حكاية هوية تتجدد لتعانق المجد
تاريخ النشر: 18th, February 2025 GMT
شهد بنت محمد القطيطية
منذ طفولتي، تشبعتُ بحب هذه الأرض، أرض الجبال الراسخة والبحر المتلاطم بلونه اللازوردي، ولم يكن ارتباطي بها مجرد مكان عشت فيه؛ بل هوية تسري في دمي، وكنت أجري في الشوارع، ألعب بين النخيل، وأستنشق عَبير التراب بعد المطر. كبرت وأنا أحمل في داخلي وعًدًا غير معلن: هذه الأرض تسكننا كما نسكنها، وهويتنا ليست مجرد تاريخ نقرأه؛ بل حياة نعيشها ونرويها جيلاً بعد جيل.
لم يكن العُماني يومًا مجرد اسم في كتب التاريخ؛ بل هو أسطورة حية ترُوى عبر الأجيال. في طفولتي، كانت جدتي هي مرشدتي إلى تاريخنا. كل حكاية كانت تأخذني إلى زمن بعيد؛ حيث رجال كأشجار اللبان العتيقة، صامدون أمام البحر والأمواج العاتية، ونساء كالنخيل الممتد في الأرض، ثابتات وجذورهن تغذي تاريخنا. تلك الحكايات لم تكن مجرد كلمات؛ بل كانت جزءًا من هويتنا، تعلمنا أن التاريخ ليس شيئاً بعيًدًا؛ بل هو شيء نعيشه في تفاصيلنا اليومية ونحمله في داخلنا.
يمكن رؤية بصمة عُمان واضحة في كل تفاصيل حياتنا.. في القهوة التي تقُدَّم في المجالس، في الزخارف المطرزة على ملابسنا، في رائحة اللبان التي تعبق في الأسواق، وحتى في النخيل التي تمتد جذورها في الأرض كما تمتد هويتنا في قلوبنا. ليست هذه مجرد عادات وتقاليد؛ بل هي انعكاس لهويتنا التي تتجسد في سلوكنا، ملابسنا، وأطعمتنا، وتشكل جزءًا أصيلًا من قصصنا التي ننقلها من جيل إلى جيل.
ومع تغير الزمن، لم تتوقف الحكايات؛ بل وجدت طرقًا جديدة للرواية. اليوم، أرى أبناء جيلي يحملون هذه القصص إلى الإنترنت، يشاركون صور أجدادهم، يكتبون عن الماضي بحب، ويعيدون إحياء التراث العُماني بطرق حديثة. لم يعد الماضي مجرد ذكرى في الكتب؛ بل أصبح محتوى رقميًا يُنشر في منصات التواصل، يتفاعل معه الناس، ويتناقلونه ليبقى حاضرًا في وجداننا. التكنولوجيا لم تضعف ارتباطنا بالهوية؛ بل أعطتنا أدوات جديدة للحفاظ عليها ونقلها للأجيال القادمة.
مع تطور التقنيات، قد تتغير أساليب روايتنا لقصصنا، لكن جوهر الهوية العُمانية سيبقى. ربما في المستقبل سنروي قصصنا عبر تقنيات الواقع الافتراضي أو الذكاء الاصطناعي، لكن السؤال الحقيقي هو: هل ستؤثر هذه التطورات على ارتباطنا بأرضنا وقيمنا؟ أعتقد أن العُماني سيجد دائمًا طريقته في الحفاظ على هويته، تمامًا كما فعل أسلافه عندما انتقلوا من الحكايات الشفهية إلى التدوين، ومن الرسائل الورقية إلى المحتوى الرقمي.
جدتي كانت تردد دائمًا: "اللي يعرف أصله ما يضيع حتى في غربته". لم أفهم معنى هذه العبارة تمامًا عندما كنت صغيرة، لكنني اليوم أدركُ كل كلمة فيها. الهوية ليست شيئاً نمتلكه؛ بل شيء نحياه، نتمسك به، ونجدده مع الزمن. عُمان ليست مجرد وطن، إنها جزء منا، نروي قصصها بطرق مختلفة، لكنها دائمًا تعيش فينا، تتجدد معنا، وتبقى نابضة في قلوبنا.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الخطة المصرية هندسة تحافظ على هوية فلسطين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
بينما تتصاعد ردود الفعل السياسية في مشارق الأرض ومغاربها رافضةً ما صرح به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول "نقل سكان غزة إلى مصر والأردن"، برزت الخطة المصرية لإعادة إعمار القطاع كبديل عملي وإنساني، لتجسد الخطة المصرية رفضًا قاطعًا لمحاولات طمس الحقوق الفلسطينية، كما تعكس في الوقت ذاته رؤية استراتيجية لتحقيق الاستقرار في المنطقة.
الخطة، التي بدأت ملامحها في الظهور للعلن حظيت بدعم عربي وأوروبي واسع، ويمكن تفسير هذا الدعم بأنه ليس مجرد دعم لمشروع إعادة البناء، ولكن لكون هذه الخطة رسالة سياسية عالية الصوت تؤكد تمسك مصر بدورها التاريخي كحامية للقضية الفلسطينية.
أشارت الملامح الأولى للخطة إلى أن جوهر هندسة الإعمار هو حفظ الكرامة العربية، كما أفاد المتاح من تلك الملامح أن الرؤية المصرية تعتمد على إعادة إعمار غزة دون تهجير سكانها، عبر خطة زمنية مُحكمة تمتد من 3 إلى 5 سنوات، وتنقسم إلى ثلاث مراحل رئيسية، الأولى وهي ما أطلق عليها مرحلة الطوارئ وهدفها نقل المدنيين إلى مناطق آمنة داخل القطاع خلال 6 أشهر، مع توفير إغاثة إنسانية عاجلة، أما المرحلة الثانية فهي تهتم بإزالة الركام تبدأ في الشهر السابع تحت إشراف شركات دولية متخصصة، لتدخل المرحلة الثالثة وهي مرحلة البناء الشامل وفيها يتم تشييد الوحدات السكنية والمستشفيات والمدارس والمقدر لهذه المرحلة أن تتم خلال 18 شهرًا، بدعم من 24 شركة عالمية و18 مكتبًا استشاريًا.
التقديرات الأولية تشير إلى أن تكلفة الخطة سوف تبلغ نحو27 مليار دولار، مع توقع زيادتها لاحقًا لتشمل مشروعات بنية تحتية متطورة، واللافت للانتباه هو حرص مصر على أن تُدار عملية الإعمار بالشراكة مع السلطة الفلسطينية، عبر مجلس استشاري يضم خبراء فلسطينيين وعربًا ودوليين، تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية.
وطالما ظهرت ملامح الخطة هندسياً ومالياً وإدارياً، نستطيع الآن أن نتذكر ما قاله الرئيس عبدالفتاح السيسي في أول تعقيب له على خطة ترامب حيث قال نصاً "تهجير الفلسطينيين ظلم.. ومصر لن تكون شريكًا فيه"، لم تتوقف تصريحات الرئيس الرافضة عند هذا الحد ولكنها تصاعدت تدريجياً بتأكيده في أكثر من موقف أن "القضية الفلسطينية خط أحمر" كما قال بوضوح ما بعده وضوح في أحد المؤتمرات الصحفية "ترحيل الفلسطينيين من غزة جريمة إنسانية، ولن نسمح بتحويل مصر إلى نقطة عبور لتصفية القضية"، وبالفعل تنجح مصر في المواجهة الصعبة ويتحقق ما أعلنه رئيسها من رفض لخطة ترامب، نزيد على ذلك ما امتازت به مصر من وعي مبكر لمصر لإحباط الخطط المستترة التي يلجأ لها الجانب الإسرائيلي لتنفيذ مخطط التهجير عندما أعلن الجانب المصري أنه "منذ اليوم الأول حذرنا من أن الهدف قد يكون جعل الحياة في غزة جحيمًا لا يُطاق لدفع السكان إلى الهرب"، وفي إدراك لمجمل الأزمة أظهرت مصر عمق رؤيتها ويقينها أن مثل هذه السيناريوهات تهدد الأمن القومي المصري والعربي.
وحتى يتأكد المتابع من امتلاك مصر لرؤية شاملة لا تتوقف عند حدود مواجهة التهجير بل تذهب إلى الأمام وذلك بالإعلان المتكرر أن الحل الجذري يكمن في "إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية"، ونستطيع القول أيضاً أن المواقف المصرية لم تكن للاستهلاك المحلي ولكنها مواقف ذهبت إلى دعوة المجتمع الدولي إلى التركيز على مبدأ الدولتين بدلًا من الترويج لحلول وهمية تُغذي الصراع.
المواقف السياسية المصرية التي تتزامن مع الإعلان عن خطة إعادة الإعمار تمت في ظل دبلوماسية مصرية نشطة بشكل استثنائي هدفها الرئيسي هو تأسيس تحالف دولي ضد التهجير، ولذلك رصدنا تحرك الخارجية المصرية بوتيرة مكثفة لتعزيز الموقف المصري، حيث أجرى وزير الخارجية بدر عبد العاطي سلسلة اتصالات مع نظرائه الأوروبيين والعرب، مؤكدًا في الاتصالات واللقاءات المباشرة على أن "غزة أرض فلسطينية، وسكانها جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني"، وفي رسالة واضحة لواشنطن، أبلغ عبد العاطي نظيره الأمريكي ماركو روبيو أن مصر لن تقبل بأي حلول تُفرغ القضية الفلسطينية من مضمونها، مشددًا على ضرورة تسريع إعادة الإعمار مع ضمان بقاء السكان.
وبالفعل، نجحت الدبلوماسية المصرية في حشد تأييد أوروبي لخطة مصر لإعادة إعمار غزة، حيث أعلن الاتحاد الأوروبي عن مشاركته في التمويل، ليس هذا فقط بل يقول البعض ولم نتأكد من قولهم أن مصر تعمل على إقناع الإدارة الأمريكية بدعم خطة الإعمار، كبديل واقعي عن أفكار التهجير المرفوضة.
على الجانب العربي، فقد توافقت الدول العربية على تأسيس صندوق للتمويل وعقد مؤتمر قمة طارئ، ومن ذلك نفهم أن المواقف العربية لم تكن مجرد بيانات دعم تقليدية، بل تحولت إلى إجراءات ملموسة، السعودية على سبيل المثال استضافت قمة خماسية (مصر، السعودية، الإمارات، قطر، الأردن) لصياغة آلية تمويل مشتركة، أما قطر والإمارات فقد تعهدتا بضخ استثمارات في مشروعات الإسكان والطاقة داخل غزة، وبالتوازي، دعت الجامعة العربية إلى تشكيل "صندوق عربي-إسلامي" لإعمار القطاع، بمشاركة مؤسسات التمويل الدولية.
يبقى على طرف اللسان تساؤل واحد، أجد أنه من المهم طرحه وهو هل توجد تحديات تواجه الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة؟ الإجابة هي نعم بالطبع المشاريع الكبرى لا بد وأن تواجهها تحديات كبرى لذلك نرى أنه من الأجدى طرح هذه التحديات لتكون على الطاولة طالما أن الخطة مازالت في بدايتها، من هذه التحديات مثلاً أن الانقسام الفلسطيني مازال على حاله والمصالحة بين فتح وحماس متعثرة وهو ما قد يؤدي إلى ضعف آلية تنسيق الإعمار، أما التحدي الثاني فهو التمويل لأن الاعتماد الأساسي هنا يرتبط بوعود الدول المانحة التي قد تتباطأ في ظل الأزمات الاقتصادية العالمية وفي حالة كتلك من الممكن أن يتأخر تنفيذ بعض المشروعات، أما التحدي الواضح فهو الضغط الإسرائيلي فمن الممكن أن تعمل إسرائيل على عرقلة دخول مواد البناء تحت ذريعة "الاستخدام المزدوج" بمعنى العسكري والمدني.
لهذا كله من المهم صيانة الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة ومراجعتها مع نهاية كل مرحلة وتطويرها وفق المستجدات بتحديثها وذلك لسبب بسيط هو أن الخطة المصرية ليست مجرد مشروع هندسي، بل هي معركة سياسية ضد محو الهوية الفلسطينية.