ـ 1 ـ

يصرّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على أنه لا يعتزم تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن ودول أخرى والسيطرة على القطاع إلاّ ليجعل حياة الغزاويين أفضل بعد أن عانوا كثيرا. فهو في النهاية يعمل، لدواعٍ إنسانية، على توفير مكان آمن لهم بعد أن أصبحت أرضهم مكانا غير صالح للسكن. ويجعل من ترحيلهم عنوانا لبناء القطاع على نحو حديث ولتحويله إلى "ريفييرا" الشرق الأوسط.



يذهب المحللون السياسيون في قراءة نوايا دونالد ترامب مذاهب شتى. فمنهم من يجد في العزم على تهجير سكان غزة خارج القطاع مقدّمة لإنشاء إسرائيل الكبرى التي تمتدّ من النهر إلى النهر، كما في المخيال الصهيوني.  ويجد اتجاه ثان في الإعلان خدمة لإسرائيل مزدوجة الغاية: ففيه ابتزاز للمملكة السعودية لتقبل بالتطبيع مع الكيان المحتل، ومقايضة لشرط قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية بشرط قيام "ريفييرا" الشرق الأوسط. وهو في الآن نفسه هدية لصديقه بنيامين نتنياهو، تساعده على ترميم صورته السياسية المتداعية في الدّاخل الإسرائيلي وتضمن له استقرار حكومته.

في تبرير ترامب لعزمه احتلال القطاع استهانة بذكاء الرأي العام الدولي وما يعرضه يبدو مرتجلا، حتى أنّ أعضاء في إدارته صدموا لما فيها من ارتجال باعتبار أن جدواها لم "تفحص مسبقا" وأنها "غير قابلة للتطبيق" و"ستختفي حتما". وعليه لا يمكننا أن نحمل تصريحاته محمل الجد.ويستدعي بعض المحللين وفق قراءة ثالثة الصدام التجاري بين الولايات المتحدة والصين. فالسيطرة على القطاع خطوة حاسمة للسيطرة على سلاسل التوريد ووضع اليد على الممرات المائية في الشرق الأوسط وعمل مضاد للمشروع الاستثماري العالمي الصيني "حزام واحد- طريق واحد"،  الذي يستهدف تغيير خارطة العالم الاقتصادية والثقافية والسياسية ويتضمن طريق بحريا وآخر بريا وسكك حديدية وخطوط طيران وأنابيب لنقل المواد البترولية وشبكات لنقل الكهرباء. وأهم مكوناته طريقُ الحرير البحري الذي يبدأ من "فيوجو" بالصّين ويتجه عبر بحرها إلى الفيتنام فبحر جاوة ثم إندونيسيا ويتجه إلى ماليزيا وسنغافورة والهند ثم كينيا ليصل إلى اليونان وإيطاليا وفرنسا عبر البحر الأحمر...وغير ذلك من القراءات كثير.

ـ 2 ـ

في تبرير ترامب لعزمه احتلال القطاع استهانة بذكاء الرأي العام الدولي وما يعرضه يبدو مرتجلا، حتى أنّ أعضاء  في إدارته صدموا لما فيها من ارتجال  باعتبار أن جدواها لم "تفحص مسبقا" وأنها "غير قابلة للتطبيق" و"ستختفي حتما". وعليه لا يمكننا أن نحمل تصريحاته محمل الجد. لذلك سنبحث في ما يكمن خلف إعلانه المثير.

تندرج هذه التصريحات المرتجلة ضمن مساق كامل من التصرفات المفتقرة إلى اللياقة الدبلوماسية كما عُرف عن الرّجل. ففي نيابته الأولى كان قد دعا حلفاءه مرارا إلى أن يدفعوا «ضريبة بدل حماية» وطلب من المكسيك تمويل الجدار العازل الذي شرع في بنائه لمنع عبور المهاجرين الوافدين من أمريكا اللاتينية. أما في نيابته الثانية فقد طالب بجعل كندا الولاية الأميركية الواحدة والخمسين، مقدّرا أن "إزالة الخط الافتراضي بين كندا والولايات المتحدة سيخلق شيئا عظيما". ولم يتردد في وصف رئيس الوزراء الكندي جاستين ترودو بـ"حاكم كندا" قياسا على ما يوصف به حكام الولايات في أمريكا وإيهاما بسلطته عليه. وطالب في مكالمة هاتفية مع رئيسة الوزراء الدانماركية بالحصول على جزيرة غرينلاند التابعة لبلادها والمتمتعة بحكم ذاتي. وبرر ذلك بضرورتها لـ"ـلأمن القومي الأمريكي"..

ـ 3 ـ

ولكن هل هو قادر على تجسيد ما يقترحه للقطاع على أرض الواقع؟ يبدو ترامب مخطئا في تقديره مغاليا جدا في طموحاته بقدر ما يبدو عابثا متمردا على الصيغ الدبلوماسية التقليدية. فالقانون الدولي يجرّم التهجير القسري. والمــادة (49) من اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب بتاريخ 12 أوت 1949 مثلا، تعلن صراحة أنه "يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعيه".

ورغم أنه يجيز لدولة الاحتلال أن تقوم بإخلاء كلي أو جزئي لمنطقة محتلة معينة، إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية، فإنه يمنع "أن يترتب على عمليات الإخلاء نزوح الأشخاص المحميين إلا في إطار حدود الأراضي المحتلة، ما لم يتعذر ذلك من الناحية المادية. ويجب إعادة السكان المنقولين على هذا النحو إلى مواطنهم بمجرد توقف الأعمال العدائية في هذا القطاع".

ويعدّ التهجير القسري تطهيرا عرقيا يتم "على أساس ديني أو عرقي أو قومي. فتعرّفه موسوعة هاتشينسون بكونه طردا بالقوة لسكّان من عرق معيّن (أو أكثر) من أجل إيجاد تجانس عرقي في إقليم أو أرض يقطن فيها سكان من أعراق متعددة".  وهو التعريف الذي تقبل به وزارة الخارجية الأميركية وتجعل مما حدث في شهر ماي 1999 في مدينة بيك في كوسوفو الغربية من إخلاء هذه المدينة في غضون 24 ساعة مثالا على ذلك.

ولا يعني احترازنا أنّ الولايات المتحدة الأمريكية ستصبح فجأة مدافعة عن القانون الدولي وستفرض احترامه. فهي أبعد ما يكون عل ذلك. ولكن ما يدبّره ترامب سيضير بحلفائه في الخارج لذلك أعلنوا صراحة معارضتهم له، وكثرة الأمثلة تغنينا عن عرضها، وسيثير خصومه في الدّاخل حالما يتحرك عمليا لتجسيد تهديداته وستمنحهم الفرصة التي يبحثون عنها للتنكيل به، وقد أعلن النائب الديمقراطي، عن تكساس، آل غرين نيته خوض معركة عزلته بحجة مخالفته للقانون الأمريكي وبتـهمة "التطهير العرقي في غزة."

ـ 4 ـ

لا تحمل هذه التصريحات إذن محمل الجد. فلست غير صدى لذات متورّمة تفيض، فتنتشر في الفضاء وانعكاس لشخصية عدوانية تبحث عن الصدام باستمرار. وبالفعل. فقد ظهرت نزعة ترامب هذه  منذ أن جعل ينتج الأعمال الدرامية أو التلفزيونية، في شكل توقيع خاص أو الكاميو (cameo)، ذلك الذي يعني عبورا خاطفا لأحد المشاهير على الشاشة لا تستدعيه الضرورة الدرامية. ففي فيلم "الأشباح لا يستطيعون فعل ذلك" (1989) الذي أخرجه جون دارك اشترك مع النجم أنطوني كوين في إحدى اللقطات وفي الحلقة الثانية من السلسلة و"حيدا في المنزل" (1991).يصل الفتي كيفن إلى نزل "بلاتزا هوتل" ويسأل أحد المارين في ساحته عن مكتب الاستقبال. و"بالصدفة"  لا يكون هذا المارّ غير دونالد ترامب.

ثم وسع حضوره في أفلام  "عبر بحر الزمن"(1995) أو "أودي"(1996) أو "الشريك" (1996) ليصل ذلك الشاب الخجول إلى السيطرة على الفضاء سيطرة تامة ويحوّل ظهوره إلى عرض لذات معتدة  بذاتها في كثير من الصلف والغرور في الفيلم الوثائقي"البطاطس الصغيرة: من قتل رابطة كرة القدم الأمريكية؟" للمخرج مايكل تولين (2009)  الذي يناقش مستقبل رابطة كرة القدم الأمريكية من خلال مناظرة بين مالكين هما ودونالد ترامب، الذي يريد أن تجرى المواجهات خريفا وجون باسيت، الذي يرغب في إجراء المنافسات ربيعا" أو في برنامج تلفزيون الواقع: "المبتدئ". فقد كان ينتجه رجال أعمال ناجحون للقناة NBC "ومداره على اختبارات عديدة ومتنوعة لتشغيل موظفين مبتدئين. وكان دونالد ترامب يمثل رجل الأعمال الناجح في النسخة الأمريكية.

ومثلت رياضة القتال والاستعراض مجالا ثانيا تظهر فيه تلك الذات المتورمة الصدامية في الآن نفسه. فقد كان يستثمر في نزالات المصارعة والملاكمة، في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته: يستضيف المباريات فيوظفها للترويج لمنتجعاته السياحية وكازينوهاته. ثم يحصل على نسبة من المراهنات. وتُحفظ له من هذه التجربة صورتان على الأقل تؤكدان زعمنا. فقد دخل في رهان غريب مع المصارع الأمريكي السابق ورئيس اتحاد المصارعة العالمية الترفيهية (دبليو دبليو إي "WWE) فينس ماكمان، يقضي بأن يحلق المنتصر شعر المهزوم في الرهان. وكان رهان ترامب عل المصارع بوب لاشلي فيما راهن فينس ماكمان  على المصارع أوماغا. وبتغلب بوب لاشلي حلق شعر خصمه أمام الملإ. ودفعته حماسته إلى تقمص شخصية المصارع. فاشتبك مع فينس ماكمان خارج الحلبة. وسميت هذه لمعركة لاحقا بـ"معركة المليونيرات".

ـ 5 ـ

تماما كالفراشة التي تنجذب إلى النور كان ترامب ينجذب إلى الإعلام. وكان الإعلام النار التي تحرقه في النهاية. فقد أسهم في تقديمه إلى المتفرّج باعتباره قدرة خارقة على خلق الثروة. ثم أسهم لاحقا في كشف الجانب الخفي من شخصيته.

وكان ترامب قد نشر سيرته الذاتية سنة 1987 بعنوان "فن الصفقة" وحقق من ورائها نجاحا تجاريا كبيرا. ليردّ عليه الفيلم الوثائقي"ترامب: ما الصفقة؟"  (1991) عبر مقابلات مع ضحايا مقاولاته. فيثير الأسئلة حول سلامة معاملاته المالية ومدى نفوذه وتحكمه في السياسيين وفي نظام الضرائب للحصول على امتيازات جبائية غير مستحقة. ويفضح أسلوبه في التعامل مع موظفيه. فقد كان يكافئهم بالطرد وعدم دفع الأجور.

لا شكّ أنّ ترامب سيذهب في خططه المجنونة هذه إن لم يجد الرّدع المناسب. واستهانته بالحقوق العربية أبرز دليل على ذلك. فقد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وبارك ضم الجولان إلى إسرائيل. ولكنه يظل تاجرا مفاوضا أكثر من كونه سياسيا، فيرفع من سقف مطالبه ليعقد الصفقات المربحة.ويشير الفيلم إلى صفقاته مع رجال العصابات  والمخدرات ويلمح إلى دور ما في ذلك لأخته التي كانت تعمل في وزارة العدل قبل أن تعيين قاضية فيدرالية.  وما طرحه فيلم "ترامب: ما الصفقة؟"  عبر النّمط الوثائقي أعاده فيلم "دونالد ترامب فن الصفقة" روائيا ليعرض وجوها من معاملات ترامب المالية غير السليمة.

أما فيلم "أين [عزيزي] روي كوهن"  فيفصل أطوار مساعدته روي كوهن الذي يهيمن على الإعلام ويحوّل الساسة إلى دمى يحركها كما يريد، له لتجاوز القانون وبسط سلطانه على الدولة والتهرب الضريبي وهو الذي يتسلّى بملاعبة قوانين الدولة انتقاما منها لأنها تخلت في أزمة 1929 عن اليهود وجعلت بنكهم يفلس فلحق عائلته العار وسجن عمّه. فكان يتخذ من العبارة "مت وأنت مدين بأكبر قدر ممكن بمصلحة الضرائب"شعارا له.

وكان بناء برج ترامب ثمرة لهذا التعاون "القذر". فقد وظف ترامب شركات غير مؤلهة واستغل وضعية مائتي عامل بولندي من المهاجرين غير الشرعيين. فاستخدمهم في أعمال بنائه ولم يدفع لهم رواتبهم وعقد الصفقات مع رجال المافيا والمخدرات لتزويده بالخرسانة التي يسيطرون على تجارتها. وتم هذا كلّه برعاية روي كوهن ومهارته في ملاعبة القوانين وفق قاعدته: "لا تقل لي ماذا يقول القانون وإنما اخبرني من يكون القاضي".

ـ 6 ـ

يجعلنا هذا البورتريه ندرك أنّ "ما صاحبنا بمجنون" وهو يحدث الفوضى في الفضاء الدبلوماسي. إنه فقط يستعيد تلك الذات النرجسية اللامبالية التي تقتل الضجر بإحداث الفوضى ويتقمص دور المصارع الذي يسعى إلى استفزاز خصومه من أجل البحث عن رهانات جديدة وصناعة عروض مثيرة ويعمل على إذهال الجمهور بما هو غير متوقع. ولأن خصومه باتوا كثّرا، منهم كوريا الشمالية والصين والمكسيك وروسيا وأوكرانيا وأوروبا والدانمرك، تكاد عروضه تتحول إلى غاية في حدّ ذتها. ولكنه وهو يجعل من العنف سبيله من أجل كسب الأسواق ومراكمة الأرباح يسحب من البيت الأبيض جلال الحكم ورصانة العقلاء المزيفَين ويرفع التحفّظ عن السياسة الأمريكية التي تدبّر في مراكز البحث الإستراتيجي ويكشف الوجه الحقيقي لها بما تختزن من العنف والصلف والعنجهية.

ولا شكّ أنّ ترامب سيذهب في خططه المجنونة هذه إن لم يجد الرّدع المناسب. واستهانته بالحقوق العربية أبرز دليل على ذلك. فقد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وبارك ضم الجولان إلى إسرائيل. ولكنه يظل تاجرا مفاوضا أكثر من كونه سياسيا، فيرفع من سقف مطالبه ليعقد الصفقات المربحة. ومن شأن الوحدة في الدفاع عن الحق العربي وقد بات مصر والأردن دول الخليج مستهدفة، أن تجعله يكتفي بالصخب الذي أحدثه مقترحه. ففي دويّه شفاء لذاته المتورمة التي تحاول أن تدير إليها الرقاب.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير دونالد ترامب الرأي امريكا رأي سياسات دونالد ترامب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة دونالد ترامب

إقرأ أيضاً:

الدب الأمريكي الذي قد يقتل صاحبه!

يتحدث التراث الإنساني عن «الدبة التي قتلت صاحبها»، و«الرواية التي قتلت صاحبها»، و«القصيدة التي قتلت صاحبها»، وكلها تعبيرات تؤكد أن الغباء يقود أحيانًا صاحبه المغرور إلى اتخاذ قرارات متهورة تؤدي إلى إلحاق الأذى به، وبمن يحبه ويدافع عنه، وقد يصل الأمر إلى حد القضاء عليه.

الآن يمكن أن نسحب هذه الأمثال والعبارات على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي وعد عند أداء اليمين الدستورية أمام الكونجرس بإعادة أمريكا -التي يحبها بالتأكيد- عظيمة مجددًا، ثم ما لبث أن أصدر سلسلة من الأوامر التنفيذية التي يؤكد مراقبون كثر أنها قد تؤدى في النهاية إلى تفكك الولايات المتحدة وغروب شمس الإمبراطورية الأمريكية.

من الوعود الكثيرة التي قطعها ترامب على نفسه، وتهمنا في هذا المقال، وعده بأن يجعل بلاده «عاصمة العالم» للذكاء الاصطناعي. ثم سرعان ما تحول إلى دب هائج ضرب هذه الصناعة في مقتل ومنح منافسيه من دول العالم الأخرى خاصة الصين فرصة للتفوق عليه، عندما رفع بشكل تعسفي، يبدو غير مدروس، التعريفات الجمركية على كل دول العالم تقريبا.

الأمر المؤكد بعد أن بدأ ترامب حربه التجارية مع العالم، أن هذه الحرب ستكون الولايات المتحدة أكثر المتضررين منها، خاصة على صعيد صناعة الذكاء الاصطناعي التي سيكون عليها من الآن فصاعدًا مواجهة منافسة شرسة مع مثيلتها في الصين ودول أخرى. والسؤال الذي يطرح نفسه حاليا على كل المهتمين بتطوير برامج الذكاء الاصطناعي هو: كيف ستؤثر التعريفات الجمركية «الترامبية» على هذه البرامج التي ما زالت في طور الحضانة التكنولوجية، إذا أخذنا في الاعتبار أنها بدأت في الظهور منذ 3 أعوام فقط وتحديدا في عام 2022 عندما أطلقت شركة «اوبن آي» برنامج «شات جي بي تي» الذي فتح الباب أمام منافسين كثر في جميع أنحاء العالم لتطوير برامج الذكاء الاصطناعي التوليدي التي حققت زيادة هائلة في الانتشار والاستخدام العالمي من جانب الشركات والمستخدمين الأفراد. وهنا تشير التقديرات إلى أن عدد مستخدمي أدوات الذكاء الاصطناعي حول العالم قد تجاوز 314 مليون مستخدم في عام 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى حوالي 378 مليون مستخدم هذا العام. وحسب أحدث التقارير، تجاوز عدد مستخدمي تطبيقات شات جي بي تي النشطين أسبوعيًا 400 مليون مستخدم في فبراير الماضي.

ورغم تراجع ترامب المفاجئ كالعادة وإصداره أمرًا جديدًا الأسبوع الماضي بإلغاء الرسوم الجمركية التي كان قد فرضها على أجهزة الكمبيوتر المحمولة، والهواتف الذكية، وشاشات العرض المسطحة، ومحركات الأقراص، وأشباه الموصلات القوية المعروفة باسم وحدات معالجة الرسومات، والتي تعد من العناصر الضرورية لمشروعات الذكاء الاصطناعي، ورغم ترحيب شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى، مثل آبل وديل، بهذا القرار؛ نظرًا لاعتمادها الكبير على المكونات المستوردة من الصين ودول أخرى، فإن قرارات ترامب التي عرفت بقرارات يوم الجمعة تم التراجع عنها بعد يوم واحد، بإعلان وزير التجارة «هوارد لوتنيك» أمس الأول «أن الرسوم الأمريكية على رقائق أشباه الموصلات والهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، والتي أعفاها البيت الأبيض في وقت متأخر من يوم الجمعة، ما زالت قيد التنفيذ، وسيتم تحديدها في غضون شهر أو شهرين».

يتجاهل ترامب وإدارته الجمهورية حقيقة قد تعصف بصناعة الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة، وهي أن الرسوم الجمركية الجديدة ستؤدي دون شك إلى زيادة كلفة إنشاء مراكز البيانات والمعلومات التي تشكل حجر الزاوية في تطوير ونشر برامج الذكاء الاصطناعي، وذلك بسبب أن المواد المطلوبة لتأسيس هذه المراكز مثل مواد البناء ومولدات الطاقة الاحتياطية ومعدات تبريد الخوادم الضخمة ما زالت تخضع للرسوم التي فرضها ترامب على الواردات الصينية.

من التناقضات الملفتة للنظر في سياسة ترامب نحو الذكاء الاصطناعي أنها تريد أن تحافظ على مكانة الولايات المتحدة «كعاصمة للذكاء الاصطناعي في العالم». ووفقًا لأقوال ترامب، فإن «على الولايات المتحدة أن تبقى في الصدارة للحفاظ على اقتصادها وأمنها القومي»، في الوقت نفسه سارع ترامب فور توليه منصبه إلى تقليص قواعد الذكاء الاصطناعي التي كان قد أصدرها الرئيس السابق جو بايدن، بأمر تنفيذي في أكتوبر 2023 لتنظيم مجال الذكاء الاصطناعي، وتحقيق التوازن بين الابتكار وحماية الأمن القومي ومصالح المستهلكين، وضمان استخدام مسؤول للتكنولوجيا مع حماية الحقوق المدنية ومنع إساءة الاستخدام، مثل الاستخدامات التي قد تنتهك الحقوق الدستورية أو تسهم في نشر الأسلحة النووية. وقد ألزم هذا الأمر الشركات العاملة في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة بالتعاون مع الحكومة الفيدرالية، خاصةً عند تطوير تقنيات قد تشكل تهديدًا للأمن القومي أو الصحة العامة أو الاقتصاد. وتضمن هذا الأمر تقديم نتائج اختبارات الأمان وتفاصيل حول آليات تطبيقها، بالإضافة إلى توجيه الوكالات الفيدرالية لوضع معايير تنظيمية للمخاطر المرتبطة بهذه التقنيات.

جاء ترامب وألغى في فبراير الماضي بجرة قلم كل ذلك بزعم أن الخطوات التنظيمية التي وضعتها إدارة بايدن تعيق تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي وتضع عوائق أمام الشركات الأمريكية، وتجعلها في موقع تنافسي ضعيف مقارنةً بالدول الأخرى، ليعود بنفسه إلى سياسة وضع عوائق أشد.

من الواضح أن الرسوم الجمركية الصارمة التي فرضها ترامب على الصين، التي بلغت حتى الآن 145%، قد تصب في صالح الصين، وتضعف صناعة الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة، وتساعد التنين الصيني في نهاية المطاف على منافسة الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي، خاصة وأن الصين تعد موردًا رئيسيًا لمكونات مراكز البيانات، التي لم يلغ ترامب الرسوم المفروضة عليها.

لقد استبق ترامب الأحداث وتدخل بعنف في مسيرة صناعة وليدة ما زالت في بداياتها، ولم تُحقق بعد أرباحًا كبيرة. صحيح أن شركات التقنية العملاقة ضخت استثمارات مليارية في برامج طويلة المدى لتطوير وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي وبناء مراكز البيانات في جميع أنحاء الولايات المتحدة، ولكنها تبقى استثمارات بدون عوائد سريعة. ويكفي أن نشير هنا إلى أن «جوجل» أعلنت عن خطط لاستثمار 75 مليار دولار، وأعلنت شركة «مايكروسوفت» عزمها إنفاق 80 مليار دولار هذا العام، بالإضافة الى إعلان شركة «اوبن آي» و«شركة أوراكل»، استثمار ما يصل إلى 500 مليار دولار، في بناء مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي خلال فترة ولاية ترامب. هذه الأموال الطائلة والاستثمارات الهائلة تحتاج إلى تبني سياسة الانفتاح على العالم وليس سياسة ترامب التي تغلق الباب أمام الشركات الأمريكية للحصول على ما تريده من العالم، ويتحول ترامب الى دب يقتل صناعة الذكاء الاصطناعي. إذا أردت أن تصبح بلادك عظيمة مرة أخرى يجب أن تحترم العالم المحيط بك أولا، وألا تشن حروبا من المؤكد أنك سوف تخسرها في مواجهة الجميع، وإذا أردت أن تطاع، يا عزيزي ترامب، فإن عليك كما يقول العرب «أن تأمر بالمستطاع».

مقالات مشابهة

  • الدب الأمريكي الذي قد يقتل صاحبه!
  • ترامب وقّع 185 قرارًا تنفيذيًا منذ توليه الرئاسة.. ما الذي شملته؟
  • وزارة الخارجية تعرب عن إشادة المملكة بالإجراءات التي اتخذتها الجهات الأمنية في الأردن لإحباط مخططات كانت تهدف إلى المساس بأمنه وإثارة الفوضى
  • بايدن يخرج عن صمته ويُشن هجومًا لاذعًا ضد ترامب .. ماذا قال؟
  • البيت الأبيض: ترامب سيعمل على ترحيل كل مهاجر غير شرعي من أمريكا
  • مخرج فيلم Home Alone 2 يصف مشهد دونالد ترامب بـ اللعنة
  • جلالة السلطان يتلقى اتصالًا هاتفيًا من دونالد ترامب
  • جلالة السلطان اتصالًا هاتفيًا من دونالد ترامب
  • رئيس الأرجنتين يعلن استعداده لعقد صفقة مع واشنطن لرفع الرسوم
  • أخبار العالم| واشنطن تعرض ضمانات لحماس مقابل إطلاق رهائن.. زيلينسكي يدعو ترامب لزيارة أوكرانيا.. وأمريكا تختار موقعا جديدا لمحادثاتها مع إيران