لا ننسى، لا نغفر
في العام 1973 انتشرت صورة لطفلة فيتنامية وهي تركض عارية، وتصرخ مرعوبة من هول القذائف الأميركية التي انهمرت على قريتها، وكانت صورتها آنذاك من بين أهم الأسباب المباشرة لإنهاء الحرب على بلادها؛ نظراً لقدرتها الفريدة على تجسيد بشاعة الحرب.. إنها الفيتنامية «كيم فونك»، التي زارت الولايات المتحدة بعد سنوات طويلة على انتهاء الحرب، وهناك قابلها الطيار الأميركي جون بالامار (الذي قصف قريتها بقنابل النابالم)، صافحها باكياً طالباً الصفح، فما كان منها إلا أن قابلته بابتسامة، وقالت: «إن التسامح أقوى بكثير من أي سلاح في العالم».
صارت فونك سفيرة للنوايا الحسنة، وتدير جمعية لرعاية ضحايا الحروب من الأطفال.
وفي العام 2004 قُتل بمدينة الفلوجة العراقية الصحافي الياباني «هاشيدا». يُقال: إن الجماعات المسلحة المتطرفة هي التي قتلته، ويُقال أيضاً: إنه قضى نتيجة القصف الأميركي على المدينة. في الحالتين، فإن أرملته التي فُجعت بالنبأ لم تتوقف كثيراً عند مَن قتله، ولماذا؛ فهي تدرك أنه مثل ملايين غيره: ضحية الصراعات والحروب، وبدلاً من غرقها في دوامة الحقد والكراهية، بادرت لجمع تبرعات بلغت قيمتها 17 مليون دولار، لصالح بناء مستشفى للمدينة التي قتلت زوجها.
عندما زرتُ مدينة هيروشيما قبل سنوات، توقعتُ أن أجد فيها الروح العدائية تجاه أميركا، وذكريات الموت والدمار، لكني لم أجد شيئاً من ذلك، وهناك فهمتُ أن روح المدينة المفعمة بالحيوية والتجدد يعود الفضل فيها لجماعة تُعرف بـ»الهيباكوشا»، وهم ممّن نجوا من القنبلة الذرية التي ألقاها طيار أميركي على مدينتهم في آب 1945، هؤلاء رغم أنهم فقدوا أحباءهم وذويهم وخسروا صحتهم، إلا أنهم تغلبوا على العذاب واليأس وتمسكوا بإنسانيتهم، واختاروا الحياة، يحدوهم الأمل بمستقبل لا يعرف الحروب.
وفي أثناء مشاركتي بورشة عمل أقيمت مؤخراً في السويد، التقيت بأشخاصٍ من مختلف قارات العالم، من راوندا شاب من «الهوتو» وفتاة من «التوتسي» نسيا أن الصراع العنيف والدامي بين قبيلتَيهما أودى بحياة مليون إنسان في غضون مائة يوم في مستهل التسعينيات، ومع ذلك كادا يصبحا عاشقين. الكوري الشمالي الذي يضع على ياقته صورة رئيسه المحبوب، والكوري الجنوبي الذي يتباهى بالجالكسي تناسيا الصراع الدائر بين حكومتيهما وصارا صديقين. ثلاثة شبان من ثلاثة أقاليم مختلفة من الهند، لم نميز مَن منهم المسلم، ومَن الهندوسي، أو السيخي.. كانوا يتحدثون بصوت واحد، ويتفاخرون بوطنهم الكبير: «الهند». الشاب «الكوسوفي» والصبية «الصربية» تناسيا حروب البلقان قديمها وحديثها وكانا خير رفيقين. من نيجيريا التي تتعايش فيها الملل والطوائف بسلام، ويتحدثون بـ250 لغة كان أبناؤها يتحدثون فيما بينهم بالإنجليزية، وهم على قلب رجل واحد. السيدة الفيليبينية التي وُلدت بعد انتهاء الحرب على بلادها، لا تذكر منها شيئاً، ولا تعلم أن مدينتها «مانيلا» كانت أكثر مدينة في العالم تعرضت لأهوال الحرب على أيدي اليابانيين والأميركيين، وليس في قلبها حقد على أحد. من جنوب إفريقيا صديقتان: بيضاء وسوداء، كان واضحاً أنهما لا تحتفظان بشيء من ذكريات الحقبة العنصرية.
السويديون أنفسهم، بعد أن فتحوا حدود بلادهم للمهجَّرين واللاجئين والفارين من حروبهم.. ورغم ما عانوه من سلوكيات مشينة من قبل بعض المهاجرين؛ إلا أنهم ما زالوا مُرحِّبين، ولطفاء، يلقون الأجانب بابتسامة ودودة.
لقد عشنا طويلاً ونحن ضحية إعلام مضلل، إعلام هوليودي يصور شعوب العالم الثالث بأنهم على هامش الحضارة الغربية، وأن الإفريقيين شعوب غير متحضرة، وأميركا اللاتينية موطن الجريمة المنظمة، والهنود كسالى وبليدون، والمسلمين إرهابيون ويعشقون العنف.. في مقابل إعلام أيديولوجي لا يقل تضليلاً يزعم أن المجتمعات الغربية مفككة، وأنها لا تعرف الحياة الأسرية وعلاقات الحب والصداقة والجيرة، وأن الفساد الأخلاقي ينخرها.
عندما نخرج من قوقعتنا ونلتقي بالشعوب الأخرى، سرعان ما نكتشف أمرين: أن الإنسان هو الإنسان في كل مكان وزمان. نفس نقاط الضعف، والخجل والرغبات الدفينة، والحاجات البسيطة، بل ونندهش من عمق الصلات بينهم، ومدى التشابه بين الشعوب.. والاكتشاف الثاني (المخيف) أن كل ادعاءاتنا بأننا الأحسن، وأننا أصحاب الفضيلة والمجد والتاريخ ووو... ما هي إلا ترهات وأمانٍ.
نحن العرب، ما زلنا منقسمين بين سُـنّي وشيعي. وبين من يؤيد «مرسي»، ومن يؤيد «السيسي». وبين أنصار «الثورة السورية»، وأنصار «النظام». وبين «فتح» و»حماس». ولم نكتفِ بالانقسام والصراع على الحاضر، بل استحضرنا كل الثارات والأحقاد والصراعات التي مضى عليها أكثر من ألف عام، واستحضرنا معها كل أسباب الخلاف وإدامة النزاعات الداخلية.. ثم أجّجنا الكراهية، وافتتحنا موسماً جديداً من داحس والغبراء.
كل الشعوب تناست صراعاتها وثاراتها، ورمت ماضيها خلف ظهرها، وانطلقت نحو الفضاءات الرحبة، تصنع مستقبلها، إلا نحن، ما زالت الطائفة عندنا أهم من الوطن، والعشيرة أولى من الدولة، والتاريخ أهم من المستقبل، والكراهية تعلو على التسامح.
وما زالت مشاعر الحقد والانتقام ودعوات الثأر تسيطر على ثقافتنا وتهيمن على عقلنا الباطن، هذه المشاعر المريضة هي التي جعلتنا في هذه الوضعية المتدنية، وإذا لم نتجاوزها لن نتقدم خطوة واحدة، وسنظل في ذيل الأمم.
بقي في الكنانة سهم، الصهيونية جعلت الإسرائيليين حالة فريدة في التاريخ، بنموذج غير مسبوق من العنصرية والكراهية، وما فعلته إسرائيل طوال تاريخها الإجرامي، وبالذات في حرب الإبادة والتهجير، وما اقترفته من مجازر مروعة، وما تسببت به من معاناة وآلام، يجعل من المستحيل نسيانها.. وطالما هي قوة احتلال يتوجب مقاومتها بشتى السبل، ولكن المقاومة فعل إنساني نبيل، مجرد من نزعات الكراهية والحقد، هدفها دفع الظلم وطرد الاحتلال، وليس الثأر والانتقام.
المفارقة الوقحة، تمثلت في الشعار الذي وضعه السجانون الإسرائيليون على قمصان الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم «لا ننسى ولا نغفر»!! من الذي يجب ألا ينسى؟
ذكر صديقي معاوية تصريحاً لغولدا مائير، قالت فيه: «لن نسامح العرب لأنهم يجبرون أبناءنا على قتلهم»! بمعنى: غزة متهمة بأنها أجبرت أحفاد غولدا على قتل أبنائها، وعليه فإن غزة خدشت مشاعر الشعب الإسرائيلي.
إسرائيل احتكرت دور الضحية واستأثرت به، وحصّنته بترساناتها الإعلامية وأيديولوجية التوحش والعنصرية، وهي فوق اغتصابها للبلاد، وإمعانها في القتل ترفض أن يكون الفلسطيني هو الضحية! وبذلك تصل إلى أعلى درجات أيديولوجيا الحقد والعنصرية.
(الأيام الفلسطينية)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه فتح حماس الفلسطينيين غزة فلسطين حماس غزة فتح ترامب مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
«قرار رئاسي» بإغلاق وزارة التعليم الأمريكية.. الأسباب والعراقيل التي تواجه ترامب
في خطوة مثيرة للجدل، وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا بإغلاق وزارة التعليم الفيدرالية، في محاولة جريئة لنقل مسئولية التعليم بالكامل إلى حكومات الولايات والمجالس المحلية.
الخطوة التي اتخذها ترامب تعكس توجهًا محافظًا قديمًا يسعى لتقليص دور الحكومة الفيدرالية في التعليم، لكنها في الوقت نفسه تضع مستقبل النظام التعليمي في الولايات المتحدة على المحك.
الرئيس الأمريكي قالها صراحة: «سنغلقها - يقصد وزارة التعليم - وسنغلقها بأسرع ما يمكن. إنها لا تفيدنا بشيء».
هذا التصريح يعكس استراتيجية ترامب المعتادة في ممارسة الضغوط السياسية، حتى لو لم تُنفذ الخطة بالكامل على المستوى التشريعي.
قرار مثيرالأمر التنفيذي الذي وقعه الرئيس الأمريكي، رغم أهميته الرمزية والسياسية، لا يعني أن وزارة التعليم ستُغلق فعليًا، فتفكيك وزارة حكومية يتطلب موافقة الكونجرس.
ويحتاج التصويت لإغلاق وزارة التعليم إلى حوالي 60 صوتًا في مجلس الشيوخ، وهو سقف لا يمتلكه ترامب حتى مع سيطرة الجمهوريين على المجلسين.
بمعنى آخر، ترامب قد لا يحتاج إلى مصادقة الكونجرس، إذ يمكنه عمليًا تحقيق الهدف نفسه عبر إضعاف وزارة التعليم من الداخل.
ومع ذلك، فإن التأثير العملي قد يتحقق عبر تفريغ الوزارة من مضمونها من خلال تسريح الموظفين وتقليص الميزانية، وهو ما قد يؤدي إلى انهيار دورها الفعلي حتى إن لم تُغلق رسميًا.
وإغلاق وزارة التعليم قد يعيد رسم ملامح النظام التعليمي الأمريكي بطرق كبيرة، فمن دون الدعم الفيدرالي، ستجد المدارس العامة نفسها في مواجهة نقص حاد في التمويل.
وسيعمق تفاوت التمويل الفجوة بين الولايات الغنية، التي تستطيع تعويض هذا النقص بمواردها المحلية، والولايات الفقيرة، التي ستُترك لمصيرها.
المدارس العامةالتعليم ملفٌ سياسيٌ ساخنٌ في الولايات المتحدة، فالمحافظون يرون في سياسات التعليم الفيدرالية تدخلًا حكوميًا غير ضروري، ويؤمنون بأن التعليم يجب أن يُدار محليًا.
على الجانب الآخر، يعوّل أنصار العدالة الاجتماعية على برامج التمويل الفيدرالي لدعم المدارس العامة، خصوصًا في المناطق الفقيرة، وبرامج تعليم الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.
إضعاف وزارة التعليم يعني أن المدارس العامة ستواجه أزمة حقيقية في التمويل، ما سيؤثر على مستوى الخدمات التعليمية.
الدعم الفيدرالي يُستخدم في تمويل برامج التغذية المدرسية، وخدمات تعليم ذوي الاحتياجات الخاصة، وتطوير البنية التحتية، وتقليل كثافة الفصول.
وبالتالي، فإن توقف هذه المخصصات سيؤدي إلى تدهور الخدمات في المدارس العامة، خاصة في المناطق الفقيرة.
إغلاق الوزارة قد يعيد إنتاج تفاوت طبقي في النظام التعليمي، إذ ستتمكن الولايات الغنية من تعويض نقص التمويل عبر فرض ضرائب محلية أو زيادة المخصصات التعليمية.
وفي المقابل، ستعاني الولايات الأمريكية الفقيرة من تدهور مستويات التعليم بسبب غياب الدعم الفيدرالي.
القسائم التعليميةقد تشهد المدارس الخاصة ازدهارًا غير مسبوق، إذ إن إعادة توجيه الأموال الفيدرالية نحو برامج القسائم التعليمية سيعزز قدرتها على استقطاب الطلاب، تاركةً المدارس العامة تتراجع.
برامج القسائم التعليمية تُطبق في عدة ولايات، وتدعمها التيارات المحافظة باعتبارها وسيلة لتحرير التعليم من سيطرة الدولة.
لكن الديمقراطيين والليبراليين يعارضونها بشدة، معتبرين أنها تضعف التعليم العام وتزيد من الفجوة الاجتماعية.
تخصص الحكومة (الفيدرالية أو المحلية) مبلغًا ماليًا لكل طالب في إطار نظام التعليم العام، ويحصل أولياء الأمور على قسيمة (Voucher) تعادل هذا المبلغ (أشبه بالدعم النقدي).
وللأسر حرية الاختيار، حيث يمكن استخدام القسيمة لتغطية رسوم التعليم في أي مدرسة خاصة يختارونها، بدلًا من المدارس العامة المحلية.
هذه السياسة تعني أن المدارس الخاصة ستستفيد من التمويل الحكومي بشكل غير مباشر، بينما ستخسر المدارس العامة حصتها من هذه الأموال.
وبالتالي، فإن الأسر القادرة على تحمل فارق الرسوم ستتمكن من الاستفادة من القسائم، بينما ستظل الأسر الفقيرة عالقة في مدارس عامة تعاني من نقص الموارد.
مخاطر القسائمالفكرة تبدو وكأنها تمنح الأسر، خاصة ذات الدخل المنخفض، فرصة للهروب من قيود التعليم العام المتردي إلى خيارات تعليمية أخرى.
لكن هذا الحل الذي يبدو سحريًا يدمر المدارس العامة، حيث تذهب العائلات بأطفالها إلى المدارس الخاصة ومعها الأموال العامة التي كانت مخصصة للمدارس العامة.
وستخسر المدارس العامة معظم الطلاب بسبب القسائم التعليمية وسينخفض التمويل، وتتراجع الموارد، وبالتالي، مستوى التعليم العام المقدم للفقراء الذين يلتحقون بها.
كما تتسبب في عدم المساواة، حيث إن القسيمة قد لا تغطي كامل الرسوم الدراسية في المدارس الخاصة، ما يجعل الاستفادة منها مقتصرة على الطبقات القادرة على تعويض الفارق.
ويترتب عليها تسييس التعليم، لأن بعض القسائم تُستخدم في مدارس دينية، ما يثير جدلًا حول خلط الدين بالدولة.
والأخطر، غياب الرقابة، حيث لا تخضع المدارس الخاصة لنفس معايير المحاسبة والجودة المفروضة على المدارس العامة.
تحديات قانونيةالمعركة المتعلقة بإغلاق وزارة التعليم الفيدرالية قد تنتقل إلى ساحات القضاء، عبر الطعن على القرار التنفيذي باعتباره تجاوزًا لصلاحيات السلطة التنفيذية.
قانونيًا، ستكون المعركة معقدة، إذ إن تفكيك الوزارة يهدد مصالح قطاعات واسعة، من المعلمين إلى الطلاب وأولياء الأمور.
ويُحذر معارضون من أن تفكيك الوزارة إداريًا عبر تسريح الموظفين وتقليص المخصصات قد يُنتج أثرًا مشابهًا للإغلاق الكامل.
تأتي هذه الخطوة ضمن استراتيجية أوسع لترامب لإعادة تشكيل الحكومة الفيدرالية عبر تفكيك البيروقراطية، وهي سياسة تلقى ترحيبًا من القاعدة المحافظة.
وإضعاف وزارة التعليم يعني إعادة هيكلة العلاقة بين الحكومة الفيدرالية والولايات، وهو ما يعيد إنتاج فكرة "الفيدرالية التقليدية" التي تُفضّل سيطرة الولايات على الملفات الداخلية.
هل ينجح؟سيواجه ترامب مقاومة شرسة من الديمقراطيين، وربما من بعض الجمهوريين المعتدلين، وقد لا يتمكن من إغلاق وزارة التعليم فعليًا.
لكن تنفيذ القرار سيضعف وزارة التعليم عبر تفكيك وظائفها الأساسية، ما سيؤدي عمليًا إلى تقليص نفوذها.
وإذا نجح ترامب في تمرير هذه الاستراتيجية، فقد يشكل ذلك نقلة جذرية في بنية النظام التعليمي الأمريكي، تنقل التعليم من مسئولية الحكومة الفيدرالية إلى الولايات.
وقد يوسع الفجوات التعليمية والاجتماعية في أمريكا لعقود قادمة.
ما يفعله ترامب ليس مجرد قرار تنفيذي، إنه تحدٍ سياسي وهيكلي للنظام التعليمي الأمريكي بأكمله. وحتى لو لم يُغلق الباب قانونيًا، فإن تفريغه من مضمونه قد يحقق الأثر نفسه، تاركًا النظام التعليمي الأمريكي أمام مستقبل مجهول.