التَّأصيل.. قراءة في المفهوم والأهميّة
تاريخ النشر: 19th, February 2025 GMT
تتكرّر كلمة التأصيل على ألسنة الباحثين والكتّاب والمتحدثين لا سيما الشرعيّين منهم، مما يجعل من الضرورة فهم المفهوم وتحرير المصطلح والوقوف على بعض فوائده التي تعزّز أهميّته.
وعند تحرير أيّ مفهوم لا بدّ من العودة إلى اللغة لفهم الجذر الذي يفرع منه المعنى، والأصل في اللغة: أساسُ الشيءِ وأسفلُه الذي يعتمد عليه ويتفرَّع عنه سواء كان ماديّا أو معنويّا.
ويقول ابن فارس في معجم مقاييس اللُّغة: "أصل: الهمزة والصاد واللام ثلاثة أصول متباعدٌ بعضُها عن بعض، أحدها: أساس الشيء"، وفي لسان العرب: "الأصل: أسفل كلّ شيء".
وهذا ينقلنا إلى تحرير مفهوم التَّأصيل اصطلاحا، وفي الحقيقة لم يوجد في كتب الأقدمين تعريفٌ دقيقٌ لكلمة التَّأصيل، وإنّما وردت تعريفاتٌ عامّةٌ للأصل والأصول، ومن المعاصرين وقعت على تعريفٍ للتأصيل للدكتور طه جابر العلواني -رحمه الله تعالى- حيث يقول: "التّأصيل: إرجاع المعارف إلى أصلها: الوجود أو الوحي".
الدَّعوة إلى التَّأصيل هي دعوةٌ للرُّجوع إلى القرآن الكريم والسنة النبوية: فهما مصدرا التَّشريع، وهما اللّذان نرجع إليهما لنأخذ ما يهدينا إلى الطَّريق القويم في الدنيا والآخرة
وإنَّ المُطالِع لكتابات ودراسات المعاصرين التي تبحث في تأصيل المسائل -على الرّغم من عدم تعرّضها لتعريف التأصيل بصورةٍ محدَّدةٍ- يظهر له جليّا في تناولهم للموضوع أنَّ المعنى الذي ذكره الدكتور العلواني هو المراد.
ثمّ يقدم الدكتور معاوية أحمد سيد أحمد تعريفا أشمل للتّأصيلَ أكثرَ توضيحا وتفسيرا إذ يقول: "التَّأصيلُ: إرجاع الحياة جميعِها بمعارفها ومشكلاتها وقضاياها وجميع ما يتعلَّق بها إلى أصل الإسلام".
وهذه التعريفات واضحة في بيان المعنى الشامل لمفردات الحياة التي نريدُ إرجاع مسائلها ومشكلاتها إلى أصل الإسلام، ولا تكاد تخرج قضيّة من قضايا الحياة ولا مسألة من مسائل الواقع عن هذه المسائل التي يتوقُ المسلمُ إلى تعرُّف أحكام الشّرع فيها، وبنائها على أصلٍ ثابتٍ راسخٍ، ألا وهو مبادئُ الإسلام وأحكامه.
ومما يجدر تأكيده أن مفهوم التأصيل لا يعني بالضَّرورة توحيدَ جميع العقول البشريَّة في مجال العلوم الإنسانيَّة في فكرٍ واحدٍ واتجاهٍ محدَّدٍ، وإنّما هو وضع قواعدَ وأسسٍ تنطلق منها هذه العلوم لتكونَ متَّفقة مع معتقدنا الإسلاميّ وغيرَ مخالفةٍ لتعاليمه وتوجيهاته، مع احترامِ الرَّأي المخالف ضمن هذا الإطار واعتقادِ أنَّ خلاف العقول ثراءٌ، كما أنَّ التَّأصيل بهذا المعنى يُعَدُّ تطوّرا للحياة بجميع جوانبها لتكون ملَّبية لحاجات الرُّوح والضَّمير وتطلّعات الأمم والشعوب.
وإذا أردنا أن نحرر مفهوم التأصيل الشرعيّ بوجه خاص، فإنَّ التأصيل الشرعي المتعلق بالأحكام الفقهية يحمل معنى أخصَّ من هذا المعنى العام الذي قدمه كل من الدكتورين معاوية والعلواني، ولذا يمكن تعريف التأصيل الشرعي بأنه:
"ردَّ المسائل المراد معرفة حكمها الشرعي سواء كانت من المسائل الأصلية أو الفرعية إلى مصادر التشريع الأصلية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أو المصادر التبعية من الاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة والعرف ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا".
وأمّا الحديث عن أهمية التأصيل فيمكن بسطه مِن جوانِبَ عِدّةٍ؛ منها:
أولا: إنَّ الدَّعوة إلى التَّأصيل هي دعوةٌ للرُّجوع إلى القرآن الكريم والسنة النبوية: فهما مصدرا التَّشريع، وهما اللّذان نرجع إليهما لنأخذ ما يهدينا إلى الطَّريق القويم في الدنيا والآخرة.
ثانيا: إنَّ أهمية التَّأصيل تأتي كذلك من جانبٍ آخرَ؛ وهو ما يمكن أن نُطلق عليه "توحيدُ المعايير"، فالنَّاظر اليومَ في العالم يجد اختلافا كبيرا وكثيرا في النظريات والقوانين، ومن أهمِّ مصادر الاختلاف في هذه الأمور الاختلافُ في المعايير التي بُنيت عليها، فالأمر قد يكون ممنوعا في مجتمعٍ أو بلدٍ ومباحا في أخرى، والنَّظرية قد تكون من المسلَّمات في مجتمعٍ وفي آخرَ يُختلف عليها.
يأتي تأصيل المسائل والنوازل والقضايا المعاصرة للتَّأكيد على أنَّ الإسلامَ بأصوله المستوعِبة للحياة صالحٌ ليكون هو المعيارَ والأصل الذي تنبني عليه الحياة
والمصلحة البشريَّة تقتضي وجودَ معاييرَ وقواعدَ تكون هي الميزانُ الذي توزن به القضايا الكبرى التي توجِّه وتحكم حياةَ الناس، وبها يُعرف الصالحُ من الفاسد.
ويأتي تأصيل المسائل والنوازل والقضايا المعاصرة للتَّأكيد على أنَّ الإسلامَ بأصوله المستوعِبة للحياة صالحٌ ليكون هو المعيارَ والأصل الذي تنبني عليه الحياة.
ثالثا: إنَّ أهمِّية التَّأصيل تُستمدُّ من القناعة بأنَّ الإسلام إنَّما هو أصلُ المعارف وأحكامها، وإذا ترسَّخت هذه القناعةُ التي ينطلق منها البحث عن الحكم الحقِّ، كان البحث يسير على هدايةٍ ربّانيّةٍ، وقوّةٍ إيمانيةٍ تساعد في الوصول إلى النتائج الصَّحيحة والنّظريات السَّليمة، كما أنَّ تزوُّدَ الإنسان الباحث عن الحقّ بهذه القناعات يجرِّده من حظوظ النَّفس والدّنيا ويدفعه إلى خدمة الحق دونَ مطامعَ أو أهدافٍ شخصيّةٍ، ممّا يجعل من البحث عن الأحكام الشرعيّة عملية ذاتَ معاييرَ مجرّدةٍ وخالصةٍ من الشّوائب التي قد تؤثّر في نزاهتها وحيادها.
إنّ تحرير مفهوم التأصيل والوقوف على أهميّته يجعل الباحثين يقفون على أرض صلبة مشتركة للانطلاق منها والوصول إلى الحق الذي هو مبتغى كل صادق من البشر.
x.com/muhammadkhm
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الشرعي اسلام احكام الشرع مفاهيم تاصيل رياضة عالم الفن سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
كل ريأكت بجنيه.. أمينة الفتوى توضح الرأي الشرعي في تريند العيدية
قالت الدكتورة وسام الخولي، أمينة الفتوى بدار الإفتاء المصرية، إن المنشورات المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يتعهد فيها الزوج أو الزوجة بتقديم عيدية أو هدية مقابل عدد معين من التفاعلات، لا يمكن الحكم عليها بشكل مطلق، بل يعتمد الأمر على نية صاحب المنشور.
وأوضحت الخولي خلال تصريح، اليوم الإثنين أن الأعمال بالنيات، فمن كان يقصد بها إدخال السرور على شريكه أو نشر العادات الطيبة، كتشجيع الأزواج على الاهتمام ببعضهم البعض، فهذا جائز ولا حرج فيه، بل قد يكون وسيلة لتعزيز الود والتقارب بين الزوجين، أما إذا كان الغرض من هذه المنشورات مجرد جذب التفاعل والترويج للصفحة، أو تحقيق أغراض أخرى غير سليمة، ففي هذه الحالة يُنصح بتجنبها.
وأضافت أن مثل هذه المبادرات قد يكون لها أثر إيجابي على العلاقة الزوجية، حيث إنها تضفي روح المرح والتجديد في العلاقة، مشيرة إلى أنه لا بأس في أن يعبر الأزواج عن حبهم بطرق غير تقليدية مثل تقديم عيدية أو هدية بسيطة لإدخال البهجة على الطرف الآخر.