امتلأت عينا الجد الفلسطينى «سعيد سالم» بالدموع وهو يتفقد ما تبقى من منزله وبيوت جيرانه فى شمال قطاع غزة، جلس يستريح على كرسيه، الذى نجا بطريقة ما من العدوان الإسرائيلى، محاطاً بأحفاده والأنقاض، يتذكر المنزل الذى فقدته عائلته فى السابق أثناء «نكبة فلسطين» فى عام 1948، عندما فروا من قرية «هربيا»، التى تبعد نحو 15 كيلومتراً من مدينة غزة، والتى أصبحت الآن، بعد تهجير الفلسطينيين منها، مستوطنة إسرائيلية تحمل اسم «زيكيم»، هرباً من القصف والفظائع التى ارتكبتها العصابات الصهيونية، يقول عن تلك اللحظات العصيبة، التى لا يستطيع محوها من ذاكرته: «أغلقنا منزلنا وأخذنا المفتاح وسرنا باتجاه غزة، معتقدين أننا سنعود بعد أيام قليلة».

«سالم»: فقدت 90 شخصاً من أسرتى وأصدقائى ونعرف مخاطر البقاء فى «غزة» ولن نتخلى عن منازلنا

كان عمر «سالم» فى ذلك الوقت 5 سنوات، ليصطدم بالواقع الأليم، ففى نهاية الطريق، لم يكن هناك سوى مخيمات اللجوء «المنفى الدائم للأسر النازحة»: «عندما اتضحت الحقيقة، أننا تركنا منازلنا وأخذها آخرون، تمنينا ألف مرة لو أننا بقينا وواجهنا الموت بدلاً من ذلك، الندم لم يغادرنا أبداً»، كان واحداً من بين 700 ألف فلسطينى أُجبروا على ترك منازلهم فى حرب 1948، لذا عندما بدأ العدوان الإسرائيلى على غزة فى 7 أكتوبر 2023. 

تحدى «سالم» وعائلته أوامر الإخلاء إلى جنوب القطاع: «لقد أقسمنا على ألا نرتكب هذا الخطأ مرة أخرى»، ظلت العائلة فى شمال غزة، خلال الحرب، مع قرابة 400 ألف شخص آخرين: «لقد عانينا من المجاعة والعطش والقصف والخوف وكل شىء، الجثث مدفونة تحت الأنقاض، نأكل طعاماً لم يكن صالحاً حتى للحيوانات، ولكننا لم نغادر شمال غزة»، وفى كل مرة يأمر فيها جيش الاحتلال الإسرائيلى الفلسطينيين بالإخلاء، كان «سالم» ينتقل فقط إلى حى قريب، ثم يعود إلى منزله.

ووفق تقرير نشرته صحيفة «الجارديان» البريطانية، فى عددها لهذا الأسبوع، فإن إعلان الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، أنه يريد امتلاك غزة، وإعادة توطين سكانها فى مكان آخر، واصفاً القطاع الفلسطينى بأنه «سيئ الحظ، ويجب إعادة بنائه ليكون ريفييرا الشرق الأوسط»، أثار موجة غضب واسعة، ليس فقط فى معظم دول العالم وأروقة الأمم المتحدة، بل أيضاً فى نفس «سالم» وعائلته، التى فقد منها الكثير، وغيرها من العائلات الفلسطينية، حيث أشار العجوز الفلسطينى إلى أنه فقد نحو 90 شخصاً من أصدقائه وأسرته، عندما دمرت غارة جوية منزل شقيقه، وقضت على كل من كان يحتمى به: «أعرف مخاطر البقاء فى غزة، خاصةً إذا لم تصمد اتفاقية وقف إطلاق النار، لكنى لن أغادر، لن أكرر النكبة، ولن أتخلى عن غزة».

شن جيش الاحتلال الإسرائيلى حرباً مدمرة على غزة، بعد أن نفذت حركة «حماس» هجوماً عبر الحدود، فى 7 أكتوبر 2023، مما أسفر عن مقتل نحو 1200 إسرائيلى، واحتجاز 251 آخرين، وفى الأشهر الـ15 التى تلت ذلك اليوم، استشهد أكثر من 48 ألف فلسطينى نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية، بمن فيهم 13 ألف طفل، فضلاً عن إصابة أكثر من 111 ألف شخص، وفق السلطات الصحية فى القطاع الفلسطينى، وتضررت آلاف المنازل، وأصبح 90% من سكان غزة مشردين وجوعى بشكل دائم، كما تعرضت المستشفيات إلى غارات جوية وقصف بالمدفعية الثقيلة، مما أدى إلى شلل نظام الرعاية الصحية تماماً، ولم تعد هناك مياه نظيفة.

«معزوزة»: نرفض مخططات التهجير ولن نقبل بمنازل بديلة فى المنفى

أحد أبناء «معزوزة أبوهندى»، ذات الـ60 عاماً، كان من بين الشهداء، حيث سقط قتيلاً بنيران جيش الاحتلال الإسرائيلى أثناء محاولته العثور على الطعام والحطب لعائلته، واختفى ابن آخر فى معتقلات الاحتلال، وكان منزلها من بين المبانى التى دمرتها الهجمات الإسرائيلية، فى الوقت الحالى، تتشارك مع بناتها الثلاث وأحفادها، فصلاً دراسياً محترقاً فى إحدى المدارس المخصصة للاجئين، ذلك الفصل هو الملجأ العاشر لها منذ بدء الحرب، وتحدثت لـ«الجارديان» قائلةً إنها وعائلتها هربوا ذهاباً وإياباً لمدة 15 شهراً، وسط ظروف معيشية بالغة الصعوبة، بدون ماء أو طعام: «عشنا كالحيوانات، أكلنا طعام الدواجن وعلف الأرانب، كنا نحصل على بعض الخبز والأرز من منظمات الإغاثة، لكنها لا تكفى دائماً، نستيقظ فى الـ5 صباحاً للصلاة، على الرغم من عدم وجود مساجد، لأنها دُمرت تماماً».

تابعت «معزوزة»: «يستيقظ الأطفال فى السادسة صباحاً، يعدون الإفطار إذا كان لديهم طعام، وحال عدم وجوده يكتفون بالشاى، يمكن استبدال المال والممتلكات، لكن من سيعوضنا عن الأرواح التى فقدناها؟»، هى مثل «سالم» تفضل أن تكافح فى غزة، بدلاً من قبول عرض «ترامب» الغامض بمنزل جديد فى المنفى: «أرفض تماماً فكرته بتهجيرنا، إذا كان يريد إعادة بناء غزة، فلنتركه يبنيها وسنبقى نحن هنا».

«خالدية»: لا أحد يستطيع إنهاء وجودنا على أرضنا.. وتحملنا الجوع والقصف

فى بداية الحرب كانت «خالدية الشنبرى» لديها 3 أخوات، والآن، أصبحت تعيش فى قوقعة سوداء مع شقيقتها الوحيدة الباقية على قيد الحياة، داخل أحد فصول اللاجئين المحترقة، تجلس على كرسى متحرك، بعد أن احترقت ساقاها بشكل سيئ إثر هجوم لقوات الاحتلال الإسرائيلى على مدرسة أخرى كانت تحتمى بها، تطبخ على نار صغيرة فى الفصل، لا توجد نوافذ أو أبواب، وكل ما يثير قلقها أن يُدمر الفصل الذى تحتميان فيه أو يؤخذ منهما، قالت: «ستفتح المدارس أبوابها من جديد أمام الطلاب، وإذا أُجبرنا على الخروج، فلن يكون لدينا مكان نذهب إليه، منزلى وكل ما أملك اختفى، لقد زرعت الأعشاب والخضراوات وسط الأنقاض، على أمل أن نجد شيئاً نأكله، لكن العثور على الماء هو الصراع الدائم، أنا لا أنام، أريد فقط الحياة التى كانت لدينا قبل الحرب، الخوف يطاردنى، ماذا لو بدأت الحرب مرة أخرى؟».

وعلى الرغم من الحزن والخسارة والإرهاق اليومى، فإن «خالدية» مصممة على البقاء فى غزة، وعبرت عن ذلك بقولها: «لا ترامب ولا أى شخص آخر يستطيع القضاء علينا، عندما هرب الناس إلى الجنوب، نحن لم نغادر شمال غزة، على مدار عامين، تحملنا الجوع والقصف والخسائر، لكننا ما زلنا هنا، وسنصمد حتى ينتهى هذا الكابوس».

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: مصر غزة وقف اطلاق النار الاحتلال الإسرائیلى

إقرأ أيضاً:

هل تنجح دعوات الإصلاح المالي؟ ليبيا بين الانقسام السياسي والإنفاق الحكومي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تشهد ليبيا موجة من الانتقادات السياسية والشعبية على خلفية إعلان المصرف المركزى عن ميزانيات حكومتين مختلفتين للعام ٢٠٢٤، بلغ إجمالي إنفاقهما حوالى ٢٢٤ مليار دينار ليبي.
هذا الرقم، الذى يعكس مستوى إنفاق غير مسبوق، يأتي في وقت يتصاعد فيه الاستياء الشعبي من الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها البلاد، في ظل تراجع قيمة الدينار الليبي والضغوط السياسية التي تمزق الحكومة بين طرفي الانقسام الشرقي والغربي.
أظهرت البيانات التي نشرها المصرف المركزي أن حكومة "الوحدة الوطنية" برئاسة عبد الحميد الدبيبة في غرب ليبيا قد أنفقت نحو ١٢٣ مليار دينار، فى حين أن الحكومة الموازية المكلفة من البرلمان فى الشرق، بقيادة أسامة حماد، خصصت حوالى ٥٩ مليار دينار.
بالإضافة إلى ذلك، تم تخصيص ٤٢ مليار دينار أخرى لمبادلة النفط بالوقود، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى فعالية هذه الاستثمارات فى ظل تردى الأوضاع الاقتصادية.
ورغم تبرير الحكومتين لإنفاقهما بهذا الشكل، إلا أن حجم الإنفاق، الذى يراه العديد من المواطنين مبالغًا فيه، أثار سخطًا واسعًا فى الشارع الليبي، خاصة وأنه لم يواكبه تقدم ملموس فى مشاريع التنمية أو تحسين مستوى المعيشة فى العديد من المناطق.
رئيس لجنة الأمن القومي بالمجلس الأعلى للدولة، سعيد محمد ونيس، كان من أبرز من انتقد هذا الإنفاق الضخم، حيث اعتبر أن "الإنفاق الموسع" لا يعكس أى إنجازات حقيقية تذكر، وأكد أن هذه الأموال كان من الممكن أن تُستخدم فى مشاريع بنية تحتية حيوية على مستوى البلاد. 
وبحسب تصريحات صحفية، أضاف ونيس أن هذا الوضع "يثبت صحة تصنيف ليبيا ضمن الدول الأكثر فسادًا فى التقارير الدولية".
وأشار ونيس إلى أن الاحتجاجات الشعبية، التى تضمنت مسيرات غاضبة عقب قرار المصرف المركزي بتخفيض قيمة الدينار، تمثل رد فعل واضحًا على الوضع المالي الذى يزداد سوءًا.
كما حذر من أن الوضع قد يتفاقم إذا لم تتم الإسراع فى تشكيل حكومة موحدة وإقرار ميزانية وطنية موحدة.

الدبيبة: إنفاق موازٍ في الشرق وراء استنزاف الاحتياطي وارتفاع الدين العام
فى السياق نفسه، اتهمت حكومة الدبيبة نظيرتها فى الشرق بإنفاق موازٍ غير مُراقب، ما أدى إلى "تداعيات اقتصادية سلبية"، أبرزها استنزاف الاحتياطي النقدي وارتفاع الدين العام.
من جهته، ألقى أسامة حماد رئيس حكومة الشرق، باللوم على حكومة "الوحدة الوطنية" لدورها فى السماح باقتحام مقر مصرف ليبيا المركزي من قبل مسلحين فى العام الماضي، مما أدى إلى تدهور مركزه الائتماني دوليًا.
عبر منصات التواصل الاجتماعي، تصاعدت المطالبات بإجراء تحقيقات مفصلة حول كيفية إنفاق هذه المبالغ الضخمة.
البعض دعا إلى إغلاق ٩٠٪ من السفارات الليبية فى الخارج، التي تستهلك نحو ١.٥ مليار دينار سنويًا، بينما طالب آخرون بتخفيض رواتب المسئولين الحكوميين وتقليص السفرات الخارجية.
وقد ألقى البعض اللوم على محافظ المصرف المركزي، ناجى عيسى، معتبرين أن السماح بهذا الإنفاق غير القانونى هو مسئولية تقع على عاتقه.
على الصعيد الدولي، أطلقت البعثة الأممية للدعم فى ليبيا نداء عاجلًا للأطراف السياسية الليبية للتوصل إلى اتفاق حول تدابير عاجلة لمعالجة الأزمة الاقتصادية. 
وأعربت البعثة عن قلقها العميق إزاء الوضع الاقتصادي المتدهور، مشيرة إلى أن الإنفاق المزدوج بين الحكومتين، إلى جانب استمرار انخفاض قيمة الدينار الليبي، يشكل "علامات تحذير واضحة" على تفاقم عدم الاستقرار الاقتصادي فى البلاد.
كما دعت البعثة إلى ضرورة الاتفاق على ميزانية وطنية موحدة، مع التأكيد على أهمية حماية مؤسسات الرقابة الليبية من التدخلات السياسية، التى تهدد نزاهتها واستقلالها.
ويستمر الوضع الاقتصادي فى ليبيا فى التدهور بسبب استمرار العجز فى النقد الأجنبى وضخ السيولة النقدية بشكل غير مبرر، مما يعمق من تبعات الأزمة الاقتصادية على المواطنين.
فى وقت تتصاعد فيه الانتقادات داخليًا ودوليًا، تتزايد الدعوات لتوحيد الميزانية الوطنية وتحقيق الإصلاحات المالية، لكن العديد من المحللين السياسيين يرون أن هذه المطالب قد تكون بعيدة المنال فى ظل استمرار الانقسام السياسي الحاد بين حكومتي الشرق والغرب.
فى هذا الصدد، يرى نائب رئيس حزب الأمة الليبي، أحمد الدوغة، أن "فرص التوصل إلى ميزانية موحدة ضئيلة" ما لم يتم حل الانقسام السياسي فى البلاد أولًا.

المرعاش: دعوات الميزانية الموحدة مزيفة
أما المحلل السياسي كامل المرعاش، فقد وصف دعوات الإقرار بميزانية موحدة بأنها "مزيفة"، معتبرًا أن الوضع الحالي يعكس تقاسم العائدات النفطية بين الحكومتين المتنافستين، دون أى ضوابط قانونية أو مالية واضحة.
وأضاف أن "الميزانيات الموازية" التى تُصرف من حسابات الحكومة المختلفة لم تلتزم بأى معايير مالية، ما فتح المجال أمام الفساد المالي على نطاق واسع.
يظل السؤال الأبرز فى ظل هذه الظروف، هل ستكون هناك فرصة حقيقية لتحقيق التوافق بين الأطراف السياسية فى ليبيا لإقرار ميزانية موحدة؟ وفى ظل استمرار الانقسام والتحديات السياسية والاقتصادية، يبقى الأمل فى أن تتمكن الأطراف المعنية من التغلب على هذه التحديات وتحقيق الإصلاحات اللازمة التي تضمن استقرار البلاد.

مقالات مشابهة

  • الأمم المتحدة: 13 مليون نازح ولاجئ في السودان خلال عامين من الحرب
  • الاحتلال الإسرائيلى يقتحم مستشفى جنين ويعتقل شابًا فلسطينيًا
  • ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية.. جراح مفتوحة في بيوت أهالي المفقودين
  • هل تنجح دعوات الإصلاح المالي؟ ليبيا بين الانقسام السياسي والإنفاق الحكومي
  • أهالي الأسرى يتظاهرون أمام منزل ديرمر وعرائض العصيان تصل الموساد
  • واشنطن تُصعّد ضد طهران .. مفاوضات نووية على حافة الهاوية وخيار الحرب يلوح في الأفق | تقرير
  • 14 شهيدا جراء قصف الاحتلال الإسرائيلى على جباليا وخان يونس
  • دعوات أممية لمنع الأزمة الإنسانية المتفاقمة في غزة
  • الجارديان: قوات جولاني متورطة في قتل المسعفين الفلسطينيين
  • تقرير: تركيا قد تكون تكلفت 10 مليارات دولار أخرى من احتياطيات النقد الأجنبي بسبب رسوم ترامب