من مداخل الفهم في الإصلاح هو ذلك المدخل اللغوي والأنساق المرتبطة به. ويمكن تعريف "النسق اللغوي" بأنه انتظام مجموعة من الدلالات أو الإشارات اللغوية في بنية واحدة. وإذا كانت اللغة لفظ ومعنى، وكل دراسة لغوية لا بدّ أن يكون موضوعها الأول والأخير هو المعنى وارتباطه بأشكال التعبير المختلفة، وبما أنّ الارتباط بين الشكل والوظيفة هو اللغة وهو صلة المبنى بالمعنى، فإن ارتباط الدّلالة بالأنظمة اللغوية المختلفة هو ما يعكس نسقيّة اللغة، وما ينصرف إلى ماهية النسق اللغوي، وأنواعه، وتجلّياتها الدّلالية.



ويعد الاشتقاق أحد أهم مسالك أن الزيادة في المبنى زيادة في المبنى ضمن ما يمكن تسميته بالسعة الاشتقاقية وما يترتب عليه من اتساع دلالي. والاشتقاق ظاهرة لغوية في اللغة العربية، وهو مصدر من مصادر استخراج الكلمات والمفردات اللغوية في اللغة العربية. وكثيرا ما نرى أن معظم الكلمات يمكننا أن نشتق منها أكثر من كلمة، كما نكتشف أنها ذات أصل واحد، ولها معنى تشترك فيه، وهنا تأتي وظيفة الاشتقاق في اللغة، حيث إنه بواسطته نتعرّف على مفردات اللغة التي تضيف الثروة اللغوية القيمة.

الاشتقاق لغة؛ اشتق الكلمة من الكلمة: أخرجها منها؛ واصطلاحا: هو أخذ كلمة أو أكثر من كلمة أخرى. الاشتقاق: يقول صاحب التعريفات في كتابه "هو نزع لفظ من آخر بشرط مناسبتهما معنى وتركيبا ومغايرتهما في الصيغة"، وكما يقول الثعالبي "الاشتقاق من سنن العرب". مع الاشتقاق يظهر اجتماع الألفاظ أي الكلمات، فيفسره الفيروز آبادي في قاموسه بقوله: "الكلمات في اللغة العربية لا تعيش فرادى منعزلات بل مجتمعات مشتركات كما يعيش العرب في أسرٍ وقبائل. وللكلمة جسم وروح، ولها نسب تلتقي مع مثيلاتها، فتشترك هذه الكلمات في مقدار من حروفها وجزء من أصواتها".

كلمة صلح في هذا الجذر الثلاثي لا تغادر تلك السنن والقوانين اللغوية والدلالية، فهي تكون أسرة ممتدة وعائلة منتسبة وتوليدات مشتقة؛ ومن أفراد أسرتها الصلاح والإصلاح والاستصلاح؛ والصلاحية والمصلحية والمصلحة والمصالح؛ والتصالح والمصالحة وإصلاح ذات البين؛ والإصلاح والمصلح والصالح والصلوح والمصلوح؛ والإصلاحات. وهو جذر غني ليس فقط في مبانيه، ولكنه ثري في معانيه المشتركة والمفترقة والمرتبطة والمنتسبة، وكلها تشير الى مستويات عدة وأدوار منشدة الى بعضها فتتكافل رغم تمايزها وتتكامل رغم اختلافها وتأتلف رغم تنوعها.

وإذا كان المدخل اللغوي يقوم بدور تأسيسي في عملية التنسيب والتوليد اللغوي؛ فإن الدور الرحمي والتراحمي في الثنائيات المقترنة والمتزاوجة لا المتصارعة والمتنافية والمتناقضة تشكل مدخلا إضافيا لفهم الإصلاح والسياسة عندما يتزاوجا سكنا ومودة ورحمة؛ لذا ليس من المصادفات ذلك الارتباط الكيان بين مفهومي الإصلاح والسياسة، حتى أنه يمكننا القول إن مفهوم السياسة مسكون بتضميناته الإصلاحية، ومفهوم الإصلاح مصبوغ بمكنوناته ودلالاته السياسية.

وفي تعريف استثنائي للسياسة ومعاني صناعة السياسة يؤكد أبو زيد البلخي؛ أن المادة في السياسة أمور الرعية التي يتولى الملك القيام بها، والصورة فيها إنما هي المصلحة التي ينحو بفعله نحوها وهي نظير الصحة، لأن المصلحة هي صحة ما، والصحة مصلحة ما، وكذلك المفسدة سقم ما، والسقم مفسدة، والفاعل هو عناية الملك بما يباشره من أمور الرعية، وغرضه فيما يفعله هو بقاء المصلحة ودوامها، والشيء الذي يقوم له مقام الآلة في صناعته إنما هو الترغيب والترهيب.

وفعل السائس الذي هو نظير المعالجة من الطبيب ينقسم بكليته إلى قسمين: أحدهما التعهد، والآخر الاستصلاح. أما التعهد فحفظ المستقيم وأمور الرعية على استقامة وانتظام من الهدوء والسكون حتى لا يزول عن الصورة الفاضلة، وأما الاستصلاح فرد ما عارضه منها الفساد والاختلال إلى الصلاح والالتئام. ونظير هذا التعهد والاستصلاح في صناعة السياسة من صناعة الطب -التي هي صناعة الأجساد- حفظ الصحة وإعادة الصحة، وكما أن الطب كله مدرج في هذين البابين، كذلك السياسة كلها مدرجة في نظيريهما، يعني التعهد والاستصلاح.

أما السياسة فشرعية، عادلة، وصلاح في مواجهة فساد؛ وهي من مخرجات الشريعة؛ ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالاتها وأنها لغاية مصالح العباد، في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يفصل بين الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، وعرف أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها، ووضعها مواضعها، وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر بعين الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها.

وقال ابن عقيل في الفنون جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الجزم، ولا يخلو من القول به إمام، فقال الشافعي لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط، وتغليط للصحابة. وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيّعوا الحقوق وجرأوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنه حق مطابق للواقع، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع.

ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى ولاة الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة؛ أحدثوا من أوضاع سياستهم شرا طويلا وفسادا عريضا، فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك واستنقاذها من تلك المهالك.

وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلا الطائفتين أُتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتبه، فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه. والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة، فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له، فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات.

والمقصود أن هذا وأمثاله (من أفعال الخلفاء الراشدين) سياسة جزئية بحسب المصلحة يختلف باختلاف الأزمنة فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة. ولكل عذر وأجر، ومن اجتهد في طاعة الله ورسوله فهو دائر بين الأجر والأجرين. وهذه السياسة التي ساسوا بها الأمة وإضعافها هي من تأويل القرآن والسنة، ولكن هي من الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة من السياسات الجزئية التابعة للمصالح فيتقيد بها زمانا ومكانا. وهذا كما لو كان للناس عدة طرق إلى البيت وكان سلوكهم في تلك الطرق توقعهم في التفرق والتشتيت ويطمع فيهم العدو، فرأى الإمام جمعهم على طريق واحد فترك بقية الطرق جاز ذلك ولم يكن فيه إبطال، لكون تلك الطرق موصلة إلى المقصود وإن كان فيه نهي عن سلوكها لمصلحة الأمة. والذي اختص به إياس وشريح من مشاركتهما لأهل عصرهما في العلم الفهم في الواقع والاستدلال بالأمارات وشواهد الحال، وهذا الذي فات كثيرا من الحكام فأضاعوا كثيرا من الحقوق.

وبالنظر العميق في تعريف السياسة في الرؤية الإسلامية نلحظ أن هذا التعريف فضلا عن أنه يعيد الاعتبار لمفهوم السياسة ويجعل من اتساعه ورحابته حالة بنيانية لازمة أصلية في داخلية المفهوم غير طارئة عليه من خارجه، بحيث تستوعب المستحدث من تحيل أو ميل أو انحراف أو توظيف أو تبرير، واقع الأمر أن هذا المفهوم وجد عناصر رسوخه ضمن "صبغة" وصيغة" المقاصد. فالسياسة على قول الإمام ابن القيم فيما ينقله عن أستاذه ابن عقيل "ما كانت معه الأمور أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد"، ومناقضة السياسة بمفهومها القيمي تعني أن تكون حال ممارستها أقرب إلى الفساد وأبعد عن الصلاح بمفهوم المخالفة، إنه "السوس" الذي ينخر في الكيان فيفسده ويهدمه.

والمقاصد -وفق هذه الرؤية- تصبغ وتصوغ مفهوم السياسة على شاكلة العشرية المقاصدية؛ القيام على الأمر بما يصلحه: مقدمات ومقومات ومكونات، ومجالات، وحفظ، وأولويات، وموازين، وواقع، ومناطات ومآلات، ووسائل، قيم وسياقات. والسياسة -وفق هذا التصور- ليست فنا أو أسلوبا أو صراعا، بل هي رعاية متكاملة من قَبِل الدولة والفرد لكل شأن من شئون الجماعة.. والسياسة -وفق هذه الرؤية- تتصف بالعموم والشمول، فهو مفهوم يخاطب كلَّ فرد مكلَّف بأن يرى شئونه ويهتم بأمر المسلمين، بل يمارس عمارة الكون في سياق وظيفته الاستخلافية.

وعلى ما يؤكد "الراغب"، فإن السياسة -وفق هذا التصور- تستند في تكييفها إلى حقيقة "الاستخلاف"، ذلك أن الفعل المختص بالإنسان على ثلاثة أنحاء:

1- عمارة الأرض المذكورة في قوله تعالى: "وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (هود: 61)، وذلك تحصيل ما به تزجية المعاش لنفسه ولغيره.

2- وعبادته المذكورة في قوله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " (الذاريات: 56)، وذلك هو الامتثال للباري عز وجل بإطاعة أوامره ونواهيه.

3- وخلافته المذكورة في قوله تعالى: "وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" (الأعراف: 129)، وذلك هو الاقتداء بالباري سبحانه على قدر طاقة البشر في السياسة باستعمال مكارم الشريعة.. إن الخلافة تُستحق بالسياسة، وذلك بتحري مكارم الشريعة (أصولها القيمية). والسياسة ضربان: أحدهما سياسة الإنسان نفسه وبدنه وما يختص به، والثاني سياسة غيره من رعيته وأهل بلده. ولا يصلح لسياسة غيره من لا يصلح لسياسة نفسه "لاستحالة أن يهتدي المسوس مع كون السائس ضالا..".

لا شك أن تعريفا يأخذ بحسبانه كل تلك المعايير والأصول القيمية يمكن أن يحرك عناصر جدول أعمال بحثي يختلف -إلى حد كبير- في موضوعاته وصياغته وقضاياه، وأن إخراج "السياسي" و"الدولي" من دائرة القيم أسهم -بدوره- في تبسيط المعقد واختزال الفعل الحضاري المرتبط بهذا الحقل، فإن عمق الفعل السياسي يكمن في القيم الكامنة فيه والمحركة له، وهو ما يحرك أصولا داعمة للفعل الحضاري العمراني، ضمن علاقات يمكن أن تشكل أصولا تقويمية لحركة النظام داخليا كان أم دوليا؛ مركزيا كان أم غير مركزي؛ في مساراته ونمط تفاعلاته وعلاقاته.

وليس ذلك من عيوب تأسيس العلم أو تكوينه، ولكن هو -في حقيقة الأمر- يضمن عملية الوصل بين العلم ووظائفه، وبين العلم وغاياته ومقاصده؛ فيكون الإصلاح في جوهره سياسة وتدبيرا؛ والسياسة في مكنونها ومقاصدها إصلاحا وتغييرا وتأثيرا، إنه المشتل اللغوي الذي يضيف إلينا المعاني الناهضة في مشاتل الإصلاح والتغيير؛ فتكون السياسة تعريفا ومقاما؛ قياما على الأمر بما يصلحه.

x.com/Saif_abdelfatah

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الإصلاح السياسة المصلحة مصالح سياسة إصلاح مصالح تغيير مفاهيم مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی اللغة

إقرأ أيضاً:

احتجاجات إسرائيلية تتكاثر… لكن التغيير يراوح مكانه

توالت هذا الأسبوع في إسرائيل العرائض، التي تطالب بالتوصل إلى صفقة فورية تعيد المحتجزين وتنهي الحرب في غزّة. ووفق إحصائيات موقع «ريستارت- إزرائيل»، وصل عدد العرائض إلى 37 عريضة وبلغ عدد الموقعين عليها ما يزيد عن 110 آلاف من اليهود الإسرائيليين، من بينهم ما يزيد عن 11 ألف جندي وضابط احتياط من مختلف الفرق العسكرية البرية والجوية والبحرية والاستخباراتية واللوجستية والإدارية.

وجاء هذا السيل من العرائض في أعقاب صدور مذكّرة وجهها حوالي ألف ضابط وجندي وطيار من سلاح الجو الإسرائيلي إلى الحكومة، وتضمّنت دعوة لوقف الحرب وتحرير المحتجزين، ووجهت اتهاما بأن استئناف الحرب جاء لخدمة أغراض شخصية وحزبية، وليس لاعتبارات أمنية، أو لتسهيل إطلاق سراح المحتجزين.

وجاء رد نتنياهو غاضبا، ووصف الموقّعين بأنهم أقلية هامشية وأعشاب ضالّة ويخدمون «العدو»، وأعلن رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال إيال زامير، وقائد سلاح الجو تومير بار عن إنهاء مشاركة الموقّعين في قوّات الاحتياط، وتوقعا أن تقطع هذه الخطوة الطريق أمام المزيد من العرائض.

على عكس ما توقّع نتنياهو وقيادة الجيش، أدّت إقالة الطيارين وطواقم سلاح الجو، الذين وقّعوا على عريضة الدعوة لوقف الحرب واستعادة المحتجزين، إلى سيل من إعلانات الدعم من قبل نخب أمنية وسياسية وثقافية إسرائيلية، ويتتالى إصدار عرائض مماثلة من ضباط وجنود احتياط وضبّاط في الشاباك والموساد والشرطة ومن أكاديميين وفنانين وأدباء وأطباء ومهندسين وعائلات ثكلي وعائلات المحتجزين.

لكن هذا الفيض من العرائض، لم يثن نتنياهو عن مواصلة العدوان فهو يعتبر كل من وقّع على العرائض عدوّا له ويفسّر المطالبة بإنهاء الحرب بأنّها نوع من العصيان، ودعوة لرفض الخدمة العسكرية. ومع كل الضجيج، بقي الاحتجاج القديم والجديد مراوحا تحت عتبة التأثير الفعلي على القرار السياسي – الأمني في إسرائيل، لكنّه، بطبيعة الحال، قابل للتصعيد أو للخفوت تبعا للمتغيّرات المحلية والإقليمية والدولية.

يستدل من عشرات الاستطلاعات، التي أجريت في الأشهر الأخيرة، أن الغالبية الساحقة من الإسرائيليين يؤيّدون مبدأ «تحرير جميع المحتجزين بثمن وقف الحرب».
وبموازاة صخب المظاهرات والعرائض، تتوسع ظاهرة الاحتجاج الصامت، تشير التقارير، التي نشرها الإعلام الإسرائيلي، إلى أن نسبة حضور قوات الاحتياط للخدمة العسكرية هي حوالي 50% فقط، بعد أن وصلت إلى 130% في الأشهر الأولى للحرب. هناك أسباب متعددة لهذه الظاهرة، لكن أكثر ما تخشاه القيادة العسكرية في إسرائيل هو توسّع حالة «رفض الخدمة الصامت»، التي تقلّص إمكانيات الاستناد إلى قوات الاحتياط وإلى جاهزيتها القتالية على جبهات غزة والضفة ولبنان وسوريا. 
وفي ظل «أزمة الاحتياط»، التي تتمثل في التهرّب من الخدمة وإعلان الآلاف من الجنود والضباط عدم اقتناعهم بالحرب، بدأ الجيش الإسرائيلي باستبدال فرق الاحتياط في غزة بفرق نظامية، وقلّص إلى حد كبير استدعاء قوات الاحتياط للخدمة. ووفق بعض التسريبات الصحفية، قال الميجر جنرال إيال زامير، رئيس الأركان الإسرائيلي، أن ليس عنده ما يكفي من الجنود لشن حرب شاملة على غزّة. لكن مع أن هذا الكلام يعكس أزمة النقص في عدد المقاتلين في الجيش الإسرائيلي، إلّا أنّه يستطيع «عند الحاجة» نقل المزيد من الفرق العسكرية من المنطقة الشمالية ومن الضفة الغربية، إضافة إلى ما جرى نقله مؤخّرا.

خلفية العرائض
ينقسم المجتمع الإسرائيلي ونخبه السياسية والأمنية والثقافية بشأن الحرب وقضية المحتجزين إلى مجموعتين:

الأولى، تدعو إلى وقف الحرب وتحرير المحتجزين فورا، وتتهم نتنياهو بأنّه يواصل الحرب ويعرّض حياة المحتجزين الإسرائيليين للخطر، لأسباب تتعلق بمصلحته الشخصية والحزبية، ومحاولته التهرب من الانتخابات ولجان التحقيق. وتنطلق هذه المجموعة من أن مسألة المحتجزين لا تُحل بالمزيد من القتال العسكري، بل بالتوصل إلى اتفاق سياسي، والالتزام به وهي تتهم نتنياهو بخرق اتفاق يناير، الذي كان من المفروض أن يفضي إلى تحرير المحتجزين كافة ووقف الحرب.

الثانية ترى أن الهدف الأهم للحرب هو تقويض سلطة وقوّة حركة حماس وضمان «أمن إسرائيل»، من خلال احتلال مناطق من قطاع غزة (أقلّها الشريط الحدودي ومحور فيلادلفيا) والسيطرة الأمنية عليها، والتحضير لمشروع التهجير. وتدعي هذه المجموعة وأبواقها أن الضغط العسكري سيجبر حركة حماس على «الخضوع» للإملاءات الإسرائيلية. ولعل أهم مواقف هذه المجموعة هي، رفض قاطع لإنهاء الحرب قبل تحقيق «النصر المطلق»، وأكثر ما يمكن أن تقبل به هو هدنة مؤقتة.

 ويستدل من عشرات الاستطلاعات، التي أجريت في الأشهر الأخيرة، أن الغالبية الساحقة من الإسرائيليين (70% بالمعدّل) يؤيّدون مبدأ «تحرير جميع المحتجزين بثمن وقف الحرب». وعليه فإن الموقّعين على العرائض المختلفة ينطلقون من أنّهم يمثّلون الأغلبية، ويتحدّون نتنياهو وحكومته وأنصاره المتزمتين، وليسوا في صدام أو تعارض مع المزاج العام في الشارع الإسرائيلي.

 وعبّر الجنرال احتياط يسرائيل زيف القائد السابق لقسم العمليات في الجيش الإسرائيلي، عن هذا المزاج قائلا: «هذه حرب كاذبة ولا تهدف فعلاً إلى إعادة المخطوفين، إنما تهدف إلى احتلال قطاع غزة للمحافظة على الائتلاف الحكومي، وبالتالي، فهي ليست حرباً شرعية، إنما هي حرب بلا إجماع، وعاجلاً أم آجلاً ستفقد بقايا التأييد في الجمهور الإسرائيلي».

الجديد في العرائض الإسرائيلية، التي نشرت هذا الأسبوع، هو الأعداد الكبيرة للموقّعين، وإصدارها من قبل فئات ومجموعات تمثل غالبية أطياف المجتمع الإسرائيلي. وتطرقت بعض العرائض، ولأول مرة، إلى فظائع غزة، وأشارت إليها بتعابير مثل «قتل الأبرياء» و»آلاف الضحايا ورعب ومعاناة إنسانية على طرفي الحدود». هذا الكلام بالطبع قليل جدا ومتأخّر جدا من وجهة النظر الإنسانية، لكنّه مؤشر إلى تصدّع فعلي في جدار الانغلاق الإسرائيلي على الذات والانغماس في الجريمة بلا وخزة في المصير.

أزمة الاحتياط.
الاحتجاج الصامت عبر التهرّب من خدمة الاحتياط، لا يقل أهمية عن ضجيج المظاهرات والعرائض. فقد تبين في الأشهر الأخيرة أن نصف الذين يجري استدعاؤهم من جنود الاحتياط لا يحضرون إلى مواقعهم العسكرية، ما يجعل تشكيل الفرق العسكرية المقاتلة أمرا معقّدا وعسيرا. ومن تجليات أزمة الاحتياط أن الجيش الإسرائيلي قرر تقليص عدد قوات الاحتياط بمناطق القتال، وقلل من الاستدعاءات عقب الاحتجاجات، وتوسّع ظاهرة عدم الاستجابة لهذه الاستدعاءات. ويعود هذا التملّص من الخدمة إلى عدة أسباب:

أولا، وصل معظم الخادمين في فرق الاحتياط إلى حالة من فقدان الطاقة والقوة، وإلى حالة من الإعياء والإرهاق والتعب، بعد أشهر طويلة من الخدمة في ظروف حربية يعتبرونها «صعبة عليهم». ويشعر الكثير من ضباط وجنود الاحتياط بأنهم «أدّوا واجبهم» بما فيه الكفاية، وأن على الجيش أن يبحث عن غيرهم. لقد تعوّد المجتمع الإسرائيلي على «رغد العيش» وترسّخت قيم «الفردانية» وتراجعت كثيرا دوافع التضحية بالذات في سبيل المجموع.

ثانيا، يعاني الكثير من الاحتياطيين من تأثير الخدمة الطويلة على حالتهم الاقتصادية، حيث تضررت المصالح التجارية والصناعية لبعضهم، وتراجع دخل عدد كبير منهم واضطر بعضهم إلى إلغاء مشاريع اقتصادية بدأوا بها، أو كانوا على وشك أن يقوموا بذلك.

ثالثا، غالبية الاحتياطيين الإسرائيليين هم متزوجون ولهم عائلات وأطفال، وتكررت في الكثير من المقابلات معهم الشكوى من البعد عن العائلة ومن تحمّل الزوجة أعباء أكبر بكثير من العادة.

رابعا، فقد عدد كبير من جنود الاحتياط الثقة بالقيادة السياسية والأمنية وبقراراتها، ونسبة كبيرة منهم لم تعد تؤمن بجدوى الحرب، بل هي تعتقد أنّ استمرار الحرب هو خطأ كبير ويعرض حياة المحتجزين للخطر. ومن لا يؤمن بالحرب يجد صعوبة في المشاركة فيها.

خامسا، من أكثر ما يثير غضب الغالبية الساحقة من جنود الاحتياط هو إعفاء اليهود التوراتيين (الحريديم) من الخدمة العسكرية. وتتزايد المطالبة باتباع ما يسمّى «الإنصاف في توزيع العبء». وقد عبّر الجنرال نوعام تيبون عن ذلك في مقال له في موقع «يديعوت أحرونوت» جاء فيه: «إحدى اليدين تسعى لتمرير قانون إعفاء الحريديم، الذي سيفكك الجيش، واليد الأخرى ترسل المرة تلو الأخرى آلاف أوامر الاستدعاء (الأمر 8) للخادمين العسكريين أنفسهم، الذين ضحوا بكل شيء ويعيشون على الحافّة».

الاحتجاجات والعرائض في إسرائيل مهمة ولها تأثير وهي في تزايد مستمر، لكنّها لم تجتز عتبة التأثير الفعلي. ويستغلها نتنياهو للتحريض على معارضيه واتهامهم بالمس بالأمن القومي، وهو يستطيع تجاهلها ما دامت لا تنتشر في قاعدته الانتخابية ولا تؤثّر على حكومته وعلى ائتلافه. لكن هذه الاحتجاجات قد تتحول إلى عامل مؤثّر فعلا في بعض السيناريوهات الواقعية التي قد تحدث في ميدان القتال في غزة، أو على صعيد الحلبة الدولية والموقف الأمريكي، أو حتى تبعا لموقف عربي يرفع كلفة الحرب على إسرائيل.

مقالات مشابهة

  • الدكتوراه للباحث هاشم الشرفي من كلية الشريعة بجامعة صنعاء
  • “اليمن الجديد على طاولة السياسة الدولية: السفير عبدالآله حجر يروي قصة الصعود من تحت الركام”
  • السياسة ترفع أسهم الإقتصاد.. المبادلات التجارية بين إسبانيا والمغرب تحطم رقماً قياسياً جديداً
  • تطور جديد والثابت في السياسة متغير.. أبرز التعليقات على زيارة وزير دفاع السعودية إلى إيران
  • احتجاجات إسرائيلية تتكاثر… لكن التغيير يراوح مكانه
  • غدًا.. اجتماع لجنة السياسة النقدية وسط ترقب اقتصادي واسع.. هل تبدأ دورة التيسير؟
  • حرب العراق.. مصطلح أمريكي لانتقاد التعثر في سياسة ترامب التجارية
  • مفهوم التجديد بين التقليد والتبديد.. مشاتل التغيير (14)
  • الظل الهادئ في عاصفة السياسة.. فاضل معلة كما لم يُكتب من قبل
  • جدل الشريعة الإسلامية يتجدد في برلمان الأردن.. وتحريض واسع ضد الإخوان