عربي21:
2025-02-20@23:06:05 GMT

هل ينجح ترامب في توحيدنا؟

تاريخ النشر: 19th, February 2025 GMT

لا ننسى، لا نغفر
في العام 1973 انتشرت صورة لطفلة فيتنامية وهي تركض عارية، وتصرخ مرعوبة من هول القذائف الأميركية التي انهمرت على قريتها، وكانت صورتها آنذاك من بين أهم الأسباب المباشرة لإنهاء الحرب على بلادها؛ نظراً لقدرتها الفريدة على تجسيد بشاعة الحرب.. إنها الفيتنامية «كيم فونك»، التي زارت الولايات المتحدة بعد سنوات طويلة على انتهاء الحرب، وهناك قابلها الطيار الأميركي جون بالامار (الذي قصف قريتها بقنابل النابالم)، صافحها باكياً طالباً الصفح، فما كان منها إلا أن قابلته بابتسامة، وقالت: «إن التسامح أقوى بكثير من أي سلاح في العالم».



صارت فونك سفيرة للنوايا الحسنة، وتدير جمعية لرعاية ضحايا الحروب من الأطفال.
وفي العام 2004 قُتل بمدينة الفلوجة العراقية الصحافي الياباني «هاشيدا». يُقال: إن الجماعات المسلحة المتطرفة هي التي قتلته، ويُقال أيضاً: إنه قضى نتيجة القصف الأميركي على المدينة. في الحالتين، فإن أرملته التي فُجعت بالنبأ لم تتوقف كثيراً عند مَن قتله، ولماذا؛ فهي تدرك أنه مثل ملايين غيره: ضحية الصراعات والحروب، وبدلاً من غرقها في دوامة الحقد والكراهية، بادرت لجمع تبرعات بلغت قيمتها 17 مليون دولار، لصالح بناء مستشفى للمدينة التي قتلت زوجها.

عندما زرتُ مدينة هيروشيما قبل سنوات، توقعتُ أن أجد فيها الروح العدائية تجاه أميركا، وذكريات الموت والدمار، لكني لم أجد شيئاً من ذلك، وهناك فهمتُ أن روح المدينة المفعمة بالحيوية والتجدد يعود الفضل فيها لجماعة تُعرف بـ»الهيباكوشا»، وهم ممّن نجوا من القنبلة الذرية التي ألقاها طيار أميركي على مدينتهم في آب 1945، هؤلاء رغم أنهم فقدوا أحباءهم وذويهم وخسروا صحتهم، إلا أنهم تغلبوا على العذاب واليأس وتمسكوا بإنسانيتهم، واختاروا الحياة، يحدوهم الأمل بمستقبل لا يعرف الحروب.

وفي أثناء مشاركتي بورشة عمل أقيمت مؤخراً في السويد، التقيت بأشخاصٍ من مختلف قارات العالم، من راوندا شاب من «الهوتو» وفتاة من «التوتسي» نسيا أن الصراع العنيف والدامي بين قبيلتَيهما أودى بحياة مليون إنسان في غضون مائة يوم في مستهل التسعينيات، ومع ذلك كادا يصبحا عاشقين. الكوري الشمالي الذي يضع على ياقته صورة رئيسه المحبوب، والكوري الجنوبي الذي يتباهى بالجالكسي تناسيا الصراع الدائر بين حكومتيهما وصارا صديقين. ثلاثة شبان من ثلاثة أقاليم مختلفة من الهند، لم نميز مَن منهم المسلم، ومَن الهندوسي، أو السيخي.. كانوا يتحدثون بصوت واحد، ويتفاخرون بوطنهم الكبير: «الهند». الشاب «الكوسوفي» والصبية «الصربية» تناسيا حروب البلقان قديمها وحديثها وكانا خير رفيقين. من نيجيريا التي تتعايش فيها الملل والطوائف بسلام، ويتحدثون بـ250 لغة كان أبناؤها يتحدثون فيما بينهم بالإنجليزية، وهم على قلب رجل واحد. السيدة الفيليبينية التي وُلدت بعد انتهاء الحرب على بلادها، لا تذكر منها شيئاً، ولا تعلم أن مدينتها «مانيلا» كانت أكثر مدينة في العالم تعرضت لأهوال الحرب على أيدي اليابانيين والأميركيين، وليس في قلبها حقد على أحد. من جنوب إفريقيا صديقتان: بيضاء وسوداء، كان واضحاً أنهما لا تحتفظان بشيء من ذكريات الحقبة العنصرية.

السويديون أنفسهم، بعد أن فتحوا حدود بلادهم للمهجَّرين واللاجئين والفارين من حروبهم.. ورغم ما عانوه من سلوكيات مشينة من قبل بعض المهاجرين؛ إلا أنهم ما زالوا مُرحِّبين، ولطفاء، يلقون الأجانب بابتسامة ودودة.

لقد عشنا طويلاً ونحن ضحية إعلام مضلل، إعلام هوليودي يصور شعوب العالم الثالث بأنهم على هامش الحضارة الغربية، وأن الإفريقيين شعوب غير متحضرة، وأميركا اللاتينية موطن الجريمة المنظمة، والهنود كسالى وبليدون، والمسلمين إرهابيون ويعشقون العنف.. في مقابل إعلام أيديولوجي لا يقل تضليلاً يزعم أن المجتمعات الغربية مفككة، وأنها لا تعرف الحياة الأسرية وعلاقات الحب والصداقة والجيرة، وأن الفساد الأخلاقي ينخرها.

عندما نخرج من قوقعتنا ونلتقي بالشعوب الأخرى، سرعان ما نكتشف أمرين: أن الإنسان هو الإنسان في كل مكان وزمان. نفس نقاط الضعف، والخجل والرغبات الدفينة، والحاجات البسيطة، بل ونندهش من عمق الصلات بينهم، ومدى التشابه بين الشعوب.. والاكتشاف الثاني (المخيف) أن كل ادعاءاتنا بأننا الأحسن، وأننا أصحاب الفضيلة والمجد والتاريخ ووو... ما هي إلا ترهات وأمانٍ.

نحن العرب، ما زلنا منقسمين بين سُـنّي وشيعي. وبين من يؤيد «مرسي»، ومن يؤيد «السيسي». وبين أنصار «الثورة السورية»، وأنصار «النظام». وبين «فتح» و»حماس». ولم نكتفِ بالانقسام والصراع على الحاضر، بل استحضرنا كل الثارات والأحقاد والصراعات التي مضى عليها أكثر من ألف عام، واستحضرنا معها كل أسباب الخلاف وإدامة النزاعات الداخلية.. ثم أجّجنا الكراهية، وافتتحنا موسماً جديداً من داحس والغبراء.

كل الشعوب تناست صراعاتها وثاراتها، ورمت ماضيها خلف ظهرها، وانطلقت نحو الفضاءات الرحبة، تصنع مستقبلها، إلا نحن، ما زالت الطائفة عندنا أهم من الوطن، والعشيرة أولى من الدولة، والتاريخ أهم من المستقبل، والكراهية تعلو على التسامح.

وما زالت مشاعر الحقد والانتقام ودعوات الثأر تسيطر على ثقافتنا وتهيمن على عقلنا الباطن، هذه المشاعر المريضة هي التي جعلتنا في هذه الوضعية المتدنية، وإذا لم نتجاوزها لن نتقدم خطوة واحدة، وسنظل في ذيل الأمم.

بقي في الكنانة سهم، الصهيونية جعلت الإسرائيليين حالة فريدة في التاريخ، بنموذج غير مسبوق من العنصرية والكراهية، وما فعلته إسرائيل طوال تاريخها الإجرامي، وبالذات في حرب الإبادة والتهجير، وما اقترفته من مجازر مروعة، وما تسببت به من معاناة وآلام، يجعل من المستحيل نسيانها.. وطالما هي قوة احتلال يتوجب مقاومتها بشتى السبل، ولكن المقاومة فعل إنساني نبيل، مجرد من نزعات الكراهية والحقد، هدفها دفع الظلم وطرد الاحتلال، وليس الثأر والانتقام.

المفارقة الوقحة، تمثلت في الشعار الذي وضعه السجانون الإسرائيليون على قمصان الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم «لا ننسى ولا نغفر»!! من الذي يجب ألا ينسى؟

ذكر صديقي معاوية تصريحاً لغولدا مائير، قالت فيه: «لن نسامح العرب لأنهم يجبرون أبناءنا على قتلهم»! بمعنى: غزة متهمة بأنها أجبرت أحفاد غولدا على قتل أبنائها، وعليه فإن غزة خدشت مشاعر الشعب الإسرائيلي.

إسرائيل احتكرت دور الضحية واستأثرت به، وحصّنته بترساناتها الإعلامية وأيديولوجية التوحش والعنصرية، وهي فوق اغتصابها للبلاد، وإمعانها في القتل ترفض أن يكون الفلسطيني هو الضحية! وبذلك تصل إلى أعلى درجات أيديولوجيا الحقد والعنصرية.

(الأيام الفلسطينية)

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه فتح حماس الفلسطينيين غزة فلسطين حماس غزة فتح ترامب مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

قيود الحقد وحرية التسامح

بقلم : اللواء الدكتور سعد معن ..

لم يكن الصراع بين التسامح والحقد يومًا صراعًا خارجيًا بين الإنسان وخصمه، بل هو صراع داخلي، معركة تدور في أعماق النفس بين الأنا المتعطشة للانتقام ، وبين العقل الذي يدرك أن الاستمرار في الحقد لا يفضي إلا إلى مزيد من المعاناة. فالإنسان يعيش ممزقًا بين غريزته الأولى التي تدفعه إلى رد الإساءة بمثلها، وبين وعيه الذي يفرض عليه التفكير بما هو أبعد من اللحظة الآنية. وبين هذين القطبين، يجد نفسه أسيرًا لصراع لا ينتهي إلا بقرار حاسم: إما أن يتحرر أو أن يبقى عالقًا في دوامة الغضب.

يرى علي الوردي أن الإنسان كائن تحكمه التناقضات، فهو يقدّس الانتقام باسم الكرامة، لكنه في الوقت ذاته يعظّم قيم العفو والتسامح. هذه الازدواجية ليست وليدة العقل، بل هي نتاج بيئة اجتماعية زرعت في الأفراد فكرة أن التسامح ضعف، وأن المسامح يُنظر إليه على أنه منهزم حتى لو كان يملك القوة على الرد. وهكذا يتحول الحقد إلى أداة لإثبات الذات، لا لأن صاحبه بحاجة إليه، بل لأنه يخشى أن يظهر متسامحًا فيُساء تفسير موقفه. وهذه العقدة ليست فردية، بل هي جزء من النسيج الثقافي الذي يُطبع به الإنسان منذ صغره، حيث يتعلم أن القوة في التشبث بالأذى، لا في التخلي عنه.

علم النفس يرى أن الحقد ليس مجرد مشاعر، انما هو منظومة عقلية وسلوكية تنمو داخل الفرد بفعل التجارب المتكررة……وفقًا لنظرية سيغموند فرويد، فإن الإنسان عندما يتعرض للأذى ولا يجد طريقة فورية للانتقام، فإنه يكبت غضبه ليعود لاحقًا في شكل كراهية عميقة تجاه المعتدي، وأحيانًا تجاه العالم كله. هذه الكراهية تتحول إلى نمط تفكير، حيث يصبح الدماغ مبرمجًا على استدعاء الألم كلما فكر في الشخص الذي أساء إليه. في المقابل، التسامح ليس مجرد قرار أخلاقي، بل هو عملية عقلية تحتاج إلى جهد واعٍ لإعادة برمجة العقل ليكفّ عن استرجاع الإساءة وكأنها حدثت للتو.

علم الأعصاب يؤكد أن الدماغ البشري يتأثر بالحقد كما يتأثر بالخوف، فاستمرار الشعور بالغضب يحفز اللوزة الدماغية، مما يؤدي إلى زيادة إفراز هرمونات التوتر كالكورتيزول، والتي تؤثر سلبًا على صحة الإنسان الجسدية والنفسية. الإنسان الحاقد يعاني من توتر دائم، من تراجع في جودة النوم، من ضعف جهاز المناعة، وحتى من اضطرابات القلب، بينما الشخص المتسامح يتمتع بقدرة أكبر على التعامل مع ضغوط الحياة، لأن ذهنه غير مثقل بالمشاعر السلبية التي تستنزف طاقته.

التسامح ليس استسلامًا، هو قرار يتطلب قوة داخلية هائلة. مصطفى محمود يرى أن التسامح ليس فضيلة أخلاقية فحسب، بل هو فلسفة حياة، حيث يدرك الإنسان أن الانتقام لا يغيّر الماضي، وأن أفضل انتصار على الظلم هو أن يواصل المرء حياته دون أن يسمح للأذى بأن يعيد تشكيله وفق مقاييس المعتدي. الحاقد يظن أنه يمتلك زمام الأمور لأنه لم ينسَ الإساءة، لكنه في الحقيقة أسيرها، بينما المتسامح هو من يكسر القيد ويمضي خفيفًا، لا يحمل أعباء لا حاجة له بها.

حين يتصارع العقل والقلب، يكون القرار بين أن يغفر الإنسان ليحيا، أو أن يحتفظ بحقده ويموت ببطء. الأنا تحب الحقد لأنها تراه وسيلة لحماية كرامتها، لكنها لا تدرك أنها بهذا الحقد ترهن نفسها لمن أساء إليها، وكأنها تمنحه سلطة مستمرة عليها. في حين أن القوة الحقيقية ليست في الانتقام، بل في القدرة على التجاوز دون أن يفقد الإنسان كرامته أو ذاكرته. التسامح ليس نسيانًا، لكنه قرار بأن لا يكون الماضي قيدًا يكبّل الروح، خاصة وان كل الأشياء في هذه الدنيا هي افتراضية و وهم زائل من المال والمنصب والجاه وغيرها ،وأن لا يتحوّل الإنسان إلى صورة مشوهة ممن أساء إليه. ففي النهاية، لا ينتصر في هذه المعركة إلا من امتلك القدرة على التحرر وادرك ان متغيرات الحياة كثيرة ومستمرة وداوم الحال من المحال.

د. سعد معن

مقالات مشابهة

  • كواليس الـ48 ساعة التي انقلب فيها ترامب على زيلينسكي
  • قيود الحقد وحرية التسامح
  • ترامب: الحرب العالمية الثالثة ليست بعيدة لكني سأمنعها لأنني أريد السلام
  • ترامب يصف زيلينسكي بالديكتاتور وسط مخاوف من خلاف بينه وبين الرئيس الأوكراني
  • هل آن الأوان لأوروبا أن تستعيد بوصلتها ومكانتها في العالم؟!
  • زيلينسكي يسخر من ترامب: "استبدالي لن ينجح أبداً"
  • زيلينسكي يرد على ترامب بصرامة: من يريد استبدالي لن ينجح أبدا
  • ترامب يحمل أوكرانيا مسؤولية الحرب التي دمرت أراضيها ويدعو لإجراء انتخابات
  • صحافة العالم.. مصر تضع خطة لإعادة إعمار غزة في مواجهة دعوة ترامب لإخلاء القطاع من سكانه