إفيه يكتبه روبير الفارس: شُلت يدي
تاريخ النشر: 18th, February 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تظاهر الرجل الذي كان يحطم الأصنام في فيلم "فجر الإسلام"، بالشلل وصرخ قائلًا: "شُلت يدي" ليُغِيظ الكفار، لكنه سرعان ما عاد وأخرج لهم لسانه، لأن يده سليمة، واستمر في تكسير الأصنام. وفيلم "فجر الإسلام "من إنتاج عام 1971 وإخراج صلاح أبو سيف. ورغم مرور كل هذه السنوات، فإن إفيه "شُلت يدي" ما زال حاضرًا في الوعي المجتمعي والفكري.
لعل ذلك يرجع إلى أن حرفة تشييد الأصنام ما زالت قائمة، وجمهورها بالملايين. قد تكون كلمة "أصنام" غير مستخدمة كمفردة، لكن بديلها موجود: رموز وعلامات، شيوخ وقديسون، عظماء وُضعت حول حياتهم لافتات "ممنوع الاقتراب أو التصوير"، باعتبارهم خطوطًا حمراء فوق البشر. وكلما اقترب أحدٌ منهم محاولًا تقديم قراءة موضوعية لحياتهم، ذاكرًا سلبياتهم وإيجابياتهم في سياقها التاريخي، ثارت عليه جماهير المعجبين، لكسر ذراعه، وحرق يده، وتشويهه معنويًا. فهذه أوثانٌ ليس مطلوبًا سوى تقديسها، ومدحها، وإشعال البخور لتمجيدها ليل نهار.
يبدو أن هناك إرثًا فرعونيًا مغروسًا في اللاوعي، ومدسوسا في الدم يدفع نحو إقامة آلهة صغرى تُعمي البصيرة عن رؤية بشريتها، ولا علاج له سوى المزيد من الصدمات. فمثلًا، رغم الاحتفاء الشديد بوطنية مصطفى كامل، ما المانع من ذكر حقائق مثل أن مطالبه بإنهاء الاحتلال البريطاني تزامنت مع مطالبته ببقاء الاحتلال العثماني؟ وأن جريدته "اللواء" كانت تشعل الفتنة الطائفية بين المسيحيين والمسلمين؟
وأن الزعيم الشعبي الكبير سعد زغلول، رمز ثورة 1919 الخالدة، كان يلعب القمار؟ وأن جمال عبد الناصر، أول مصري يحكم مصر منذ قرون، وباني السد العالي، كان مسؤولًا عن هزيمة 1967 التي ما زالت آثارها قائمة حتى اليوم؟ وأن السادات، بطل الحرب والسلام، نفخ في نار الصحوة، وغذَّى الجماعات الأصولية الإرهابية التي التهمته، وما زالت أسنانها تنهش العقول والقلوب حتى الآن؟
وأن إمام الدعاة والمفسر الشهير الشيخ الشعراوي أعلن أنه سجد لله شكرًا على الهزيمة الكبرى التي راح ضحيتها آلاف المسلمين؟
ومؤخرًا، صدر كتاب "الأربعة الكبار: قصة الصراع العنيف حول كرسي البطريرك في القرن العشرين" للمؤرخ الكنسي فؤاد نجيب، الذي رحل عقب صدوره بنحو شهر. وثَّق فيه، كشاهد عيان، وقائع حقيقية حول البابا شنودة، والأب متى المسكين، والأنبا أغريغوريوس، والأنبا صموئيل. وهي وقائع تتفق مع ما جاء في السيرة الذاتية للأنبا أغريغوريوس، وأيضًا مع مذكرات الشاهد الأمين الدكتور نصحي عبد الشهيد.
ورغم أن هذه الوقائع قريبة، وثِمارها وأشواكها ما زالت على الشجر، فإن عبَدةَ البشر ينكرون كل ما يمس آلهتهم البشرية، رغم أنه واضح كالشمس. ومما وثَّقه الراحل في كتابه عن البابا قوله: "كان يختار لسكرتاريته شخصيات في غاية السوء ليحققوا له أهدافًا شاذة وخطرة. لقد بلغ الأمر بالأنبا بيشوي أن صار داعمًا لجماعة الإخوان المسلمين، وطالب المصريين بوضع ثقتهم فيهم، وكان يُثني على وطنية ونزاهة جماعة الإخوان المسلمين المحظورة المتطرفة، ويرجو لفتياتنا أن يتمثلن بهن في ارتداء الحجاب. أما الأنبا بولا، فقد كان يشجع الحزب السلفي، وقال عنهم إنهم فصيل وطني حتى النخاع".
في الفيلم، استمر الرجل في تكسير الأصنام، أما في واقعنا، فالجماهير تدعو عليه بالشلل.
إفيه قبل الوداعلا مَساسَ! لا مَساسَ!
تعيشُ أنت، يا حَجّ!( سمير غانم فيلم يارب ولد)
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: فجر الإسلام إفيه يكتبه روبير الفارس ما زالت
إقرأ أيضاً:
الهند وأوقاف المسلمين.. انتهاك لحقوق الأقليات
عباس المسكري
في الديمقراطيات الحقيقية، لا يُقاس عدل القانون فقط بما ينص عليه؛ بل أيضًا بالسياق الذي يصدر فيه، والآثار التي يتركها على المكونات المختلفة للمجتمع، ومن هذا المنطلق، يثير التعديل الجديد لقانون الأوقاف في الهند مخاوف مشروعة وعميقة لدى المسلمين، لا لأنه ينظم إدارة الأملاك فحسب؛ بل لأنه يُدخلها في إطار وصاية قد تفرغها من معناها الأصلي وتحوّلها إلى أداة خاضعة لمركز سياسي لا يُمثّلها.
الأوقاف الإسلامية في الهند ليست مجرد ممتلكات تُدار؛ بل هي امتداد لهوية تاريخية وثقافية ودينية، نُسجت عبر قرون من التفاعل والعيش المشترك، وارتبطت بأنشطة التعليم والرعاية الاجتماعية والدينية، وهذه المؤسسات كانت دائمًا تعبيرًا عن قدرة المجتمع المسلم على تنظيم شؤونه وممارسة مسؤولياته الخيرية والدينية دون الحاجة إلى تدخل الدولة.
لذلك، فإنَّ نقل الإشراف على هذه الممتلكات من داخل المجتمع إلى جهة حكومية لا تعبّر عن طبيعته الثقافية والدينية، يُنظر إليه بحقٍ كخطوة تفتقر إلى الحساسية السياسية وتخالف روح التعددية التي يُفترض أن تقوم عليها الهند الحديثة، وتبرير الحكومة بأنَّ التعديل يستهدف تعزيز الشفافية ليس كافيًا؛ بل وربما يفتقر إلى المصداقية، عندما نضعه في سياق سياسي أوسع يتّسم بتقليص متزايد لمساحات التعبير الذاتي للمسلمين، وتزايد واضح في مركزية السُلطة وغياب التمثيل المُتوازِن للأقليات في اتخاذ القرار.
لقد زاد في تعميق المخاوف المتعلقة بتعديل قانون الأوقاف في الهند، السياق السياسي الذي تتخذه الحكومة الحالية بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، والتي تُعد في نظر كثيرين حكومة يمينية متشددة في مواقفها تجاه الأقليات، خاصة المسلمين، فعلى الرغم من أن التعديل جاء تحت شعار تعزيز الشفافية، فإنَّ اشتراط تعيين مواطن من الطائفة الهندوسية على رأس إدارة أوقاف المُسلمين يُنظر إليه كإجراء يستهدف تقويض الهوية الثقافية والدينية للمسلمين، وهذا التعيين يُعد بمثابة تجاوز فاضح لحقوق المسلمين في إدارة شؤونهم الدينية والاجتماعية، مما يعزز الشكوك حول نوايا الحكومة في تحويل الأوقاف الإسلامية إلى أداة لفرض السيطرة الثقافية والدينية، بدلًا من تعزيز التعددية واحترام الحقوق المتساوية لجميع الطوائف.
الشفافية لا تُفرض من أعلى؛ بل تُبنى من داخل المؤسسات، بالشراكة، وبتمكين المجتمعات من إصلاح ذاتها، لا بمصادرة حقها في إدارة شؤونها، وما يزيد من عمق الإشكال أن هذا القانون أُقر رغم الاعتراضات السياسية الواسعة، ورغم التحفظات التي عبّر عنها ممثلو الطائفة المُسلمة وغيرهم من الأطياف السياسية، وهذا التمرير السريع يعكس خللًا في آلية التشريع حين يتعلق الأمر بحقوق الأقليات، وكأنَّ أصواتهم ليست معتبرة بما يكفي للتأثير في القرار النهائي، ما يعيد إنتاج شعور الإقصاء والتهميش.
إن أي صمت مستقبلي من قبل المنظمات الإسلامية والحقوقية الدولية تجاه ما تسعى إليه حكومة مودي اليمينية، لن يكون مبررًا؛ بل قد يُفهم كتواطؤ يشجّع على المضي في مزيد من الانتهاكات. ما يتم الترويج له في الهند اليوم ليس مجرد تعديل قانوني؛ بل توجه سلطوي خطير يمكن أن يتحوّل إلى نموذج عالمي في قمع الأقليات المسلمة تحت غطاء "الإصلاح" و"الشفافية". وغياب ردّ فعل دولي حازم، ربما يُشكّل سابقة خطيرة قد تُغري حكومات أخرى بانتهاج المسار نفسه، مما يُهدد مستقبل الحقوق الدينية والثقافية للمسلمين في عدد من الدول، والسكوت في هذه المرحلة لن يُقرأ إلا كضعف، أو رضًا ضمنيًا عن نهج قمعي يتسع نطاقه.
إنَّ الدفاع عن استقلالية الأوقاف ليس قضية فقهية ولا إدارية فقط؛ بل هو دفاع عن الحق في التنظيم الذاتي، عن التعددية الحقيقية، عن توازن العلاقة بين الدولة ومواطنيها من خلفيات مختلفة. فحين تفرض الأغلبية رؤيتها على مؤسسات الأقلية، دون حوار حقيقي، فإنَّ ذلك لا يحقق العدالة؛ بل يرسّخ الهيمنة، ويغذي الانقسام.
الهند اليوم أمام لحظة فارقة، ليس فقط في مسار تشريعي؛ بل في اختبار جدي لمدى التزامها بالمبادئ التي قامت عليها بعد الاستقلال، فإمَّا أن تُثبت أنها قادرة على احتضان تنوعها بمسؤولية وإنصاف، أو تنزلق إلى نموذج تُهيمن فيه رؤية واحدة على حساب البقية، وتُدار فيه الدولة بمنطق الوصاية لا الشراكة.