اليمن الراتب.. المحنة، ومعضلة الاستقرار!
تاريخ النشر: 22nd, August 2023 GMT
بقلم/ انور العنسي
بينما يتباهى الكثير من دول العالم بارتفاع متوسط مستوى دخل سكانها لايزال مفهوم (الراتب) عند اليمنيين من سكان المدن الذين لا أرض زراعية تجود بما يقتاتون عليه في معيشتهم هو ذلك الأجر الزهيد الذي يتقاضاه إما مقابل عمله في الخدمة العامة كموظف أو عسكري أو جابي زكاة أو حتى فقير كطالب علم في المساجد أو حتى كمعدم تتصدق عليه بيوت الأغنياء من الحكام والتجار بما يفيض عن حاجتها.
ولم تتطور (فكرة) الراتب كوسيلة تجعل الناس يعيشون عند حدٍ معقول من الكفاف إلاَّ حين جاء العثمانيون بمشروع الأفران التي انشأت لتأمين حاجة الجُند والجندرمة ومن كان يعمل معهم، وذلك من (الكُدَم) وهو الخبز المعجون بخليط من الشعير والقمح والذرة، وتوزيع ما فاض عن حاجتهم للأسر الكفيفة والمعوزة والضعيفة الحال.
ولم يتغير الأمر إلى الأسوأ إلاَّ عندما غادر العثمانيون اليمن وتحولت (الكدمة) إلى سلاح بيد (الإمام) الذي ورث العهد العثماني بعد أن كان يتقاضى (راتباً) نقدياً وعينياً منه إلى مالكٍ للغلال المخزونة في حصون وقلاع الوالي العثماني وأخذ يستخدمها كوسيلة لإخضاع الشعب، من عامة وقبائل، لسلطته الجديدة.
ووفق ما ذكره مؤرخون عديدون فقد وصل التقتير في حرمان الناس من صرف مخزون تلك الغلال حد أن أكل السوس قسماً كبيراً منها، وبلغ الجوع عند بعض سكان تهامة مثلاً، وهي الأرض الأكبر إنتاجاً وتصديراً للحبوب إلى مخازن الإمام ، إلى درجة أجبرتهم على النزوح إلى صنعاء ، زرافات ووحداناً ، للاستغاثة بأمير المؤمنين الذي لم يكلف نفسه أكثر من الظهور عليهم من شرفة قصره قائلاً لهم بعد مكابدة انتظار طويلة أمام مقامه "من عاش فهو عتيق ومن مات فهو شهيد"!
نقلاً عن المشهد اليمني
المصدر: سام برس
إقرأ أيضاً:
الأمام الصادق المهدي: فالعنقاء أكبر أن تصادا
أثارت ردود فعل في أوساط حزب الأمة على الخطاب الذي ألقاه السيد عبد الرحمن الصادق المهدي في مسجد الأنصار بود نوباوي في يوم الجمعة الماضي سقمي القديم من حزب الأمة. فقد ساءني منذ حين، بفطرة المؤرخ، أن معادلة الحزب-الجماعة الدينية (الأنصار) قد اختلت، وغلب الحزب على الجماعة الدينية التي خرج من رحمها في العبارة الشائعة. فلست من حزب الأمة، ولكن جماعة الأنصار كيان انتمى له كسائر السودانيين بصورة أو أخرى. فاشتغالي بالتاريخ إلى يومنا بدأ بكتابة “الصراع بين المهدي والعلماء” (1968) التي استحسنها الناس وعلى رأسهم استاذي مكي شبيكة. وصرت مؤرخاً من يومها. لم احتج لحزب الأمة، بل وللمفارقة، كتبت كتابي نفسه عن حجة المهدي الثورية في وجه تنطع علماء النظام التركي من باب مقاومة الحزب الذي ضلع في حل حزبنا الشيوعي في 1956. وهذه كلمة قديمة علقت فيها على خطبة للأمام الصادق المهدي تجد فيها نازعي لإعلاء الانصارية على الحزب (بل حله) فيما سميته “المهدية الثالثة”.
كان خطاب السيد الصادق المهدي مساء السبت الماضي (ضاع مني التاريخ، ولكنه في نحو عام 2011)، كما أحسن وصفه فيصل محمد صالح، عودة إلى منصة التأسيس في المشروع المهدوي وهي الأنصار. كان عودة للإمام إل “قندهاره”. فكانت المناسبة أنصارية خاطبها إمامها واحتشدت لها الجماعة بسهر هيئة شؤون الأنصار وبآلية وكلاء الإمام. وكانت هداياها أنصارية مثل تذكيرها بشرعيتها الأولى في ثورة جده، وببشارتي البقعة والجزيرة أبا الجديدتين، ونجاحات مجلس حل الهيئة وعقدها ومكتبها التنفيذي. وكانت هذه العودة لمنصة التأسيس واجبة لأمرين. أولهما خروج بني عمومة الإمام من مثل نصر الدين الهادي ومبارك الفاضل مع الجبهة الثورية يبتغون سنداً من الأنصار في حقول المهدية التاريخية في جبال النوبة ودار البقارة. فزعم نصر الدين الهادي مثلاً أنه مهدي الجبهة الثورية بخروجه من جبل قدير الشهير في جبال النوبة. أما الأمر الثاني فقد كان اللقاء لماً لشعث حزب الأمة الذي طغت صورته على القندهار الأنصاري. فالحزب تفرق أيدي سبأ حتى أنه يعمل اليوم بدون أمانة عامة، أو بأمانة مشاكسة ناهيكم عن التيار العام والمادبوز والقيادة الجماعية وهلمجرا.
واضح خمول ذكر حزب الأمة في خطاب الأمام. فأقصى المطلوب منه، في قوله، أن يستعد لنظام جديد ويلتزم فيه برأي محدد. وبدا لي أن أعضاء مخالفين للإمام هتفوا حين عرض للحزب فألتمس منهم أن يستمعوا له لا أن يُسمِعوا. ونبه إلى أن الحزب لن تتخطفه الأجندة الطائشة. فظل الحزب “يشد ويلين” على مر الزمن انقلع الطغاة الذين أرادوا به شراً وظل كالطود بفضل قوة قيادته وحكمتها. واستهدى الإمام من لم يرغب بالعمل في إطار رشد القيادة أن يذهب “والباب يفوت جمل”.
لو كنت بين حشد البقعة والإمام خطيباً لتمثلت بالحلفاوي في الطرفة الشائعة. فقد منح الأزهري حلفاويين إجازة لغد زيارته لهم لحسن استقباله فطلب منه الحلفاوي أن لو ألغى رمضان . . . كمان. وكنت هتفت: “وحزب الأمة كمان يا ريس”. فقد ظللت لسنوات أدعوه لتنشئة الأنصارية الثالثة العاقبة لأنصارية جده الأكبر الأولى وجده المباشر الثانية. فالأنصارية عندي كيان أعظم خطراً من حزب الأمة. فهي استثمار تاريخي وتربوي سوداني جامع لغمار الناس من كل فج. وضمت أهل البادية بشكل خاص ممن لا وجيع لهم حتى تورطوا في “الجنجويدية” والمراحيل في الملابسات المعروفة. واستحق الأنصار من إمامهم عناية مستديرة بحيواتهم أفضل مما سمحت به أنصارية الإمام عبد الرحمن التي أحصتهم، سياساً عدداً، كمجرد أصوات لحزب الأمة. ولذا تساءلت يوماً، وأنا أعرض كتاباً قيما للإمام الصادق، إن كانت هناك جامعة للأنصار تسرب بالموالاة معانيه الحسان عن مسائل المسلمين إلى أفئدة غمار الأنصار مع الراتب العذب.
أما حزب الأمة فقد دخله الذي لا يتداوى. فقد ظل يستقوي به من لا قاعدة له بين الشعب منذ طلائع المتعلمين في مؤتمر الخريجين حتى صغار البرجوازيين المستفحلين على أيامنا هذه. وحوّل هؤلاء المتعلمون زعيم الأنصار إلى “مقاول أنفار”، في وصف دقيق للترابي، يجيش لهم الأصوات والساحات. وصغار البرجوازيين هذه طبقة وصفتها بأنها “كديسة أم خيط” سياسياً. وتقال العبارة في الذي يتغشى الأبواب. فهي جماعة مودراليها حزب. وتغشى أحزاب الجمهرة الدينية عن يأس من أحزابها الصغيرة الفاشلة حاملة مطلب “المؤسسية” كجرثومة لا منهجاً في العمل. ولم نر منها مع ذلك المؤسسية حيث أتفق له إنشاء حزب من أحزابها الصغيرة.
ومرحباً بالأنصارية الثالثة بعد خطاب الإمام.
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتساب