حين يصبح المدعي العام عدوًا.. ماذا يحدث مع كريم خان؟
تاريخ النشر: 19th, February 2025 GMT
في خطوة أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط القانونية والدبلوماسية، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية في الثالث عشر من فبراير/ شباط الجاري إدراج المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، على قائمة العقوبات الخاصة بمكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC).
تأتي هذه العقوبات استنادًا إلى الأمر التنفيذي الذي وقّعه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن فرض قيود على المحكمة الجنائية الدولية.
تشمل العقوبات الأميركية المفروضة على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، وفريقه عدة جوانب تهدف إلى عرقلة عمل المحكمة والحد من قدرتها على إجراء التحقيقات الدولية.
من بين هذه العقوبات تجميد الأصول المالية، حيث جُمدت جميع الأموال والممتلكات المرتبطة بهم داخل الولايات المتحدة، وأُمرت البنوك الأميركية بعدم التعامل مع أي حسابات أو معاملات تخصهم. كما شُددت الإجراءات عبر حظر التعاملات المالية والمصرفية، مما أدى إلى عزلة مالية خانقة للأفراد المشمولين بالعقوبات، حيث امتنعت المؤسسات المالية عن أي معاملات معهم.
إعلانإضافة إلى ذلك، فُرض حظر السفر والدخول إلى الولايات المتحدة، حيث تم إدراج كريم خان وعدد من أعضاء فريقه على قائمة الممنوعين من دخول الأراضي الأميركية، مما صعّب تحركاتهم الدبلوماسية والمهنية.
كما لم تقتصر العقوبات على الأفراد فقط، بل شملت إجراءات قانونية ضد المتعاونين، إذ يمكن ملاحقة أي مواطن أميركي أو مؤسسة أميركية تقدم دعمًا ماديًا أو قانونيًا للمحكمة، حتى لو كان ذلك عبر تقديم الأدلة أو الشهادات.
وعلى المستوى الدبلوماسي، فُرضت قيود صارمة على الاتصال الرسمي بين المسؤولين الأميركيين والمحكمة، مما أثر على التعاون القانوني والدبلوماسي بين الطرفين. كما تم تجميد التحويلات المالية المتعلقة بالمحكمة، مما أعاق قدرتها على تمويل تحقيقاتها وتعزيز استقلاليتها.
ولزيادة الضغوط، اعتُبر تقديم الدعم المالي أو المادي للمحكمة جريمة وفق القوانين الأميركية، مما يعرّض النشطاء والمحامين لخطر المساءلة القانونية في حال دعمهم للمحكمة أو المدعي العام.
لم تقتصر تداعيات هذه العقوبات على المحكمة نفسها، بل أثرت أيضًا على التعاون الدولي في مجال العدالة، حيث بدأت بعض الدول تتوخى الحذر في تقديم المعلومات أو الدعم خوفًا من الملاحقة أو العقوبات الأميركية.
تهدف هذه الإجراءات بمجملها إلى تقويض المحكمة الجنائية الدولية وإضعاف قدرتها على محاسبة المسؤولين عن الجرائم الدولية، مما يشكل تحديًا كبيرًا أمام تحقيق العدالة الدولية وترسيخ مبدأ المساءلة.
ما هي الأسباب المباشرة لفرض العقوبات؟تأتي العقوبات الأميركية على المدعي العام كريم خان في سياق تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في مجموعة من القضايا التي تتعلق بجرائم الحرب في فلسطين. وفي مارس/ آذار 2021، أعلنت المحكمة الجنائية الدولية أن لديها الاختصاص القضائي للتحقيق في الجرائم التي ارتكبت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة.
إعلانوفي مايو/ أيار 2024، قامت المحكمة بإصدار مذكرات توقيف ضد عدة شخصيات بارزة، بمن في ذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على خلفية اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
هذا الإجراء من قبل المحكمة أثار غضب الولايات المتحدة، التي تعتبر إسرائيل حليفًا إستراتيجيًا، مما أدى إلى فرض العقوبات كرد فعل على هذه التحقيقات والمذكرات التي تعتبرها واشنطن محاولة لتقويض تحالفاتها الدولية وتشويه سمعة حلفائها.
هذه العقوبات تمثل جزءًا من سياسة أميركية أوسع لحماية مصالحها، والتأكيد على أن العدالة الدولية يجب ألا تتعارض مع مصالحها الجيوسياسية.
وكونها المرة الأولى التي تصدر فيها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق قادة إسرائيليين، رغم كثرة الجرائم المرتكبة منذ عام 2002، وحتى يومنا هذا، فقد شكّل ذلك صاعقة وصدمة لكل من إسرائيل والولايات المتحدة على حد سواء.
فإسرائيل التي لطالما اعتبرت نفسها بمنأى عن المساءلة الدولية، وجدت نفسها أمام استحقاق قانوني غير مسبوق، فيما رأت واشنطن في هذا التطور تهديدًا مباشرًا لهيمنتها على النظام الدولي، خاصة أن المحكمة تحدّت علنًا الإرادة السياسية الأميركية الداعمة لإسرائيل.
لم تكن هذه المرَّة الأولى التي تفرض فيها الولايات المتحدة عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية. ففي عام 2020، فرضت إدارة الرئيس ترامب آنذاك عقوبات على المدعية العامة السابقة، فاتو بنسودا؛ بسبب تحقيقاتها حول الجرائم الأميركية في أفغانستان. وقد أدانت عدة دول ومنظمات حقوقية هذا الإجراء باعتباره سابقة خطيرة تهدد سيادة القانون الدولي.
هل تؤثر هذه العقوبات على عمل المحكمة الجنائية الدولية؟تؤثر العقوبات الأميركية على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، بشكل كبير على عمل المحكمة.
أولًا، تقلل من قدرتها على التحقيق في الجرائم الدولية، حيث تعتمد المحكمة على التعاون الدولي لتمويل تحقيقاتها وجمع الأدلة. إعلانتحليلات منظمة مثل "الاتحاد الدولي للمحامين" (IBA) أظهرت أن فرض العقوبات على مسؤولي المحكمة يقلل من الاستعداد لتقديم الدعم المالي أو اللوجيستي، مما يؤدي إلى تقليص نطاق التحقيقات.
ثانيًا، تردع هذه العقوبات الدول والمؤسسات عن التعاون مع المحكمة، كما يذكر تقرير من "هيومن رايتس ووتش" الذي يشير إلى أن الدول الصغيرة خاصة قد تخشى من الانتقام الأميركي، مما يقلل من قدرة المحكمة على تأمين الدعم والشهادات اللازمة.بالإضافة إلى ذلك، تشوه سمعة المحكمة الجنائية الدولية؛ ففرض العقوبات يمكن أن ينقل رسالة عن عدم الحيادية، مما يوفر للأنظمة المتهمة بجرائم حرب ذريعة لرفض التعاون، كما أكدت دراسة قامت بها "جامعة كولومبيا" حول آثار السياسات الدولية على العدالة الانتقالية.
أخيرًا، تهدد العقوبات استقلالية المحكمة، حيث يمكن أن تكون وسيلة للضغط غير المباشر لتقليل التحقيقات في قضايا حساسة، مما يضعف نزاهتها واستقلاليتها، كما يتضح من نقاشات أكاديمية حول الدور السياسي في القضاء الدولي من قبل "جامعة ليدن" في هولندا. جميع هذه العوامل تجتمع لتشكل تهديدًا لفاعلية وشرعية المحكمة الجنائية الدولية على المستوى العالمي.
كيف تعزز المواقف الدولية عمل المحكمة الجنائية الدولية رغم العقوبات الأميركية؟أثارت العقوبات المفروضة على كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، استنكارًا واسعًا من مجموعة واسعة من الجهات الدولية.
الاتحاد الأوروبي أعرب عن قلقه العميق، مشيرًا إلى أن هذه العقوبات تشكل تهديدًا خطيرًا لسيادة القانون الدولي، وأكد على أهمية الحفاظ على استقلال المحكمة لضمان قضاء عادل.
من جهتها، أكدت الأمم المتحدة في بياناتها أن المحكمة يجب أن تعمل بحرية دون تدخل سياسي، مؤكدة على أهمية تحقيق العدالة دون تأثيرات خارجية.
بالإضافة إلى ذلك، رفعت منظمات حقوقية – مثل هيومن رايتس ووتش وأمنيستي إنترناشيونال- صوتها ضد هذه العقوبات، ووصفتها بأنها هجوم غير مبرر على العدالة الدولية.
إعلانوقد أعربت جمعية الدول الأميركية (OAS) عن مخاوفها بشأن التأثيرات السلبية على النظام القانوني الدولي، مؤكدة على ضرورة احترام السيادة القضائية للمحكمة. كذلك، نددت جامعة الدول العربية بالعقوبات، مؤكدة على أهمية تعزيز القضاء الدولي كعامل للسلام والاستقرار.
هذه المواقف الدولية التي تدعم عمل المحكمة الجنائية الدولية ورغم أهميتها، يجب ألا تقتصر على الكلام فحسب بل ممارسة ضغط دبلوماسي على الولايات المتحدة لإعادة النظر في سياستها، وفي دعم مالي وتقني للمحكمة، وفي تعزيز التعاون الدولي معها لتنفيذ تحقيقاتها.
الأبعاد القانونية والدبلوماسيةمن الناحية القانونية، تتعارض العقوبات الأميركية على المحكمة الجنائية الدولية مع مبادئ أساسية في القانون الدولي العام، والتي تؤكد على احترام سيادة الدول واستقلال المؤسسات القضائية الدولية.
وفي هذا السياق، ينص ميثاق الأمم المتحدة على عدم جواز استخدام القوة الاقتصادية أو أي شكل آخر من أشكال الضغط للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، مما يجعل فرض العقوبات على المحكمة الجنائية الدولية عملًا يتنافى مع هذه المبادئ.
إضافةً إلى ذلك، يعد مبدأ استقلال القضاء الدولي جزءًا من القانون الدولي العرفي، كما أنه منصوص عليه في المعاهدات الدولية، بما في ذلك نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي يكرّس في مواده: (4، 40، و42) استقلال المحكمة وقضاتها ومدعيها العام عن أي تدخل سياسي أو ضغوط خارجية تعيق أداء مهامهم.
وبالتالي، فإن أي محاولة للتأثير على عمل المحكمة من خلال العقوبات أو التهديدات يمكن أن تُعتبر انتهاكًا لمبدأ استقلال القضاء الدولي وتقويضًا لمنظومة العدالة الجنائية العالمية.
علاوة على ذلك، قد تمثل هذه التدخلات إخلالًا بحقوق دولية أساسية، من بينها حق الوصول إلى العدالة الدولية، الذي يُعد من الركائز الجوهرية لضمان عدم إفلات مرتكبي الجرائم الدولية من المساءلة، كما تكرّسه معاهدات واتفاقيات دولية متعددة.
إعلانومن هنا، فإن العقوبات الأميركية لا تؤثر فقط على المحكمة الجنائية الدولية، بل تمتد آثارها إلى الضحايا والمجتمعات المتضررة، مما يعيق مسار العدالة الدولية، ويضعف الثقة في النظام القانوني العالمي.
من الناحية الدبلوماسية، تظهر هذه العقوبات تناقضًا واضحًا في سياسات الولايات المتحدة. واشنطن تؤكد دائمًا على أهمية حقوق الإنسان ومحاسبة المسؤولين عن انتهاكاتها، خصوصًا في تقاريرها السنوية، كما تظهر في إعلاناتها المتعددة مثل "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" الذي تدعمه الولايات المتحدة.
ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بجرائم مزعومة ترتكب من قبل حلفائها أو قواتها، تتبنى سياسة مناهضة للتحقيقات الدولية، مما يشكل تناقضًا واضحًا يمكن أن يضعف من مصداقيتها في دعم العدالة الدولية.
هذا السلوك يمكن أن يكون مثالًا على ما يُعرف بـ "السياسة الخارجية المزدوجة"، حيث تتناقض المبادئ المعلنة علنًا مع الممارسات الفعلية. هذا التناقض قد يؤثر سلبًا على قدرة الولايات المتحدة على تعزيز التزاماتها الدولية، ورفع قضايا حقوق الإنسان في المنظمات الدولية.
لا يعد فرض العقوبات الأميركية على المحكمة الجنائية الدولية قدرًا محتومًا، بل هو تحدٍّ يمكن التغلب عليه بإستراتيجيات متنوعة. من بين هذه الإستراتيجيات، يمكن إغراق المحاكم الدولية، ولا سيما المحكمة الجنائية الدولية، بالدعاوى المتعلقة بجرائم الحرب وأعمال الإبادة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لإبراز تعارض هذه العقوبات مع القانون الدولي وضرورة محاسبة المسؤولين.
كما يمكن توسيع هذا النهج ليشمل المحاكم الوطنية ذات الولاية العالمية، عبر رفع دعاوى تحرك تحقيقات أو محاكمات محلية حول الجرائم ذاتها، مما يضعف شرعية العقوبات ويظهر تناقضها مع الالتزامات الدولية.
ولتعزيز صمود المحكمة في مواجهة الضغوط، يمكن تفعيل التعاون الدولي عبر تقديم الدعم المالي والمؤسسي لها.
إعلانورغم التحديات، يبقى الإصرار على دعم العدالة الدولية راسخًا، إذ كما للظلم أنصار، فإن للحق أنصارًا يحملون العزيمة الراسخة والإرادة الصلبة، مؤمنين بأنه ما ضاع حق وراءه مطالب، لتظل العدالة صوتًا مسموعًا وقوة فاعلة في وجه كل الضغوط.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات المدعی العام للمحکمة الجنائیة الدولیة على المحکمة الجنائیة الدولیة العقوبات الأمیرکیة على الولایات المتحدة العدالة الدولیة القانون الدولی التعاون الدولی القضاء الدولی فرض العقوبات العقوبات على هذه العقوبات عمل المحکمة العقوبات ا قدرتها على على المدعی على أهمیة کریم خان إلى ذلک یمکن أن
إقرأ أيضاً:
«الفن.. ذلك الجرح الذي يصبح ضوءا»
كيف لنا أن نعيش من دون الفن، من دون الدراما؟
لا أتذكّر كم كان عمري حين أخذنا والدي إلى السينما فـي صلالة. فـي كل مرة أذهب فـيها وهي مرات قليلة لا تتجاوز أصابع الكف الواحدة، كنتُ أوقن أن ما يشدّني إلى الفـيلم، ليس فقط الصور والأبطال والحوارات، بل شيء أعمق، يتجاوز الشاشة. الخيال الهائل والحكايات المصوّرة لم تكن مجرّد تجربة سينمائية، بل انفتاحا على ما يمكن تسميته بالحياة التي هناك. ظللتُ أنصت إلى صوت الطفولة والمراهقة وتشكُّل الوعي، وجدت نفسي أتجه نحو نوع أدبي وفنيّ مشاكس، يشتبك مع تفاصيل الحياة ويعيد إنتاجها؛ فاخترت المسرح، هذا الفنّ الذي لا يُشبه سواه.
(*) المسرح فنّ الفعل، وفنّ الزوال
المسرح فنّ مركب وجهازه التكويني مرهق ومُرهف فـي آن معًا. هو فنّ يَحتفـي بالزوال، إذ يختفـي العرض فور انتهائه، ويظل أثره فـي الذاكرة والتجربة. السؤال الذي يتردّد داخلي هو: بمَ يختلف الواقع المجتمعي فـي السينما عن نظيره على خشبة المسرح، ربما يظل هذا السؤال حيًا ومُلحًا، لأن الإنسان بطبيعته مشتبك مع الحياة، ومتغيّر باستمرار. ومهما قُدمت الإجابات فـي الكتب والمراجع، فإن الخبرة الحيّة لها وزنها، والاحتكام إلى المعايير الثقافـية والتوجهات الفكرية تؤدي دورًا حاسمًا، كما أن إكراهات الواقع المجتمعي تفرض حيويتها.
حينما عرّفت الناقدة الفرنسية آن أوبرسفـيلد المسرح بأنه «فن مفارق»، كانت تؤكد أن جوهره يكمن فـي تناقضاته: فالممثل حاضر وغائب فـي الوقت نفسه، نحن نشاهده يؤدي شخصية خيالية، لكنه موجود أمامنا بجسده وصوته. هذا التوتر هو روح المسرح، وهو ما يجعل العرض أكثر من مجرّد تمثيل.
(*) الممثل، النص، الجمهور: تكسير الجدار الرابع
المسرح لا يقوم على النص وحده، بل على جدلية معقّدة بين المؤلف والمخرج، والممثل والجمهور. يقول الكاتب المسرحي داريو فو ساخرًا: «هذه المسرحية لديها عيب، إنها جميلة فـي القراءة». وهو بذلك يلخصُ الاشتباك الحاصل بين المؤلف والمخرج، بين النص والعرض، بين جمال اللغة وجمال التمثيل.
فـي المسرح، لا يتلفظ الممثل بكلمات فائضة، بل يصنع بالكلام فعلا. القول يتحول إلى حدث، والصوت إلى طقس، وهنا تكمن فرادة المسرح باعتباره «فن الفعل». الممثل فرد، لكنه حين يتفاعل مع الجمهور، يصبح جزءا من فعل جماعي، ويُهدم الجدار الرابع بين الخشبة والصالة. فـي هذا التداخل، تحدث الطقسية المسرحية، ويتحول العرض إلى فضاء مشترك بين الحقيقة والخيال.
المسرح فن مفارق أيضا فـي تمظهر فعل حوار الشخصيات فالممثل لا ينطق بكلمات لا معنى لها، أو كلمات فائضة، بل يخلق بالكلام فعلا يقدمه الممثلون فـي أجزاء عناصر العرض المسرحي ككّل، فالقول يغدو فعلا، ومن هنا جاء تعريف المسرح بأنّه فن الفعل. يقول تيمون الأثيني مخاطبا الذهب، فـيغدو الذهب شخصية فاعلة فـي العرض المسرحي وبناء الحدث الدرامي: «أيها الذهب اللامع! أيها المعدنُ الإلهي! يا مَن تُحوِّلُ الأسود إلى أبيض، والعدل إلى ظلم، يا من تُفسد الحكيم، وتُفسق العذراء، وتُقيم الحقير، وتُسقط النبيل، أيها الذهب، أيها الجحيم المضيء، كم تفعل!».
(*) الدراما والتراجيديا: صراع الأخلاق والمال
تأسرني شخصية أنتيغون وأعدّها نقطة مشرقة فـي سماء ما أنتجه الأدب الإغريقي من تراجيديات، إذا ما قورنت بأفعال ميديا الشنيعة. المسرح عند سوفوكليس ليس سردا للأحداث، بل كشفا للصراع الداخلي، وتحويلا لكل عنصر على الخشبة إلى فعل جماعي وطقسي غامض.
فـي مشهد من مسرحية أنتيغون، يكشف سوفوكليس قدرة المال على شراء الذمم. إذ تنبعث شكوك الملك كريون فـي أن حراسه قبضوا رشوة من المال للسماح بدفن أخيها بولينيس على نحو سري دون تقيدهم بقرار حظر دفنه حسب الطقوس الملكية. يقول كريون مخاطبا قائد الكورس: «... ما ازدهر بين الناس نظام أسوأ من نظام المال. إن المال هو الذي يُدمر الدول؛ وهو الذي يطرد المواطنين من بيوتهم، وهو الذي تُغري دروسه القلوب الشريفة، ويحملها على ارتكاب الأوزار. إنه يُعلمهم الجرائم كلها، ويُعلمهم الفسق الذي يتجاسر على كل شيء. لكن من يبيع نفسه، ويبلغ هذه الدرجة، سينتهي ذات يوم إلى أن يَنال العقاب...إلخ».
عن طريق هذا الفعل تتجلّى الدراما كمرآة للصراع الإنساني الدائر: بين الخير والشر منذ هابيل وقابيل، وبين الطمع والجشع وبين القناعة والقبول والاعتراض والرفض، وبين التسليم المناسب بالقدر للضمير الإنساني والتمرد. هذه الجدلية لا تقتصر على كريون، بل تمتد إلى تيمون الأثيني، إن أبشع ما فعله نحو الدراما الأخلاقية تمظهر فـي تحوله من محتقر للمال، إلى عابد له يوظفه فـي إفساد ضعاف النفوس، ويزرع الفوضى والكراهية التي قادت فـي نهاية المطاف إلى نهش جسد أثينا. إن وظيفة الفن بحسب (جورج براك) لا تقتصر على خلق التوازن بين الواقع والخيال، بل إن الفن، ذلك الجرح الذي يصبح ضوءا.
(*) الدراما: صيغة الحاضر الأبدية
الدراما ليست وصفة طبية علاجية، ولا خلطة أعشاب سحرية تباع عند العطّار، إنها أبعدُ من ذلك. الدراما فن الفعل وصيغة الحاضر الأبدية. إنها مساحة اعتراف وتحرر وتطهير. حين يصرخ الملك أوديب فـي وجه العالم الإغريقي معترفا: أنا القاتل! فإنّه يؤكد تلك الصيغة الحاضرة للدراما فـي تفاصيل حياتنا، وفـي مصيره قبل مصيرنا. أوديب لا يكشف عن مأساته فقط، بل يضعنا أمام مرآة الضمير الإنساني نفسه.
لا يكف الدرس الأكاديمي عن العودة إلى التراجيديا الإغريقية للبحث فـيها عن تجسيد التجارب الإنسانية فـي حاضرنا. تمظهر هذا الطرح مع (هيغل) فالتراجيديا فعل يُجسد تناقضات الصراع الأخلاقي والجدلي فـي اللحظة الحاضرة. تنبع قوة الدراما الكلاسيكية من تفاعلها مع المبدأ الأخلاقي دون أي تزعزع. ينطلق تيمون إثر خيانة أصدقائه له من الخير المطلق إلى الشر، وهو بتحوّله يدين المنظومة الأخلاقية لمجتمع أثينا (ق.م)؛ تلك المنظومة التي جعلت المال أساس العلاقات (نلمح جذور الميكيافـيلية). والملك كريون انطلق من منظومة الدولة فوق كلّ شيء، فالقوة الدرامية تتجلى فـي أن سقوط الشخصيتين نتجا عن تورطهما فـي مطلق أخلاقي عالٍ لا يلين. فـي مسرحية الاغتصاب لسعدالله ونوس التي تناولت الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي على اعتباره صراعا وجوديا أخلاقيا وإنسانيا، حيث نشاهد البطل ممزقا بين الحق الشخصي والحق الجماعي، كما أنتيغون.
يبدو كحقيقة واقعة، من موقف تيمون إلى كريون، ومن أنتيغون إلى أوديب، ومن داليا إلى خالد، ينجح المسرح فـي عرض سلسلة من الصراعات العميقة بين الحقوق، وليس فقط بين الخير والشر، ليقول لنا على نحو من الأنحاء: الفنّ ليس حلا لمشكلات المجتمعات، بل تفكير وسؤال دائم، وجرح يتوهّج.
هل نكون على خطأ حين يُحب البشر المال، ويتقاتلون من أجل حيازته؟ ألم يُزّين الله تعالى المال فـي الحياة الدنيا؟ التراجيديا الكلاسيكية تضع سؤال الأخلاق كمبدأ للصراع الجدلي، فالأخلاق تُنتج مأساة حين تؤخذ على إطلاقها دون وعي بالواقع وتحولات النفس البشرية.