الصحافي يحي العوض عن الجنيد على عمر
تاريخ النشر: 20th, February 2025 GMT
عبد الله علي إبراهيم
شهادتي للتاريخ: برزخ الصحو والغياب للمفكر الكبير
عثرت على هذه الكلمة للدفعة بعطبرة الثانوية الصحافي المميز يحي العوض عن رفيقنا الجنيد علي عمر (1924-6 سبتمبر 1980) الذي بدأ حياته معلماً بمدينة مدني. وانضم للحزب الجمهوري في نحو 1946 وكان من كلفه ذلك الحزب بكتابة التقارير عن إضراب مزارعي الجزيرة في نفس السنة.
وأكثر ما ذاع عن الجنيد غيابه في الإدمان دون صحوه الحق. وكانت ليحي تجربة صحبة الجنيد في منعطف بين الصحو والغياب سترى منها أن ما ذاع عن تفريط الحزب الشيوعي فيه أقاويل متربصة. وسترى من وراء صحبة يحي له مهارة أستاذنا عبد الخالق محجوب في القيادة وسهره على رفاقه. لنقرأ يحي:
في ستينيات القرن الماضي زارني صديق عزيز في مكتبي بجريدة "السودان الجديد" وأبلغني بأنه تم ترشيحي لعمل إنساني يتطلب بعض التضحية لما يتضمنه من مخاطر مؤكدا: لولا ثقتنا ومواقفك المؤازرة للقضايا التي ندافع عنها لما تم اختيارك لهذه المهمة وفى كل الأحوال لك حق الرفض ولن يؤثر هذا في علاقتنا بك. واشعلت هذه المقدمة الغامضة كل قرون الاستشعار الصحافية وغرائز الاثارة المتجذرة في مهنة "فردوس الحمقى" لمعرفة هذه المهمة. ومضات من الاحتمالات تتابعت في ذهني واجبته بحماس تأكد بأني سأكون عند حسن ظنكم. ويسعدني ويشرفني القيام بواجب تكلفوني به., تكفي تضحياتكم من أجل الوطن. لا أحد يستطيع المزايدة على مواقفكم. تنهد وقال هامسا: تعرف (فلان) ومكانته بيننا. واجبته وهل يوجد من لا يعرفه على امتداد الوطن كله. وحدق في عيني ملياً وقال: قد لا تعرف ظروف الاختفاء فهي أقسى من الاعتقال. يرافقك الشك والحذر المميت حتى من همس الريح على باب أو نافذة غرفتك. واستطرد قائلا: اطمئن صديقنا مختبئ في مكان آمن لكن من تجاربنا وتقاليدنا اتاحة مساحة محدودة للقياديين "المختفين " لمتابعة الانشطة الثقافية والفكرية والفنية لمحو صدأ وعتمة العزلة. وهناك محاذير من خروجهم بمفردهم فلا بد من صحبة موثوق بها وغير مشبوهة أمنيا ترافقهم أحياناً إلى دور الرياضة والمسرح والسينما. وصاحبنا من عشاق المسرح والسينما خاصة وبالطبع الامر لا يخلو من مخاطرة لو كانت هناك متابعة وتم اعتقالكم معا. بالتأكيد انهم سيعتبرونك صيداً ثميناً لانتزاع معلومات عن أماكن اختفاء قيادات أخرى وما يسمونه أوكار الحزب وأجهزته السرية!
وبدون تردد وافقت ممتنا لاختياري لهذه الرفقة الغالية وهذه الثقة التي حظيت بها، وطافت بخاطري عدة مشاهد تدعم أسباب اختياري. فقد كنت وبحق قريباً منهم في الرؤية الكلية لقضايا بلادنا وتحالفنا سويا عبر كوادرهم الاعلامية في انتخابات اتحاد الصحافة ونقابة الصحفيين. وفزت بدورتين في انتخابات النقابة واخترت أمينا عاماً ونائباً للأمين العام للاتحاد بفضل التنسيق والتحالف معهم. وأذكر من الأصدقاء الأعزاء من الإعلاميين: الاساتذة الدكتور الطاهر عبد الباسط والتيجاني الطيب وعمر مصطفى المكي وأحمد على بقادي وسمير جرجس وعبد الله عبيد وعبد الرحمن أحمد و ميرغني حسن على وكمال الجزولي ومكى عبد القادر والشيخ عووضة وعوض برير صديقهم وصديقي إضافة إلى ذلك شغلي لموقع سكرتير تحرير "السودان الجديد". كنت في الوقت نفسه مراسلا لوكالتي انباء" تاس" السوفيتية و "أ.د.ن " وكالة انباء جمهورية المانيا الديمقراطية. وكنت منبهرا بشخصية الرجل الذي ستمكنني صحبته للاقتراب منه والاستفادة القصوى من تنوع معرفته. فله كتب وتراجم لمؤلفات احتفت بها المكتبات داخل وخارج السودان. وشكل ثنائياً مع الاستاذ هنري رياض وترجما معاً كتاب " الاولياء الصالحون والمهدية في السودان " تأليف ب. م . هولت وكذلك عدة كتب مرجعية كتبها بالإنجليزية الاستاذ محمد عمر بشير، من بينها كتاب " مشكلة جنوب السودان " وكتاب " التعليم ومشكلة العمالة في السودان" كما تعرف جيلنا على المفكر الإيطالي انطونيو قرامشى، مبدع مصطلح المثقف العضوي، عبر ترجمته لكتابه "الماركسية والفكر". وله اسهامات ثرة في معظم قضايانا الفكرية والثقافية تتسم بالرصانة والعمق مما أهله ليكون الرجل الثاني فكراً بعد الأمين العام. ويسميه الرفاق "سوسلوف الحزب " تشبيها بالفيلسوف السوفيتي الشهير. وواصل الصديق حسن شمت، عضو اللجنة المركزية، حديثه موصياً: عندما تذهب معه إلى السينما والمسرح ودور الرياضة تجنب الدرجات الأولى حتى لا تلتقي بمن يعرفك ويعرفه. وليكن خيارك المقاعد والمساطب الشعبية، وأن يكون دخول دور السينما والمسرح بعد إطفاء الأنوار والخروج قبل اضاءتها عند النهاية. وكذلك في دور الرياضة الدخول بعد بداية المباريات والخروج قبل نهايتها. وسوف نوصله إليك حتى سيارتك وكذلك سنعيده الى مكان إقامته بطريقتنا، وحدد الاماكن التي سنلتقي فيها.
وكانت سعادتي لا حدود لها في اللقاء الأول معه، الأستاذ الجنيد على عمر، في مرحلة كمال الصحو، ومرافقته عند تخوم الغياب والمواقف التي لم استوعبها عندئذ ونحن في أفق البرزخ الفاصل. وترددت طوال هذه السنوات من مقاربة هذه الذكريات. واقتنعت أخيراً وبإلحاح بعض الأصدقاء الاعزاء فتح هذه الصفحة الحزينة. وهدفي شهادة للتاريخ خاصة وهناك من ظلموا بأنهم كانوا وراء هذه المأساة الإنسانية. كنت مزهواً بهذه الثقة والصحبة رغم الخواطر والهواجس التي نازعتني ونحن آنذاك في عهد رجل الأمن الفريق احمد عبد الله أبارو.
وكان فيلمنا الاول" شمس ساطعة "بسينما النيل الازرق للممثل الفرنسى ألن ديلون. وتتابعت اللقاءات والذهاب الى دور العرض المختلفة، وأحيانا تمتد جلساتنا في حوارات هادئة في الاركان المظلمة بحدائق" افريكانا " شرق الخرطوم. وتعمدت في لقاءاتنا تجنب الحديث في شؤون حزبه. وكنت أعلم معارضته لقرار المشاركة في انتخابات المجلس المركزي. وهو مشروع بادر به نظام الفريق عبود في مطلع الستينيات بزعم أنه يمهد لانفراج ديمقراطي. كما قام الرئيس عبود بزيارة الى موسكو ورد الزيارة ليونيد بريجنيف الامين العام للحزب الشيوعي السوفيتي وأعلن عن انشاء مصانع سوفيتية في السودان تتضمن مصانع لتعليب الفاكهة والخضروات وصوامع للغلال. وكان التيار الغالب في الحزب الشيوعي يرى دعم هذا التوجه مستشهداً بمساندة فلاديمير لينين لانتخابات برلمان "الدوما" قبل نجاح الثورة البلشفية. .
وأسأله، الأستاذ الجنيد على عمر، هل يشهد جيلنا قيام نظام اشتراكي في السودان؟ ويجيبني ضاحكاً: سئل الفنان النعام آدم في برنامج " من ربوع السودان" عن عدد اغنياته. وأجاب على الفور "عييك"! وهو تعبير بالعامية السودانية لرقم أو تصور غير محدود. وواصل بسخريته اللاذعة مع ضحكاته الخافتة المتقطعة: الأستاذ إبراهيم جبريل، المتميز بلهجته المصرية، عضو المكتب السياسي للاتحادي الديمقراطي وأكبر احزاب الوسط في السودان، قال للرئيس اسماعيل الأزهري : يا ريس كلمة الاشتراكية كثيرة في برنامج الحزب. دول يا ريس ياخدو اللقمة من البق! ويضيف من أكبر أخطاء المثقفين المنتمين لأحزاب عقائدية الاعتقاد بأن الصراع الدائر في واقعهم يطابق مائة في المائة النصوص التي تضمنتها مرجعياتهم من الكتب. أو بعبارة أخرى "التضخم الأيديولوجي والبؤس المعرفي. كان شديد الحماس لدور المثقف العضوي في مجتمعه. ويتحدث عنه باستفاضة. ونواصل معه في برزخ الصحو وما قبل الغياب!
ibrahima@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی السودان
إقرأ أيضاً:
لا يمثلون مشروع احلامنا
عندما اتابع خطاب الاخوة في الانتقالي، ادرك حينها انهم لا يمثلون مشروعنا الجنوبي، الجنوب اليمني الذي قرر الوحدة الوطنية مع شمال الوطن، بعد ان انهكته الحروب والصراعات، و انهك باستئثار فكر على كل الأفكار، جنوب اعترفت قيادتها نها أخطأت حينما اقصت شركائها في الكفاح المسلح ضد المستعمر، وانها كانت ضحية لسياسة المستعمر (فرق تسد) ففرقت قوى الكفاح المسلح، ودعاة التحرر والاستقلال من الوصاية الاستعمارية، و لم تستطيع ان تسد الفراغ غياب تلك القوى، لان الأوطان لا تبنى الا بسواعد وأفكار كل الاطياف، وكان مضمون اعترافهم، بعبارة كنا شباب طائش ومتحمسين لا ندرك مخاطر اقصاء الاخر وتهميش الرؤى والأفكار المختلفة، وتدمير التنوع الفكري والثقافي والتعدد السياسي.
هذه الصحوة التي دفع ثمنها الرفاق في الحزب الاشتراكي اليمني ثمنا باهضا، و تحمل جور مرحلة تاريخية بكل عيوبها، اكسبته الكثير من العداوة، وخسر بسببها حاضنته الشعبية في الشمال والجنوب، بل اساء كثيرا لتجربته ومشروعه العادل، هي دولة الكادحين و دولة البُرُولِتاريا، فكان صيدا سهل للقوى التقليدية في الشمال، من خلال كسبها لكل المتضررين من سياسة الحزب وتصفية الاخر المختلف، استطاع نظام صالح ان يحرض ضد الاشتراكي من خلال احتضان خصومة وهم كثر، ضحايا الحرب الاهلية ابان الاستقلال، وضحايا الخطوة التصحيحية اليمين الانتهازي ( قحطان الشعبي وجماعته) واليسار الانتهازي( سالمين وجماعته) والزمرة( علي ناصر وجماعته)، وضحايا التصفيات على وطول فترة حكم الحزب وعرض الوطن ومنها الطائرة الدبلوماسيين وتصفية القبيلة( عملية الغدر بالشيخ الغادر ومن معه) واكبر الأخطاء هو محاربة الملتزمين بالدين الإسلامي، بينما كان البيئة المجتمعية في عدن حينها متنوعة ومنضبطة بنظام قبول الاخر، حيث كانت عدن هي الجنوب اليمني، بنسيج اجتماعي متنوع ومتعايش الأعراق والثقافات والأفكار والأديان والمذاهب، وبقية الجنوب كانت مجتمعات متخلفة بكر لم يمسها بعد التحضر والوعي، فكانت عدن هي منبرهم ومنبع ثقافتهم، وكان من السهل ترويضهم اذا ما ترك لعدن ان تبقى كما تركها المستعمر نموذج للدولة الناشئة، والذي حدث العكس، سمح للريف ان يعكر صفو المدينة، وفل نور منبر عدن بالتدريج، كما عطل مركزها الاقتصادي ودورها السياسي، وأصبحت مسرحا للصراعات عصبيات ما قبل الدولة، كان الريف الرافد الحقيقي لأدوات تلك العصبيات، وهذا ما ساعد على فشل الدولة وانهيار التجربة، وسهل للقوى التقليدية ومنظومة الحكم في الشمال من الانتصار على تجربة الجنوب.
الحزب الاشتراكي رغم عيوبه كان حال من الوعي، ولهذا تدارك مخاطر سياسته، واعلن الإصلاح السياسي والاقتصادي، في وقت كان النفوذ القبلي قد توغل في العمل السياسي، وكانت خطوة الإصلاح متأخرة، فهرب للوحدة على امل ان تلتم حوله القوى الوطنية الأخرى ليشكل تحالفا قويا يعيد لدولة الكادحين زخمها، مع بعض التغيرات في توسيع مساحة الحرية والشراكة يمكن تحقيق دولة المواطنة، والتبادل السلمي للسلطة، وكل ذلك كان حلما تأخر كثيرا، وكانت قواه في اضعف حال، بينما القوى الأخرى كانت كثر نفوذا ودعما إقليميا ودوليا، خاصة بعد سقوط النظام الاشتراكي في قلعته الام الاتحاد السوفيتي.
وعندما تنهار الحاضنة الشعبية، ويفرغ المشروع من عدالته يشوه في والوعي الجمعي، ويسقط كل شيء، ولا تنفع القوى المسلحة ولا الترسانة العسكرية.
فضاع حلم دولة المواطنة في الصراع بين القوى السياسية، الحزب الاشتراكي وحلفاءه والمؤتمر والإصلاح وحلفاءهم.
تفاءل الناس خيرا في ثورة الربيع، التي كان الجنوب مشعلها، والشمال زادها وهجا، ولكن الانقلاب والحرب جعلتها ضحية للتدخلات الخارجية، وعاد المستعمر وادواته الإقليمية ليقبض بخيوط اللعبة السياسية، وأصاب ادواتها من أحزاب ومؤسسات جماهيرية، والمؤسسات التشريعية بالموت السريري، وأعاد تشكيل ادواته، مثل الانتقالي والقوات العسكرية التابعة على أسس مناطقية ومذهبية، وتصفية القوات المسلحة الوطنية، وتصفية قوى التحرر والاستقلال من الوصاية والتبعية، وهو اليوم يدير تلك الأدوات من غرفة عملياته في إسرائيل وبأدوات الصهاينة العرب وعملائهم في الداخل .
كل ما نشاهده من تحركات و مواكب والرجوزات واصنام ودمى في المشهد، هي لزوم الوصاية والتبعية، في سيناريو لرسم سلطة لا وطنية، لانتهاك وطن وسلب المواطن كرامته وشرف انتماءه بل هويته، و واقعنا اليوم مؤشر للوصول الى ما هو اسوء واخطر مما نحن فيه اليوم.
الحل ان تستعيد القوى الوطنية حقها في الدفاع عن الوطن وحق تقرير المصير، والتصدي لهذا العبث، تشكيل جبهة وطنية اليوم مطلب مهم وضروري في النضال من اجل استعادة سيادتنا وكرامة الامة، والشعب اليوم مهيئ للانتفاضة ضد العبث وسياسة استلاب الوطن لسيادته والانسان لإرادته وكرامته.