جريدة الرؤية العمانية:
2025-04-26@09:39:41 GMT

القيم.. مهمَّة الإِنقاذ

تاريخ النشر: 19th, February 2025 GMT

القيم.. مهمَّة الإِنقاذ

 

 

د. صالح الفهدي

 

خلال الملتقى الإرشادي الثاني لوزارة التربية والتعليم بعنوان "القيم بين الواقع والطموحات" وفي نقاشات الجلسة الأُولى، وبعد أن تحدَّثتُ عن "أساليب تعزيز القيم لدى الأطفال"، قال لي أحد الحضور: "إنَّ ارتباطك الشخصي بالقيم كارتباط الإسوار بالمعصم"، ويعودُ ذلك لاهتمامي الشخصي بالقيم خاصَّةً بعد أن عُدتُ من دراساتي العليا في المملكة المتحدة منذ خمسة عشر عامًا.

ولعلَّ وجودي هناك لعدد من السنوات مكَّنني من المقارنة بين قيمٍ شرقيةٍ وغربيةٍ، فألَّفتُ هناك كتابي "قيم معطَّلة في المجتمعات العربية" وأصدرت لي وزارة التربية والتعليم جزأين من "قيم تربوية تعليمية"، كما أصدرتُ كتابي "في ظلال القيم"، وبعد عودتي مباشرةً شرعتُ في إعداد وتقديم برنامج "قيم" الذي قدَّمتُ منه 90 حلقة وبُثَّ في عددٍ من القنوات الفضائية في العالم العربي.

في الحقيقة إن مشروع القيم الذي اجتهدتُ فيه بدأ يؤتي ثماره مع إدراك مجتمعاتنا بأنَّ القيم هي أَساس هُويَّتها، وأنَّ أي جهدٍ لتعزيز الهوية دون تعزيز القيم هو جهدٌ ضائعٍ بلا جدوى، إنَّما التعزيز الحقيقي يكمنُ في التركيزُ على القيم السامية التي هي فطرتنا الزكية المصانة بالدين الإسلامي الحنيف "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" (آل عمران: 110).

إنَّ الطبيب النفسي الذي يشخِّصُ حالة مريضه ليبحثُ في العُمق عن أسباب العُقَد حتى يستطيع أن يعيدَ برمجة عقله إزاءَ المفاهيم المترسِّبةِ فيه بسبب المخلَّفات القديمةِ التي حولت الإشكاليات النفسية فيه إلى أزمات مزمنة، وهكذا هو الأمرُ مع القيم، إذ لا يمكنُ تعديلُ سلوكٍ، أو تغييرُ عادةٍ، إلا بفحصِ القيم العميقةِ بمفاهيمها في العقل الباطن، وهذا الأمرُ يحتاجُ إلى متخصصين حاذقين في تشخيص مثل هذه الحالات من مثل الأخصائيين النفسيين، أو المرشدين الاجتماعيين، أو المصلحين ذوي الاختصاص في المجتمع. أما النوع الأول والثاني فهما للحالات الفردية، في حين أن النوع الثالث يعالجُ المجتمع برمَّته.

والقيم الأصيلة هي وحدها التي تستطيع أن تحفظ هُويتنا من الهُزال والضعف إزاءَ ما تتلقاهُ اليوم من مهدِّدات خطيرةٍ منها تغريب اللسان العربي، وتفضيل الأجيال الناشئة للغة الأجنبية على لغتهم الأم، ويزداد الأمر فداحة أن أولياء الأمور في غاية السعادة لرطانة أبنائهم اللغة الإنجليزية وتأتأة ألسنتهم باللغة العربية الأم التي هي لغة آبائهم وأجدادهم، وهي اللغة التي شكَّلت هويتهم.

لقد بات من المؤكِّدِ دون أدنى شك بأنَّ هويتنا مستهدفةٌ في شتى عناصرها، وأول الاستهداف هو في دينها، ولغتها، وتاريخها، وأخلاقياتها، ولباسها، مع تغير الاستهدافات التي تنتقل بعضها من الظاهر إلى الباطن على سبيل المثال: القميص الحامل لصورة الجمجمة يسوقُ على أنه مجرَّدُ موضة لكنه يقودُ في النهاية إلى "عبادة الشيطان"!!، أما الانتقال من الباطن إلى الظاهر فيكون في التشكيك في المعتقد الديني حتى يصل إلى الإلحاد، أو يبدأ من تغريب اللسان حتى يصل إلى تغيير الأفكار أو العادات.

وما لم تستشعر مجتمعاتنا بهذه الأخطار فإنَّ الهدم القيمي لمجتمعاتنا يتم بطريقة هادئة، غير ملحوظة، كما تتنامى الشقوق في السدِّ العظيم حتى ينفجر!، لهذا على مجتمعاتنا أن تستنفر قُواها لتنقذ هويتها من الذوبان الذي تستهدفه العولمة ووسائلها المدمرة لهويات وأخلاقيات الشعوب.

لا يمكن لمجتمعاتنا أن تنام هانئة على منام المجد الأصيل للهوية العربية، وأصالة ونبل الشخصية العربية، في حين أن "بق الفراش الصغير" الذي لا يكادُ يرى بالعين المجرَّدة يتغذَّى من دمائنا ونحن نائمون دون أن نشعر! بل علينا أن ننتبه ونحذر ونبادر بالعمل الممنهج لا بالشعارات البراقة التي لا تغيِّر شيئًا.

إنها مهمَّة لا مناص منها إزاء القيم فلنقم بها سريعًا.

 

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

لولا كلمة..

تذهب الفكرة هنا إلى أمرين أساسيين؛ الأمر الأول: الالتزام «المادي» بما تعهد به المرء أمام الآخر من قول، وهي العلاقة التشاركية بينه وبين الآخرين من حوله، والأمر الثاني: الالتزام «المعنوي» بما تعهد به المرء أمام ذاته؛ وهي العلاقة الضمنية بينه وبين نفسه، وهذا الالتزام فـي كلا الحالتين، هو التزام يعبر عن مستوى عال من الصدق والأمانة، اللتين يتحلى بهما المرء، وهما الأمران اللذان يقاس عليهما الحقيقة الإنسانية التي يتحلى بها هذا المرء أو ذاك، ولأهمية هذا الأمر، فإنه لا يمكن أن يقاس على فترة زمنية معينة دون أخرى، بمعنى لا يمكن تعطيل هذه الحقيقة فـي فترة زمنية ما، على اعتبار أن الزمن تغير، وأن الجيل؛ ربما؛ قد تجاوز هذه الثقافة المتوارثة، ويحمل ذلك الزمن، حيث يقال: الزمن الآن لا يتسع لمثل هذه هذه المثاليات، فمثل هذه القناعات تتقاصر عن تأثير ثقلها على واقع الناس، فالناس ملتحمون بهذه المثل، مهما كان الزمن قاسيا فـي تجاوزها، حيث لا يمكن إنكار تأثيرها على حياة الناس فـي التعامل فـيما بينهم.

الكلمة سيف مسلط على رقاب العباد، مهما تغيرت ظروف الحياة، ومهما تبدلت القناعات بين الأفراد، فمسار العلاقات بينهم قائمة على كلمة، فالحق كلمة، والباطل كلمة، وما بين العفو والانتقام كلمة، وما بين الرضا والسخط كلمة، ولذلك يشدد فـي الماضي؛ كما هو الحال؛ فـي الحاضر على ضرورة حفظ اللسان، وعدم التفريط فـي القول، والأمثلة كثيرة، والمواقف أكثر فـي صور وقوع الناس فـي مآزق التفريط، وتحمل المسؤوليات؛ فقط؛ لأنهم لم يضعوا للكلمة حقها من الحذر والاحترام، والتقدير، «وهل يكب الناس فـي النار على وجوههم فـي النار أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم» - كما جاء فـي نص الحديث - يحدث هذا فـي وقت كان الخطاب مباشرا، وربما يحتاط الإنسان على نفسه كثيرا؛ خاصة؛ فـي المجالس العامة والخاصة، ومع ذلك فمأزق السقوط فـي كلمة غير مقصودة متوقع وبدرجة كبيرة، فالإنسان بطبيعته يحب أن يسمع له الآخرون، وأن يكون على قائمة المتحدثين، وأن يروي قصصا وأخبارًا - صدقا أو كذبا - لمن يستمع له، حيث تأخذه نشوة الحديث إلى عدم التفريق بين الخطأ والصواب فـي قول الجواب، فـيقع فـي المحظور.

فكيف الحالة الآن عبر وسائل التواصل المختلفة، عندما يكون الفرد منزويا مع ذاته، لا مشاركة مادية مباشرة ترسل له إشارات استفهام، أو تعجب، أو عدم استحسان، كيف الأمر الآن، والجميع يُنَظِّرْ على طول الأرض وعرضها، لا يفرق بين صالح وطالح، ولا بين صديق وعدو، ولا بين حاكم ومحكوم، ليس أمامه إلا تلك الشاشة الصغيرة يتفنن من خلالها إرسال التهم، والأباطيل، والقذف، والسب، واللعن، ولا يترك لنفسه مساحة للمراجعة، إلا بعد «وقوع الفأس على الرأس» حيث يثور هذا وذاك، وهذه وتلك، عليه، يطالبون بالقصاص من لسانه؛ الذي لم يوفر لهم مظلة للأمان، من جراء تسلسل التهم الباطلة، والله إنها لكبيرة من الكبائر، والناس عنها غافلون.

(لولا كلمة).. قد تردع هذه الكلمة سلوكًا؛ ربما سيكون شائنا؛ فـي حق آخرين، وربما قد يؤدي إلى ظلم آخرين، وربما قد يؤدي بآخرين إلى مهالك لا أول لها ولا آخر، كلمة حفظت سرا، وأغمضت عينا، وسَمَّرَتّْ قدما، وأحيت نفسا، وأوقفت حربا، وجلت قدرا، وأوقفت نزيفا، وحافظت على ماء وجه؛ كاد أن يراق على أرصفة الضياع.

هل الأمر صعب؟ قد يجاب بـ «نعم» وقد يجاب بـ «إطلاقا» وفـي كلا الحالتين يحتاج الأمر إلى كثير من الصمت، ومن السمت، ومن التعقل، ومن ممارسة ضبط النفس، فمآلات حصائد الألسنة - أغلبها - مصائب.

مقالات مشابهة

  • أمين البحوث الإسلامية: حماية الأوطان مرتبطة بصناعة أجيال تحفظ القيم وتتمسك بالعلم
  • لولا كلمة..
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • سفيرة الجامعة العربية أمام جثمان البابا فرانسيس: «تأثرت بشدة وذكرت اللحظة التي تحدثت فيها عن معاناة الفلسطينيين»
  • نهيان بن مبارك: القيم الإنسانية عناصر محورية في توجيه الذكاء الاصطناعي
  • ياسر سليمان: الجائزة العالمية للرواية العربية أصبحت المنصة التي يلجأ إليها الناشر الأجنبي
  • السيسي: التحديات التي يشهدها الاقتصاد العالمي تحتم تكثيف التعاون بين الدول العربية
  • المفتي من جامعة الصالحية الجديدة: إحياء القيم الأخلاقية ضرورة دينية
  • مفتي الجمهورية: القيم الإنسانية المشتركة بين الأديان جسرٌ للسلام ومصدرٌ لبناء الحضارات
  • مفتي الجمهورية: القيم الإنسانية المشتركة بين الأديان مصدر لبناء الحضارات