غزة- بقدم واحدة وعكازتين، كان سامح سرور يقف بعيدا عن أقربائه، الذين يحفرون في القبر الذي دفنت فيه قدمه وجثمانا شقيقه وعمه قبل 4 أشهر، في فناء منزل في بيت لاهيا، خلال حصار شمال القطاع الأخير.

وخلال فترة استخراج جثثهم لنقلها إلى مقبرة شرعية في مشروع بيت لاهيا، ظل سامح متوجسا يحاول صرف نظره، خشية أن يلمح ما ينكأ جرحه الذي لم يندمل بعد!

وهي ذات الوقفة التي تنحى فيها هاشم القيشاوي جانبا، وهو ينفذ وصية شقيقه الصحفي حسن قبيل استشهاده، الذي طلب منه إن ارتقى أن يُدفن مع شقيقهما محمود، الذي استشهد عام 2015 في مهمة عسكرية، حيث لم يستطع هاشم تنفيذ وصية أخيه خلال فترة الحرب، لخطورة الوصول إلى مقبرة الشيخ رضوان حيث قبر أخيهما، فدفنه في أرض لأحد الجيران بشكل مؤقت.

20 يوما بين الدفنين المؤقت والدائم، لم يتوقف خلالها نزف الشهيد حسن، ويقول هاشم للجزيرة نت "خلال النقل أبصرت دم حسن الذي يملأ كفنه وما زال ينزف، وحين فتحنا قبر أخي محمود فاحت في الأرجاء رائحة طيبة مع رفعنا للبلاطة الأولى لقبره، رغم ارتقائه قبل 10 أعوام!".

وقد تعمد هاشم التعجيل بنقل جثمان شقيقه قبل عودة أهله من جنوب القطاع حيث كانوا ينزحون، كي لا يعيد فتح مواجع والديه اللذين لم يودعاه أو يشهدا دفنه الأول.

العديد من سكان قطاع غزة اضطروا لدفن ذويهم في مقابر مؤقتة بسبب صعوبة الوضع الأمني (مواقع التواصل) هروب من المواجهة

يبدو فتح قبور الشهداء لنقلهم من مقابر عشوائية ومؤقتة إلى مقابر شرعية فتحا لعزاء جديد، فهو يعيد تفاصيل الفقد ويثير شجون ذويهم، وهذا ما مرت به عائلة الشهيدة نسيبة قريقع، التي اضطرت لنقل جثمان طفلتها من ساحة مستشفى المعمداني إلى مقبرة شرعية، بعد قرار إدارة المشفى إخلاء القبور العشوائية المتناثرة في ساحاتها.

إعلان

وتقول أم نسيبة للجزيرة نت "أتى الوقت الذي كنت أخشاه منذ اليوم الأول لدفن نسيبة، كنت أحاول الهروب من التفكير في هذا الأمر، لكنني سأضطر لمواجهته".

وترنحت أم نسيبة في صراع بين رغبتها الشديدة بأن تلمس طفلتها مرة أخرى، وبين خوفها مما فعله القبر بها، كما تقول إنهم بالكاد وجدوا قبرا صغيرا فارغا لابنتها في مقبرة ابن مروان، بجوار قبر الشهيد الصحفي إسماعيل الغول، الذي كانت تحبه جدا وتجلس عنده يوميا، خاصة أنها كانت نازحة في المستشفى المعمداني الذي كان مكان إقامته الدائم.

كما يروي طارق الدقس للجزيرة نت تفاصيل نقل جثمان خالته المؤلمة، حيث استشهدت في مخيم جباليا، ودفنت حينها في مقبرة عشوائية في بيت لاهيا، وبعد 4 أشهر من الدفن المؤقت، نقلتها العائلة إلى مقبرة شرعية، ليلاحق الاحتلال جثمانها مرة أخرى ويجرّف المقبرة، فيعاودوا دفنها للمرة الثالثة، وفي كل مرة كانت تبدو وكأنها المرة الأولى، و"حملت وجع الدفن الأول"، كما يقول.

أصدقاء الشهيد رفعت العرعير تمكنوا من نقله إلى مقبرة شرعية دائمة بعد 14 شهرا من الدفن المؤقت (مواقع التواصل) مهمة البحث

عقب انتهاء الحرب، تكشف جانب آخر من المعاناة، حيث كانت مهمة البحث عن جثمان الشهيد الدكتور رفعت العرعير الذي ارتقى قبل 14 شهرا عسيرة على أصدقائه، فقد دفنه سريعا الجيران المحيطون بمكان استشهاده خلال الحرب في مقبرة مجاورة، نظرا للوضع الأمني المعقد.

ومع انتهاء الحرب، حمل عاصم النبيه وأصدقاء العرعير همّ البحث عنه وتنفيذ وصية والدته "أريحوه في قبره"، فبدؤوا بتقصي مكان دفنه الذي استغرق منهم أسبوعين من البحث المضني، قرؤوا فيها أسماء مئات الشهداء على الأوراق المثبتة على القبور أو على شواهدها، إلى أن عثروا على أحد الأشخاص الذين شاركوا في دفن الشهيد ودلهم على مكانه.

ويقول عاصم، وهو صديق العرعير المقرب، "شاركت في الحفر لاستخراج جثمانه، كان ملفوفا في غطاء شتوي، لا في كفن أبيض، تختلط أشلاؤه مع أشلاء 3 آخرين من أفراد عائلته".

إعلان

أما التفاصيل الشعورية والأسى الذي رافق عملية الانتشال والنقل، فأشفق عاصم أن يرويها "كي لا يتسلل أذاها لمن يقرأها" كما يقول، لكنه في المقابل يشعر بالارتياح لأنه أكرم صديقه بالدفن بمكان لائق في حي الشجاعية الذي ترعرع فيه وأحبه.

عشرات العائلات القادمة من جنوب القطاع تتخذ من أطراف المقابر أماكن لنزوحها (الجزيرة) سكنوا المقابر

شهدت حرب الإبادة في قطاع غزة سابقة باستهداف وتجريف مقابر الأموات والشهداء، بحجة البحث عن جثث الأسرى الإسرائيليين، حيث قامت إسرائيل في مرتين سابقتين بإعادة عشرات الجثامين وهي بحالة التحلُّل الكامل، دون أي قدرة على تحديد هوياتهم، فدُفنوا بمقابر جماعية.

كما أنه ولأول مرة، تتحول المقابر لأماكن تنصب فيها خيام النازحين، وتجولت الجزيرة نت في مقبرة ابن مروان التي تنزح على أطرافها عشرات العائلات التي عادت من جنوب القطاع ولم تجد مأوى لها.

وتقول أم محمد القصاص للجزيرة نت "لم أتخيل يوما أن يحضر لي طفلي عظمة تعثر بها خلال لعبه بالرمل، اكتشفنا أنها لميت كان مدفونا في المقبرة!"، وتصف أم محمد الحياة هنا "بالمرعبة" خاصة مع حلول الليل وانتشار الكلاب، لكن لا مكان بديل يلجؤون إليه، كما يقولون.

وبينما تنصب عشرات العائلات خيامها على أطراف المقابر، تحولت مقبرتا التوانسة والدرامشة في حي الشجاعية بشكل كامل لأماكن نزوح نصبت فيها الخيام، حيث أقرت لجنة الاجتهاد الشرعية بإمكانية استخدامها بعد تجريف الاحتلال المتكرر لها.

مقبرة ابن مروان أصبحت مأوى للعائلات القادمة من جنوب القطاع (الجزيرة) وضع مؤلم

وبينما تنقل العائلات جثامين شهدائها بقرار فردي منها، إما نحو قبور أقرباء لهم قضوا قبل سنوات، أو بشراء قبور بمبالغ مكلفة، فإن وزارة الأوقاف تقول للجزيرة نت إن "مساحات شاسعة من الأراضي بالقرب من السياج الشرقي الفاصل، ستكون أكبر مقبرة شرعية لنقل جثامين الشهداء، لكن توتر الوضع الأمني في تلك المنطقة يؤخر هذه العملية".

وحتى هذه اللحظة، لا تزال جثامين الشهداء متناثرة في الطرقات والمدارس والمرافق العامة والشوارع، بالإضافة إلى أكثر من 14 ألفا أخرى لا تزال تحت الأنقاض، والتي صارت رفاتا وبقايا عظم، حيث يجد الدفاع المدني نفسه عاجزا عن انتشالها.

إعلان

ويقول المتحدث باسم الدفاع المدني محمود بصل للجزيرة نت إنه "حتى اللحظة لا يزال قطاع غزة في انتظار وصول عدد كاف من المعدات الثقيلة، اللازمة لإزالة الركام وانتشال الشهداء".

وقال بصل إنه ومنذ بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار، فإن "طواقم الدفاع المدني تمكنت من انتشال أكثر من 500 شهيد على مستوى قطاع غزة، عدد كبير منهم كان مجهول الهوية، خاصة من كانوا موجودين في منطقة محور نتساريم والمناطق الشمالية لمدينة رفح".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات من جنوب القطاع للجزیرة نت قطاع غزة فی مقبرة

إقرأ أيضاً:

الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية: مبادرة مغربية تكتسب شرعية دولية متصاعدة.

مقال رأيأمام الزخم الدولي المتزايد الذي يشهده مقترح الحكم الذاتي المغربي في الأقاليم الجنوبية، تبرز المملكة المغربية كطرف مسؤول وواقعي، يسعى إلى طي صفحة نزاع مفتعل طال أمده، وفتح آفاق جديدة للاستقرار والتنمية في منطقة حيوية واستراتيجية من القارة الإفريقية.

ويأتي هذا التحول الدولي في سياق الاعتراف المتنامي بشرعية المقترح المغربي، وعلى رأس هذه المواقف، يبرز اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب الكاملة على أقاليمه الجنوبية، وهو الاعتراف الذي تم الإعلان عنه رسمياً في دجنبر 2020، وأُعيد التأكيد عليه من قبل الإدارة الأمريكية الحالية، سواء عبر تصريحات لوزارة الخارجية أو مواقف دبلوماسية رسمية متكررة.

هذا الاعتراف التاريخي يمثل تحولا استراتيجيا في تعاطي القوى الكبرى مع النزاع الإقليمي، ويؤكد أن مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية تشكل الحل الواقعي والوحيد لإنهاء النزاع المفتعل، وهو ما يعكس وعياً دوليا متناميا بضرورة تجاوز الأطروحات الانفصالية، وتغليب منطق الحلول التوافقية في احترام تام لسيادة الدول ووحدتها الترابية.

وقد أعطى هذا الدعم الأمريكي دفعة قوية للمبادرة المغربية، حيث تبنت فرنسا، العضو الدائم في مجلس الأمن موقفا يعترف للمغرب بسيادته على صحراءه، وتبنت نفس الموقف الأمريكي أيضا باعتبار الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية حلاً جدياً وذا مصداقية. أما إسبانيا، بصفتها القوة الاستعمارية السابقة، فقد شكل تغيير موقفها خطوة بالغة الأهمية، باعتبارها المقترح المغربي القاعدة الأكثر واقعية ومنطقية لتسوية النزاع، في تراجع واضح عن مواقف ضبابية سابقة.

وتجدر الإشارة إلى أن أكثر من ثلاثين دولة من أوروبا ، أسيا ، إفريقيا وأمريكا اللاتينية قد افتتحت قنصلياتها في مدينتي العيون والداخلة، في خطوة عملية تؤكد اعترافها بسيادة المغرب، وتعكس دعما ملموسا لمبادرة الحكم الذاتي باعتبارها الإطار الأمثل لتسوية النزاع المفتعل.

في المقابل، نجد الجزائر تعيش حالة من العزلة الدبلوماسية المتفاقمة، بعد أن أصبحت مواقفها خارج سياق التحولات الدولية الجارية. وقد اكتفت وزارة خارجيتها، بعد التأكيد الأمريكي الأخير على الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء، ببيان باهت يعكس حالة ارتباك وتراجع عن سياسة المواجهة التي اعتادت عليها كلما تعلق الأمر بمواقف داعمة للمغرب. وهو ما يكرس القناعة المتنامية بأن الجزائر تتهرب من الاعتراف بدورها الفعلي في تأجيج النزاع.

ويبقى من الضروري التأكيد على أن الأمم المتحدة ومجلس الأمن هما الإطار الشرعي والوحيد لمعالجة هذا الملف، بعيداً عن محاولات الجزائر و”البوليساريو” توريط هيئات إقليمية في نزاع لا يعنيها، وهو ما يتطلب بلورة إرادة دولية حقيقية لإنهاء هذا الملف المزمن، على أساس حل يحترم السيادة المغربية ويحقق المصالحة الوطنية.

و ينبغي التأكيد مجددا على أننا، نحن أبناء الأقاليم الجنوبية، لا نؤيد هذا المقترح من موقع الانتماء الجغرافي فقط، بل من منطلق قناعة راسخة بعدالة المبادرة المغربية، وقدرتها على إنهاء معاناة آلاف العائلات الصحراوية التي تمزقت أوصالها بين الوطن الأم ومخيمات تندوف والشتات بعدة مناطق من دول العالم.

اليوم، نعيش واقعا مغايرا يثبت صواب خيار الحكم الذاتي، في ظل دولة ذات مؤسسات قوية، يقودها جلالة الملك محمد السادس، الذي يستمد شرعيته من البيعة وإجماع الشعب، ويقود مشاريع استراتيجية كبرى في إطار النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، من ضمنها ميناء الداخلة الأطلسي، المشروع الضخم الذي يعرف نسبا متقدما في الإنجاز والذي سيربط دول الساحل بالمحيط، في إطار المبادرة الملكية لتسهيل ولوح دول الساحل والصحراء للأطلسي، والتأسيس لنموذج متفرد للتعاون جنوب – جنوب يقوم على أساس الشراكة والتضامن وفق منظور يحقق الربح للجميع ويعزز الأمن ويكافح التطرف ويؤسس لمستقبل زاهر و مستقر في المنطقة، ويجعل من الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية منصة اقتصادية وقارية فاعلة.

و يبقى السؤال الحاسم مطروحاً أمام المجتمع الدولي:
ألم يحن الوقت بالفعل لكي يتحمل مسؤوليته الأخلاقية والسياسية في إنهاء معاناة عشرات الآلاف من الأسر الصحراوية التي ما زالت تعيش في ظروف إنسانية قاسية؟

إن أبناء الصحراء لا يزالون يعانون من تفرقة أسرهم، ويعيشون في مخيمات تندوف بالجزائر بعيدا عن وطنهم، بينما تظل القوى الكبرى بعيدة عن إيجاد حل يحقق العدالة لهم، ويوقف هذا النزاع المفتعل الذي لا يخدم إلا مصالح ضيقة لا تواكب متغيرات العصر.

لقد حان وقت اتخاذ القرار الجريء، ودعم خيار الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل واقعي وجذري، ينهي معاناة الصحراويين ويحقق الاستقرار والتنمية للمنطقة.

مقالات مشابهة

  • الحرب تحوّل مطار الخرطوم إلى مقبرة طائرات
  • قيادي بحماس للجزيرة: المقترح الذي نقلته مصر لنا يشمل إطلاق سراح نصف أسرى الاحتلال بالأسبوع الأول من الاتفاق
  • هيئة البحث عن المفقودين تعثر على رفات 3 جثامين مجهولة الهوية في زلة
  • ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية.. جراح مفتوحة في بيوت أهالي المفقودين
  • 25279 فتوى شرعية عبر 5 قنوات خلال رمضان
  • برباعية.. نيوكاسل يعمق جراح مانشستر يونايتد في الدوري الإنكليزي
  • الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية: مبادرة مغربية تكتسب شرعية دولية متصاعدة.
  • وولفرهامبتون يعمق جراح توتنهام هوتسبير برباعية في الدوري الإنكليزي
  • كيف يحتجز الاحتلال جثامين الشهداء كورقة مساومة سياسية؟ خبير يجيب الجزيرة نت
  • لعازر الذي أقامه المسيح.. الكنيسة تحتفل بذكراه السبت السابق لأحد الشعانين