قد يفضي إلى تمكين فصائل معادية. ولا يمكن إنكار أن النظام الجديد في دمشق يفتقر إلى القدرة اللازمة لاحتواء النفوذ الإيراني الراسخ.
وقال الكاتب إن طهران استثمرت كثيراً من الدماء والموارد في سوريا بحيث تظل قوةً لا يمكن لأنقرة ولا للحكام الجدد في دمشق تجاهلها، إذ ما يزال محور المقاومة قادراً على إعادة تشكيل نفسه، كما يتضح من الصراع الدائر بين هيئة تحرير الشام في دمشق وحزب الله، في لبنان.